دراسات علمیة - 8 : مجلة نصف سنوية تعنى بالأبحاث التخصصية في الحوزة العلمية

هویة الکتاب

دراسات علمیة

مجلة نصف سنوية تعنى بالأبحاث التخصصية في الحوزة العلمية

تصدر عن المدرسة العلمية (الآخوند الصغرى) في النجف الأشرف

العدد الثامن

صفر الخير 1437 ﻫ

ص: 1

اشارة

رقم الايداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1614 لسنة 2011

ص: 2

﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾

التوبة 122

ص: 3

ص: 4

الأسس المعتمدة للنشر

1. ترحّب المجلَّة بإسهامات الباحثين الأفاضل في مختلف المجالات التي تهم طالب الأبحاث العليا في الحوزة العلميّة, من الفقه والأُصول والرجال والحديث ونحوها.

2. يُشترط في المادّة المُراد نشرها أُمور:

أ. أنْ تكون مستوفية لأُصول البحث العلمي على مختلف المستويات (الفنيّة والعلميّة), من المنهجيّة والتوثيق ونحوهما.

ب. أنْ تكون الأبحاث مكتوبة بخطّ واضح أو (منضَّدة).

ت. أنْ توضع الهوامش في أسفل الصفحة.

ث. أنْ يتراوح حجم البحث بين (12) الى (60) صفحة من القطع الوزيري بخطٍ متوسط الحجم, وما يزيد على ذلك يمكن جعله في حلقتين أو أكثر حسب نظر المجلَّة, شريطة استلام البحث كاملاً.

ج. أنْ لا يكون البحث قد نُشر أو أُرسل للنشر في مكان آخر.

ح. أنْ يُذيَّلَ البحث بذكر المصادر التي اعتمدها الباحث.

3. يخضع البحث لمراجعة هيئة استشارية (علميَّة), ولا يُعاد إلى صاحبه سواء أنُشر أم لم يُنشر.

4. للمجلَّة حق إعادة نشر البحوث التي نشرتها.

5. يخضع ترتيب البحوث المنشورة في المجلَّة لاعتبارات فنيّة لا علاقة لها بمكانة الكاتب أو أهميّة الموضوع.

6. ما يُنشر في المجلَّة لا يعدو كونه مطارحات علميّة صرفة, ولا يُعبّر بالضرورة عن رأي المجلَّة.محتويات العدد

ص: 5

ص: 6

محتويات العدد

كلمة العدد

إدارة المجلة...................................................................................... 9

طرق إلغاء خصوصية المورد عند الوحيد البهبهاني (قدس سره)

الشيخ وليد العامري (دام عزه)..................................................................... 13

نجاسة الخمر / 2

الشيخ علي العقيلي (دام عزه).................................................................... 75

حجية الاطمئنان / 2

الشيخ أمجد رياض (دام عزه)...................................................................... 153

رواية السراد عن ثابت بن دينار

السيد غيث شبر (دام عزه).......................................................................... 207

تحقيق حال جابر الجعفي / 2

الشيخ محمد الجعفري (دام عزه)................................................................ 243

تعقيبات حول وثاقة رواة كامل الزيارات

الشيخ بشار أبو كلل (دام عزه).................................................................319

رسالة اللباس المشكوك للشيخ محمد إسماعيل المحلاتي (قدس سره)

تحقيق: مجلة دراسات علمية............................................................ 383

ص: 7

ص: 8

كلمة العدد

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وبعد, فإنَّ الأمّة التي يُراد لها هداية الناس والشهادة على كلمة الله وميثاقه في الأرض، تلك التي تحافظ على العناصر الحيويّة للعلم، وتبقى حاضرة في أروقته، ولها يَدٌ في منجزاته، ويكون عندها أيضاً حلول مشاكل العصر، وعند علمائها البصيرة اللازمة لإثبات الطريق الأفضل لتمثيل مقاصد الشريعة والحكمة في أفعال وتوجّهات الإنسان الفرديّة والاجتماعيّة.

ومن مهمّات عناصر العلم تلك الاستمرار في البحث العلميّ، وإعادة تمثيل القواعد الكلّيّة والتشريعات الإلهيّة المستفادة من الكتاب والسُنّة في تنوّعات وتصريفات الأفعال والنشاط الإنسانيّ، لتكون مفهومة لأبناء العصر ومستدَلَّاً عليها بوضوح من منابع مآخذها ومصادر تشريعها.

إنَّ مسألة من مسائل الفقه مثلاً قد لا يكون حكمها واضحاً في المدرك والمقصد ما لم يتمّ تحديد موضوعها جيداً وفكّ التباسه وتداخله مع موضوعات أخرى بسبب التطوّر الزمنيّ أو التباعد عن عصر النصّ، وتلك مهمّة البحث العلميّ، خصوصاً مع تطوّر أدواته ومنها علم الأصول.

بل إنَّ جملة من التطوّرات الأخرى في الأدوات كأساليب الاستقراء بعد توفّر نسخ محقّقة ومنقّحة، والمقارنة بين مصادر النصوص, وكذلك ما يتوفّر من البحث الآلي الحديث الإلكتروني الذي يعالج ملايين البيانات التراثيّة أو الحديثة التي تمثّل قوام الخلفيّات العلميّة لكثير من المسائل، كلُّ ذلك يساعد في تنقيحٍ أكثر دقةً للمسألة الفقهيّة

ص: 9

ويجعلها أكثر ملائَمةً لأهدافها التي من أجلها شُرِّعت، كما أنَّ الإقبال على الثقافات والعلوم الأخرى ينبّه الفقيه أو الباحث إلى وسائل وأدلّة تجعل من أدواته أكثر إقناعاً وقوّةً من حيث الجانب الإثباتي للأدلّة لتكون بذلك مسائل الشرع أكثر ملائَمةً وواقعيّةً لعصرٍ عُرف بتوسّع أدواته وبناء إدراكاته وقناعاته على وسائل أكثر عمقاً وأوضح دلالةً.

ونعتقد أنَّ النظر في كتاب استدلالي كُتب قبل ثلاثة قرون أو أكثر ومقارنته بآخر كُتب متأخراً مع العناية بتلك العناصر التي ذكرناها آنفاً، تُظهِر بشكلٍ واضحٍ الفرق بينهما في تصوّرات المسألة أو طريقة إثباتها ونوعيّة ذلك الإثبات في الحكم.

مع أنَّنا نتكلَّم في مسائل غير مستحدَثة الموضوعات. وهذا ثمرة واضحة من ثمرات تطوّر البحث العلمي.

وما زال كثيرٌ من التطوّر في بُنية المسألة الفقهيّة أو الأصوليّة كامناً في طريقة تصوّر مبادئ الأحكام, أو الجو والثقافة التي تؤثّر فيها العلوم الأخرى فتؤثّر بدورها في كشف أبعاد تلك المبادئ وعمقها.

كما أنَّه ليس غريباً - إذا راجعنا فهرساً لمسائل الفقهاء في رسائلهم العمليّة فنكتشف عدداً ليس بالقليل من المسائل التي ليس لها ذكر أو تدوين في الكتب الفقهيّة المعتمدة المتقدِّمة عليها - إذا عرفنا أنَّ القفزات في أداء العلوم الأخرى أو أسلوب الحياة الذي يمارسه الإنسان العصري قد ألقت بظلالها على علم الفقه والتشريع ليستجيب بجملة من البحوث أثمرت مسائل كثيرة مضافة في أبواب الفقه، لم يكن بالإمكان إغفالها، ولا كانت المسائل الشرعيّة التقليديّة متكفّلة بالإجابة عن التكاليف والمواقف التي تفرضها تلك التغيرات.

ونفس الشيء تقريباً ينطبق على علم الأصول، وإنْ اختلفت طريقة التأثير على تجدّد مسائله. ونريد أنْ نشير هنا إلى أنَّ هذا التغيير في المسائل بنفسه وأسبابَه موضوعٌ يستحق

ص: 10

أنْ يبذل الباحثون من أجله جهداً في تجليته, وقراءة طريق حركته في التأثير على مسائل العلمين، والتأمّل في أسباب حصوله, فيكون نوعاً من البحوث التاريخيّة للعلم ينفع في تمييز الثابت والمتغيّر في العلوم الدينيّة، وبالتالي الكشف عن الثابت والمتغيّر في النظرة الدينيّة للحياة والنشاط البشري.

هذه هي تصوراتنا كمجلَّة تُعنى بالبحث العلميّ التخصّصيّ في العلوم العائدة إلى الشريعة، والفوائد المترتبة على ذلك البحث وإحيائه بصورة عامّة، وإنْ كان عمل المجلَّة لا يقتصر على ذلك، فإنَّها تعتني أيضاً بالتراث الذي كتبته أيدي العلماء وظلّ حبيس الطروس والدفاتر ممّا يستحق التحقيق والإخراج ليضيف رصيداً إلى التراث العلميّ وإلى الباحث الحديث الذي يشكّل ذلك التراث أحد أدواته، لذلك تجد في كلّ عدد مخطوطة مستحقّة يخرجها أحد الأفاضل بحُلَّة التحقيق.

وفي الختام نشكر كلَّ الأفاضل الذين ساهموا بجهودهم المباركة في إثراء بحوث المجلَّة، وكذلك العاملون على إخراجها بالشكل المرضيّ من كلِّ الجهات، وندعو الطلبة الأفاضل في الحوزة العلميّة إلى المساهمة بشكل أكثر فاعلية في مثل هذه المظاهرة العلميّة والنشاط الفكري لنفض غبار الركود، ولنكشف أيضاً عن استيعاب الفقه الإماميّ للمسائل المتولِّدة من التطوّرات في كلّ مناحي الحياة واستحقاقه ليكون شاهد حقٍ على واقعيّة الرسالة الإسلاميّة.

إدارة المجلَّة

25 صفر الخير 1437 ﻫ

ص: 11

ص: 12

طرق إلغاء خصوصية المورد عند الوحيد البهبهاني (رحمة الله) - الشيخ وليد العامري (دام عزه)

اشارة

يُحرم التعدّي عن النصوص جزماً, ويُحرم عدم التعدّي أيضاً جزماً، ويُحرم مخالفة النصوص جزماً, ويُحرم عدم المخالفة جزماً؛ فلا بُدَّ للمجتهد من معرفة المقامين وتمييزهما ومعرفة دليل التعدّي حتّى يكون مجتهداً..

وعدم الفرق بين المقامين أعظم خطراً على المجتهد، فلو كان أحد لم يفرّق ولم يعرف ما به الفرق يُخرِّب في الدين تخريبات كثيرة من أوَّل الفقه إلى آخره.

(الوحيد البهبهاني)

ص: 13

ص: 14

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد, فإنَّ التعدّي عن مورد النصّ وإلغاء خصوصيته من الأبحاث التي حظيت باهتمام الوحيد البهبهاني (رحمة الله) في مختلف كتبه. فتراه يبحث أهمية وخطورة هذا المبحث تارةً، وطرقه وأسبابه تارةً أُخرى، هذا بالإضافة إلى وضوح تطبيقه لموارد التعدّي في كتبه الفقهية المختلفة.

كما أنَّه (رحمة الله) بحث هذا العنوان بصورة مستقلّة في الفائدة (29) من الفوائد الحائرية(1) - القديمة - وفي ضمن الفائدة (11)(2)

أيضاً، وكذلك بحثه في شرحه لمقدّمة المفاتيح في ضمن كتابه مصابيح الظلام(3)، فضلاً على الإشارة إليه في موارد متفرقة خصوصاً في كتابه الفوائد الحائرية.

قال (رحمة الله) في مقام بيان أهمية هذا البحث في الفائدة (29) من الفوائد الحائرية:

(قد عرفت: أنَّه لا بُدَّ للمجتهد من مراعاة العلوم اللغوية، والعرف العامّ والخاصّ، وأنَّه لا يجوز التعدّي عن مدلول النصّ أصلاً ورأساً، ولا مخالفته مطلقاً، وأنَّ من تعدّى أو خالف بقدر ذرّة أو عشر معشار رأس شعرة يكون حاكماً بغير ما أنزل الله، ومفترياً على الله تعالى ومتعدّياً حدود الله وعاملاً بالقياس، هالكاً ومهلكاً للناس، ومبتدعاً بدعاً كثيرة في الدين، ومضيّعاً سُنّة خير المرسلين.. لكن مع ذلك ترى أنَّه من

ص: 15


1- الفوائد الحائرية: 289.
2- الفوائد الحائرية: 145.
3- مصابيح الظلام: 1/ 32 - 38.

أوَّل الفقه إلى آخره في كلّ نصّ يقع التعدّي والمخالفة بلا شبهة، بل لا يجوز عدم التعدّي، ولو لم نتعدَّ لحكمنا بغير ما أنزل الله وافترينا على الله وشرّعنا في الدين إلى غير ذلك.. - إلى أنْ قال -.. فظهر ممّا ذكرنا أنَّه يحرم التعدّي عن النصوص جزماً ويحرم عدم التعدّي أيضاً جزماً، ويحرم مخالفة النصوص جزماً ويحرم عدم المخالفة جزماً؛ فلابُدَّ للمجتهد من معرفة المقامين وتمييزهما ومعرفة دليل التعدّي حتّى يكون مجتهداً.. وعدم الفرق بين المقامين أعظم خطراً على المجتهد، فلو كان أحد لم يفرّق ولم يعرف ما به الفرق يُخرِّب في الدين تخريبات كثيرة من أوَّل الفقه إلى آخره)(1).

وسيقع البحث في بيان تلك الطرق وأسباب التعدّي التي ذكرها الوحيد (رحمة الله) وفي ضابطة كل طريق.

وفي البدء نذكر نصّين للوحيد (رحمة الله)، حصر فيهما تلك الطرق:

الأوَّل: ما ذكره (رحمة الله) في شرحه لمقدّمة المفاتيح، حيث قال:

(ثُمَّ اعلم أنَّ التعدّي إمَّا على سبيل اليقين أو الظنّ.

والأوَّل: إمَّا من العقل كعدم التكليف بما لا يطاق، واجتماع النقيضين والضدّين، والترجيح من غير مرجّح، وأنَّ نوع الإنسان بخلقة واحدة، كما في أمرهم (علیهم السلام) امرأة معيّنة لا تدري دمها من العذرة أو الحيض، أنْ تدخل قطنة.. إلى آخره.

أو النقل: وهو منحصر في الإجماع البسيط أو المركّب، إذ لم يوجد نصّ يكون قطعي السند والمتن والدلالة خالياً عن جميع المعارضات، أو قطعي العلاج، بل قال المحقّقون: لا يمكن إثبات حكم من نصّ إلّا بمعونة الإجماع، وهذا ظاهر على مَن تفطّن بما أشرنا إليه من المتعدّيات وتأمّل في دلالة النصوص على الحكم، مع قطع النظر عن النقديات،

ص: 16


1- الفوائد الحائرية: 289 - 293.

سيّما مع ملاحظة ما دلّ على حجّية ظنون المجتهد.

والثاني: إمَّا من القياس بطريق أولى، والشيعة مجتمعة على حجّيته. نعم، نزاعهم في طريقها، والحقّ أنَّه الدلالة الالتزامية، فلو لم يصل إلى هذا الحدّ لا يكون حجّة، ولذا ورد في بعض الأخبار المنع عن العمل بعد ما قال السائل: نقيسه بأحسنه، هذا وربّما تكون الدلالة يقينية.

وإمَّا من المنصوص العلّة، وعندهم في حجّيته خلاف، والحقّ الحجّية، للدلالة العرفية، وهذا أعمّ من أن تكون العلّة مذكورة صريحاً، أو يذكر أمر في مقام التعليل.

وإمَّا من القاعدة الثابتة المسلّمة، مثل البيّنة على المدّعي واليمين على مَن أنكر، وأنَّ النكول موجب للحكم، أو القاعدة الواردة في خبر واحد مثل: (إذا قصّرت أفطرت، وإذا أفطرت قصّرت).

وإمَّا من اتحاد طريق المسألتين، مثل: الحكم بتحريم ذات البعل بالزنا بها بسبب تحريم المعتدّة بالعدّة الرجعية بالزنا بها، للنصّ على أنَّها بحكم الزوجة، فالزوجة بطريق أولى، فإنَّ الظاهر من الفقهاء أنَّه ليس بقياس أصلاً، وأنَّ المنشأ الفهم العرفي، وهو كذلك بعد وجود ذاك النصّ وملاحظته.

ويعضده تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلّية، لاسيّما وأنَّ هذا الوصف شرطٌ في التحريم بلا ريبة، مضافاً إلى الاستقراء في كون حكمها حكم ذات البعل في كثير من الأحكام.

وإمَّا من عموم المنزلة، مثل: إنَّ التيمّم بمنزلة الطهارة المائية.

وإمَّا من عموم الشباهة كما في تشبيهات الشارع واستعاراته في مقام يظهر منه أنَّ الشباهة في الحكم الشرعي، وأنَّ الفرض أنْ يفهم الراوي ذلك، هذا إذا كان جميع وجه الشبه على سواء في الظهور وانصراف الذهن، أو القدر الذي يكون كذلك مثل

ص: 17

(الطواف بالبيت صلاة) و(الفقّاع خمر) وإطلاق الخمر على النبيذ، وغير ذلك. وهذا أيضاً منشؤه الفهم العرفي.

وإمَّا من عموم البدلية، مثل حكمهم في التيمم بوجوب تقديم اليمنى على اليسرى، لأنَّه بدل، وغير ذلك. والمنشأ في هذا أيضاً الفهم العرفي)(1).

ونحوه ما ذكره في الفائدة (11), وفي الفائدة (29), قال: (إنَّ التعدّي ربَّما يكون بعد ملاحظة أمرٍ، مثل القياس المنصوص العلّة، ومثل التلازم بين الحكمين، مثل قوله (إذا قصّرت أفطرت، وإذا أفطرت قصّرت) هذا ولا كلام، إنَّما الكلام في مثل المواضع التي أشرنا إليها، من أنَّه بمجرد اللفظ يفهم التعدّي أو المخالفة، ومعلوم أنَّ ذلك لم يتحقّق إلّا بمنشأ، وهو التظافر والتسامع من المسلمين أو الفقهاء، والأنس بطريقتهم، وما فهموا من فتاواهم، وما رسخ في الخواطر من معاشرتهم ومخالطتهم، فربَّما يكون إجماعاً ضرورياً، وربَّما يكون إجماعاً نظرياً، وربَّما يكون إجماعاً ظنياً، وربَّما يكون مجرّد الشهرة بين الفقهاء.

فلا بُدَّ من التمييز بين هذه الأقسام، فإنَّ القسمين الأولين لا تأمّل في حجّيتهما، والآخرين وقع النزاع في كلّ واحدٍ منهما، فلا بُدَّ من التشخيص ومعرفة الدليل، ثُمَّ الاعتماد والفتوى.

واعلم أيضاً أنَّ التعدّي ربَّما يصير بتنقيح المناط، وهو مثل القياس إلّا أنَّ العلّة فيه منقّحة، أي حصل اليقين بأنَّ خصوصية الموضع لا دخل لها في الحكم، وكذا اليقين بعدم المانع في مورد آخر، فيجزم بالتعدّي، لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة، مثل قول النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) للأعرابي - حين سأله: جامعت أهلي في شهر رمضان؟ -: (كَفِّر)، فإنَّ القطع

ص: 18


1- مصابيح الظلام: 1/ 36 - 38.

حاصل بأنَّ العلّة هي الجماع فيه من غير مدخلية الأعرابية، ولا كون الجماع بالزوجة الدائمة، بل المتعة والجارية والزنا أيضاً كذلك، وربَّما لا يحصل القطع بالنسبة إلى الزنا. وكيف كان فالقطع إنَّما حصل بالإجماع، وهو المنقّح، إذ لا بُدَّ للتنقيح من منقّح شرعاً وليس فيما نحن فيه سوى الإجماع. نعم، في بعض المواضع يصير المنقّح هو حكم العقل على سبيل اليقين، لكنّه قليل جداً، فالعمدة والأصل هو الإجماع؛ ولذا قال بعض المحققّين: إنَّه لا يمكن فهم الحكم في حديث من أوَّل الفقه إلى آخره إلّا بمعونة الإجماع)(1).

وبعد هذه المقدّمة نشرع في بيان الطرق بحسب التقسيم المتقدّم الذي ذكره في شرحه لمقدّمة المفاتيح.

ص: 19


1- الفوائد الحائرية: 293- 295.

القسم الأوَّل: التعدّي على سبيل اليقين

اشارة

وله نحوان:

النحو الأوَّل: ما كان منشأ اليقين بالتعدّي هو حكم العقل

اشارة

في البدء نعرض رأي الوحيد (رحمة الله) في حكم العقل، وعلاقته بالحكم الشرعي. وقبل ذلك لا بأس باستذكار مراداتهم من حكم العقل - وبنحو موجز - ونخصّ بالكلام العقل العملي، أي إدراك العقل لما ينبغي فعله أو تركه، ومن أسباب ذلك هو إدراكه لحسن أو قبح ذلك الشيء، وقد ذكروا لمسألة الحسن والقبح أكثر من معنى - ثلاثة معاني -:

1. الكمال والنقص، وموردها الأفعال الاختيارية ومتعلّقاتها. فالفعل الذي فيه كمال للنفس يوصف بالحسن. والذي فيه نقص للنفس يوصف بالقبيح.

2. الملائمة للنفس والمنافرة لها. وموردها كذلك الأفعال الاختيارية ومتعلّقاتها. فالذي فيه ملائمة والتذاذ للنفس يوصف بالحسن، والذي فيه منافرة وألم واشمئزاز للنفس يوصف بالقبح.

3. المدح والثواب، والذمّ والعقاب. فالحسن ما استحقّ فاعله المدح والثواب. والقبيح ما استحقّ فاعله الذمّ والعقاب، والحسن والقبح بهذا المعنى موردهما الأفعال الاختيارية فقط دون متعلّقاتها.

وما هو محلّ النزاع في مسألة الحسن والقبح إنَّما هو المعنى الثالث (وإنْ كان الظاهر من عبارات الوحيد (رحمة الله) أنَّ محلّ النزاع أعمّ، حيث وصف الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح بقوله: «والظاهر أنَّ إنكارهم في اللسان وفي مقام المخاصمة، وإلّا فَهُم في مقام

ص: 20

الموعظة وتهذيب الأخلاق يصرّحون بهما»(1) ونقض عليهم أيضاً بما سلّموا به من وجود المنافرات والملائمات للنفس).

ثُمَّ إنَّ الحسن والقبح بهذا المعنى الثالث ذكروا له ثلاثة أقسام:

1. الحسن والقبح الذاتيان. أي أنَّ الفعل يكون علّة تامّة للحسن والقبح، كالعدل والظلم. فالعدل علّة تامّة للحسن، والظلم علّة تامّة للقبح.

2. الحسن والقبح العرضيان: أي أنَّ الفعل يكون فيه اقتضاء بذاته للحسن أو القبح ما لم يمنعه مانع ويعرض عليه عارض.

3. ما لا علّية تامّة ولا اقتضاء فيه للحسن والقبح، وإنَّما يتّصف بالحسن إذا انطبق عليه عنوان حسن، وكذا يتّصف بالقبيح إذا انطبق عليه عنوان قبيح.

والخلاف والنزاع في مسألة الحسن والقبح إنَّما وقع في خصوص القسم الأوَّل من هذه الأقسام الثلاثة. وهناك ثلاثة أقوال مشهورة في هذا المقام:

القول الأوَّل

ما نُسب لمشهور الفلاسفة من أنَّ الحسن والقبح من الأُمور الاعتبارية: أي أنَّ الحسن هو ما تبانى العقلاء على حسنه. والقبيح هو ما تبانى العقلاء على قبحه. فليس لها وراء تباني وتطابق آراء العقلاء واقع. وأدرجوها في (الآراء المحمودة) و(التأديبات الصلاحية) والتي هي قسم من القضايا المشهورة. ثُمَّ إنَّ تطابق آراء العقلاء هذا لا بُدَّ له من سبب، وقالوا إنَّ سببه هو إدراكهم للمصلحة أو المفسدة النوعيتين في ذلك الفعل. فمرجع حكم العقلاء بالحسن والقبح هو إدراكهم للمصلحة أو المفسدة النوعيتين.

القول الثاني

ما نُسب للمتكلّمين من أنَّ الحسن والقبح من الأُمور والصفات

ص: 21


1- الفوائد الحائرية: 363 وما بعدها.

الواقعية المتعلّقة بالأفعال الاختيارية. فالفعل الحسن واقعاً حسن لا أنَّ حسنه ينشأ من اعتبار العقلاء له، وكذا الفعل القبيح واقعاً قبيح. فهي من القضايا الأولية البديهية التي ليس للاعتبار والوضع إليها سبيل، كما هو الحال في قضية (استحالة اجتماع أو ارتفاع النقيضين).

القول الثالث

ما نُسب للأشاعرة من إنكارهم للحسن والقبح الذاتي للأفعال وبقطع النظر عن حكم الشارع، فالحسن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبّحه الشارع. فلا واقع لحسن وقبح الأشياء وراء حكم الشارع، سواء كان ذلك الواقع هو تطابق آراء العقلاء، أو القضية الأولية البديهية.

وأمَّا مختار الوحيد (رحمة الله) فقد ذكره عند قوله: (ثُمَّ اعلم أنَّ المعتزلة منهم مَن قال: بأنَّ الحسن والقبيح مقتضى ذات الفعل من حيث هي هي، ومنهم مَن قال: بأنَّهما من مقتضى وصفه اللازم. ومنهم مَن قال: بالوجوه والاعتبارات. وأمَّا غير المعتزلة فلعلّهم لا يُعَيِّنون ذلك ويقولون بالأعمّ والقدر المشترك، وهو الصواب)(1).

وبقطع النظر عن الملاحظات التي يمكن أنْ تُذكر حول كلامه (رحمة الله) - فإنَّها خارجة عن محل الكلام - فإنَّه يمكن القول: بأنَّه (رحمة الله) بعد أنْ اختار أنَّ حكم العقل هو الأعمّ من كون منشئه هو القضايا الأولية البديهيّة، أو الاعتبار والتباني العقلائي، فيترتّب عليه أنَّ الحكم العقلي من الأُمور الواضحة والمرتكزة في أذهان العقلاء، فكون الحكم العقلي ناشئ من إدراكه للقضايا البديهية أو إدراكه للمصالح أو المفاسد النوعيتين والتي تبانى عليها آراء عامّة العقلاء مآله في الحقيقة إلى ارتكاز ذلك الأمر وتلك القضايا في الذهن العقلائي، ومن المعلوم أنَّ المرتكزات الذهنية تمثّل قرائن لبّية متّصلة يتصرّف على

ص: 22


1- الفوائد الحائرية: 371.

ضوئها ذهن السامع والمتلقّي في ظهورات الكلام ويحكم بالانصراف من تعميم أو تخصيص أو إلغاء لخصوصية المورد.. وذلك لأنَّ الارتكاز يعني رسوخ تلك الصورة القائم عليها الارتكاز في الذهن العقلائي، وذلك الرسوخ موجب لعدم التفات الذهن إلى ما دونها، وظهورها بالخصوص من كلام المتكلّم، وعليه فاللازم على المتكلّم عند عدم إرادة تلك الصورة المترسخة أنْ يُعمل عناية لرفع ذلك الرسوخ، وإلفات السامع والمخاطب إلى ما يريده، ولا بُدَّ أنْ تتناسب تلك العناية كمّاً وكيفاً مع ثبوت ورسوخ ذلك الارتكاز.

ووفق هذا البيان والتفسير يتّضح حال الموارد التي ذكرها (رحمة الله) لهذا القسم, وهي:

1. عدم التكليف بما لا يطاق, وذلك لحكم العقل باستحالته، فيحكم بقبحه، وصدور القبيح من الحكيم محال.

2. اجتماع النقيضين والضدّين بالبيان المتقدّم.

3. الترجيح من غير مرجّح والذي مرجعه إلى صدور المعلول من غير علّة.

4. إنَّ نوع الإنسان بخلقة واحدة، كما في أمرهم (علیهم السلام) امرأة معيّنة لا تدري دمها من العذرة أو الحيض، أنْ تدخل القطنة.. إلخ. وذكرها في الفوائد بقوله: (إذا ورد في امرأة اشتبه دم حيضها بالعذرة إنْ خرجت القطنة مطوقة فهو عُذرة.. إلخ، نجزم أنَّ هذا حالة جميع النساء، لأنَّ خلقتهن واحدة، لا خصوصية لامرأة فيه)(1).

وهذه القاعدة لعلّها المنشأ للحكم بالاشتراك في الأحكام بين النساء مثلاً فيما يختصّ بهنّ، وبين الرجال والنساء فيما يشتركون به، أو بين الرجال فيما يختصّون به. وقاعدة الاشتراك هذه لم يتمّ استفادتها بعنوانها من دليلٍ خاصٍّ حتّى يحكم بحجّية

ص: 23


1- الفوائد الحائرية: 147.

ظهوره الظنّي، وتكون القاعدة من القواعد الظنّية التي قام الدليل الخاصّ على حجّيتها, بل هي ناشئة من الجزم والاطمئنان بذلك والناشئ من تجميع القرائن. وببركة هذا الاطمئنان تصبح هذه القاعدة من الأُمور المرتكزة في ذهن مَن حصل عنده ذلك الاطمئنان، فيجري فيها الكلام المتقدم.

5. تنقيح المناط, ولم يذكره (رحمة الله) في ما تقدّم من شرحه لمقدّمة المفاتيح. نعم، ذكره في ما تقدّم نقله عن الفوائد. وأرجعه (رحمة الله) - كما في الفائدة (11) - في بعض حالاته إلى حكم العقل، حيث قال: (.. وربَّما يخرج بقاعدة تنقيح المناط، وهو مثل القياس إلّا أنَّ العلّة المستنبطة فيه يقينية، بناءً على القاعدة المسلّمة عند الشيعة من كون الحسن والقبح عقليّين وعدم جواز تخلّف المعلول عن العلّة التامّة. والتنقيح لا يحصل إلّا بدليل يقيني شرعي فينحصر دليله في الإجماع والعقل، ومن هذا لا يذكر فقهاؤنا في كتبهم الاستدلالية اسم تنقيح المناط غالباً، لأنَّ الحجّة في الحقيقة هي تنقيح المناط بعنوان اليقين، وهو منحصر فيما ذكر)(1).

وكذا ما تقدّم نقله عن الفوائد - الفائدة (29) - حيث قال (.. إذ لا بُدَّ للتنقيح من منقّح شرعاً وليس فيما نحن فيه سوى الإجماع. نعم، في بعض الموارد يصير المنقّح هو حكم العقل على سبيل اليقين، لكنه قليل جداً)(2).

والحاصل: إنَّ تنقيح المناط هو استكشاف لمناط وملاك الحكم والذي هو حقيقة وروح الحكم، فالحكم يدور مداره سعةً وضيقاً. وبيّن (رحمة الله) كيفية حصول ذلك الاستكشاف, بقوله: (أي حصل اليقين بأنَّ خصوصية الموضع لا دخل لها في الحكم، وكذا اليقين بعدم المانع في مورد آخر، فيجزم بالتعدّي لامتناع تخلف المعلول عن العلّة،

ص: 24


1- الفوائد الحائرية: 147.
2- الفوائد الحائرية: 294- 295.

مثل قول النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) للأعرابي - حين سأله: جامعت أهلي في شهر رمضان؟ -: (كَفِّر)، فإنَّ القطع حاصل بأنَّ العلّة هي الجماع فيه من غير مدخلية الأعرابية ولا كون الجماع بالزوجة الدائمة، بل المتعة والجارية والزنا أيضاً كذلك)(1).

وأمَّا فرقه عن القياس المحرّم - مستنبط العلّة - والمنصوص العلّة، فقد بيّنه بقوله (رحمة الله): (.. لأنَّ الحجة في الحقيقة هي تنقيح المناط بعنوان اليقين.. وإنَّما قلنا بعنوان اليقين؛ لأنَّ الظني إنْ كان بغير النصّ فهو بعينه القياس المحرّم، وإنْ كان النصّ فهو القياس المنصوص العلّة)(2).

والحاصل: إنَّ تنقيح المناط إنْ استند إلى حكم العقل فمرجع التعدّي حينئذٍ إلى الارتكاز؛ لما تقدّم من أنَّ الحكم العقلي هو بمثابة القرينة اللبّية الارتكازية.

وأمَّا إذا كان استناده إلى الإجماع، فسيأتي التعرّض إليه في النحو الآخر.

النحو الآخر: ما كان منشأ اليقين بالتعدّي هو النقل

وقد حصر (رحمة الله) ذلك بالإجماع البسيط أو المركب، كما تقدَّم نقل ذلك عنه, حيث قال: (.. أو النقل، وهو منحصر في الإجماع البسيط أو المركب؛ إذ لم يوجد نصّ يكون قطعي السند والمتن والدلالة خالياً عن جميع المعارضات، أو قطعي العلاج، بل قال المحقّقون: لا يمكن إثبات حكم من نصّ إلّا بمعونة الإجماع، وهذا ظاهر على مَن تفطن بما أشرنا إليه من المتعديات، وتأمّل في دلالة النصوص على الحكم مع قطع النظر عن التعدّيات، سيّما مع ملاحظة ما دلّ على حجية ظنون المجتهد)(3).

ص: 25


1- الفوائد الحائرية: 294.
2- الفوائد الحائرية: 47 - 148.
3- مصابيح الظلام: 1/ 37.

ولبيان الأمر نحتاج وبنحو من الإيجاز لبيان رأي الوحيد (رحمة الله) في الإجماع فإنَّه اهتمّ به تنظيراً وتطبيقاً.

قال (رحمة الله): (لا شكّ في أنَّ الإجماع في اصطلاح الفقهاء عبارة عن اتفاق جمع يحصل من اتفاقهم اليقين بقول المعصوم (علیه السلام)، ولو لم يحصل العلم واليقين لا يكون إجماعاً عندهم قطعاً)(1)،

وقد ذكر (رحمة الله) في رسالته في الإجماع ثلاثة طرق للإجماع، قوّى الثالث منها - وإنْ لم ينكر الآخرين - وهو: (ما ذهب إليه معظم المحقّقين من أنَّ العلم يحصل من اتفاق الكلّ بأنَّ ذلك من رئيسهم، واتّفق كلّ المحقّقين في أمثال هذه الأزمان على ذلك)(2).

ويظهر من بعض كلماته استناده إلى حساب الاحتمال في ذلك, حيث قال: (وأيضاً كلّ مسألةٍ شرعيةٍ في نفسها تحتمل احتمالات، وبعد ما رأينا فقيهاً متّقياً عادلاً متقناً عارفاً ورعاً مطلّعاً ماهراً مقدّساً أفتى فيها، يترجّح في النظر ما أفتى به، وليس وجود فتواه كعدمه على السواء قطعاً.. ثُمَّ إذا رأينا فقيهاً آخر يوافق الأول يحصل من فتواه ظنٌّ آخر ومن توافقهما ظنٌّ آخر، وهكذا كلّما زاد فقيه في الفتوى يحصل منه ظنٌّ آخر، ومن التوافق به ظنٌّ آخر، ومن توافق المتوافقين ظنٌّ آخر، وهكذا إلى أنْ يصل إلى العلم. فإنَّ كثرة الظنونات وكثرة التوافق يقتضي العلم به عادة)(3).

وقال أيضاً (رحمة الله) في حاشيته على المدارك: (وحصول الظنّ من فتوى فقيه ماهر عادل متقٍّ باذل للجهد في استحصاله من الأدلّة الشرعية مستفرغ للوسع في ملاحظة جميع ما له دخل في الأخذ والفهم موصٍ للغير في الاحتياط في أخذ الحكم غايته، لا ينكره قلب

ص: 26


1- مصابيح الظلام: 1/ 39.
2- الرسائل الأصولية: 2/ 303.
3- مصابيح الظلام: 1/ 57.

خالٍ عن الشوائب والمعائب، سيّما إذا كان الفقيه من القدماء، ثُمَّ إذا رأينا فقيهاً آخر مثله يشاركه حصل ظنّ آخر من قوله وقوّة أُخرى من اجتماعهما، وهكذا كلما رأينا فتوى حصل ظنّ منه وقوّة من انضمامه، وأُخرى من انضمامين، وعلى هذا القياس إلى أنْ يحصل العلم من نفس ذلك.

أو بضميمة ملاحظة أنَّ أذهانهم مختلفة في إدراك الأُمور واستنباط المسائل، ومشربهم متفاوت في تأسيس المباني وتأصيل الأصول، ومع ذلك اتّفقوا هذا الاتفاق، وخصوصاً بعد التفطّن بما أشرنا إليه آنفاً. وسيّما إذا كان الحكم ممّا يعمّ به البلوى وتكثر إليه الحاجة، وخصوصاً بعد ملاحظة أنَّ الأحكام الفقهية عند الرواة وسائر الشيعة ما كانت مقصورة فيما رووه في ذلك الزمان؛ لأنَّ تلك الروايات وردت بعد ظهور الشرع وانتشاره في الأقطار وامتداد ذلك في الأعصار، بحيث ما كان الرواة جاهلين ولا مستشكلين إلّا في أُمور خاصّة دعاهم إلى الجهل بها والاستشكال فيها أسباب معيّنة)(1).

ثُمَّ إنَّه (رحمة الله) يظهر منه تعميم الإجماع لما يشمل الاتفاق الضروري والإطباق، حيث ذكر إشكالاً لمنكري الإجماع وجواباً عنه.

وحاصلهما: (إنَّ البعض ربَّما يلجئهم جميع ما ذكرناه بعد المبالغة التامّة والإصرار وفي غاية الإكثار إلى القول بوجود غير الآية والحديث، وحصول العلم من غير جهتهما أيضاً، لكن يقول: من أين هو الإجماع؟ إذ لعلّه شيء آخر.

فكنت أقول: العلم بما ذكر ليس فطرياً بالبديهة، بل العقل لا طريق له أصلاً إلى وجوب مثل الصلاة والنجاسة وأمثالهما.. فلا بُدَّ من حصوله من النقل بالبديهة، فإذا لم يكن من الآية والحديث انحصر في الإجماع؛ إذ لا منشأ للعلم هنا إلّا اتفاق المسلمين أو

ص: 27


1- الحاشية على مدارك الأحكام: 1/ 85 - 86.

الشيعة، ولو كانت المسألة خلافية لم يتحقّق هذا العلم بالبديهة، إلّا إذا كان الخلاف شاذّاً. فظهر أنَّ المنشأ هو الوفاق، على أنَّه أي شيء يكون المنشأ نحن نسمّيه بالإجماع ولا مشاحّة في التسمية، ونسمّيه أيضاً بالضروري أو الوفاق والإطباق، فأيّ اسم ترضى فسمّه به، وأقلّه ما ذكرت من أنَّه علم آخر وطريق ثالث، وإنَّي لا أدري أنَّ المنشأ ماذا؟ ولا مشاحّة في الاصطلاح عند جميع مَن له فهم)(1).

وقال أيضاً: (إذ عرفت أنَّ الإجماع هو خبر بالأصل، إلّا أنَّه لم يصل إلينا بعنوان معنون ظنّي، بل وصل بعنوان يقيني)(2).

وممّا تقدّم ظهر أنَّ ملاك الإجماع هو الاتفاق الموجب لحصول العلم، وهذا الاتفاق حاصل عند القدماء أيضاً، وحصوله كذلك يعني أنَّه وصل إليهم يدّاً بيدّ من عصر النصّ، ممّا يعني أنَّ الحكم كان من الأُمور الواضحة في أذهان الفقهاء والرواة من قبلهم، ولذا قال (رحمة الله) كما تقدَّم: (وخصوصاً بعد ملاحظة أنَّ الأحكام الفقهية عند الرواة وسائر الشيعة ما كانت مقصورة في ما رووه في ذلك الزمان؛ لأنَّ تلك الروايات وردت بعد ظهور الشرع وانتشاره في الأقطار وامتداد ذلك في الأعصار، بحيث ما كان الرواة جاهلين ولا مستشكلين إلّا في أُمور خاصّة دعاهم إلى الجهل بها والاستشكال فيها أسباب معيّنة كما هو الحال في أمثال أزماننا. نعم، في أمثال زماننا حصل بعض ما كانت غير حاصلة في ذلك الزمان، وإنْ خفي بعض ما كانت ظاهرة فيه.

والأئمّة (علیهم السلام) ما كانوا يلقون إليهم الأحكام من أوَّلها إلى آخرها، وما كانوا يعترضون على الرواة حين استشكالهم في أمرٍ خاصٍّ بأنَّ هذا الحكم من أين عرفت؟ ولِمَ تسأل عن هذا الأمر الخاصّ دون نفس الأحكام وباقي متعلقاتها؟ وما ذكر ظاهر

ص: 28


1- مصابيح الظلام: 1/ 54 - 55.
2- مصابيح الظلام: 1/ 60.

على المتأمّل في الأخبار.

وأيضاً: الكليني (رحمة الله) ما أتى بجميع روايات الأحكام المسلّمة عند الشيعة، التي لا تأمّل في وفاق كل الشيعة عليها، بل الفقه لو كان مقصوراً في الروايات المروية في الكافي خاصّة لعلّه لم يثبت كثير منه، وكذا الحال بالنسبة إلى غير الكليني من القدماء)(1).

وكأنّ الفقيه عندما يأتي للمسألة الكذائية والتي لا يوجد لبيانها حديث، يستند في بيان حكمها إلى ذلك الوضوح الواصل إليه يدّاً بيدّ.

وعليه فمرجع هذا النحو من إلغاء خصوصية المورد هو إلى ذلك الاتفاق والوضوح والارتكاز.

ومن هنا ذكر (رحمة الله) في بيان بعض وجوه التعدّي: (.. إنَّما الكلام في مثل المواضع التي أشرنا إليها من أنَّه بمجرد اللّفظ يُفهم التعدّي أو المخالفة، ومعلوم أنَّ ذلك لم يتحقّق إلّا بمنشأ، وهو التظافر والتسالم عليه من المسلمين أو الفقهاء، والأنس بطريقتهم، وما فهموا من فتاواهم، وما رسخ في الخواطر من معاشرتهم ومخالطتهم، فربَّما يكون إجماعاً ضرورياً، وربَّما يكون إجماعاً نظرياً، وربَّما يكون إجماعاً ظنّياً، وربَّما يكون مجرّد الشهرة بين الفقهاء، فلا بُدَّ من التمييز بين هذه الأقسام، فإنَّ القسمين الأولين لا تأمّل في حجّيتهما، والآخرين وقع النزاع في كلّ واحدٍ منهما، فلا بُدَّ من التشخيص ومعرفة الدليل ثُمَّ الاعتماد والفتوى)(2).

ص: 29


1- الحاشية على مدارك الأحكام: 1/ 86.
2- الفوائد الحائرية: 294.

القسم الثاني: التعدّي على سبيل الظن

اشارة

وقد ذكر له (رحمة الله) عدّة أنحاء، هي:

النحو الأوَّل: القياس بطريق الأولى

اشارة

قال (رحمة الله) في شرحه لمقدّمة المفاتيح: (.. إمَّا من القياس بطريق أولى، والشيعة مجتمعة على حجّيته. نعم، نزاعهم في طريقها. والحقّ: أنَّه الدلالة الالتزامية، فلو لم يصل إلى هذا الحدّ لا يكون حجّة، ولذا ورد في بعض الأخبار المنع من العمل بعد ما قال السائل: نقيسه بأحسنه؛ هذا وربَّما تكون الدلالة يقينيّة)(1).

وقال (رحمة الله) في الفوائد: (وممّا يوجب التعدّي عن مقتضى النصّ أيضاً القياس بطريق أولى، والشيعة مجتمعة على حجّيته. نعم، نزاعهم في طريقها. والحقّ: أنَّه الدلالة الالتزامية، فلو لم يصل إلى هذا الحدّ لا يكون حجّة، ولذا ورد في بعض الأخبار المنع عن العمل بعد ما قال السائل: نقيس على أحسنه، هذا وربّما تكون الدلالة يقينيّة)(2).

وقال (رحمة الله) في الرسائل الأصولية: (إذا ورد من الشارع حكم لجزئي فإنْ كان بالاطلاع عليه يفهم ويتبادر حكم جزئي آخر فَهْماً عرفياً وتبادراً متعارفاً، فيكون ذلك الحكم - أي الحكم الجزئي الآخر - من جملة مفاهيم ألفاظ الشرع، ويعبّر عن ذلك بالمفهوم الموافق والمفهوم المخالف، ومفهوم الوصف، ومفهوم الغاية، إلى غير ذلك، والتعبير عن المفهوم الموافق معلّلاً بالقياس بطريق الأولى لعلّه لا مشاحّة فيه)(3).

وقال (رحمة الله) في مفهوم الموافقة: (ومن المفاهيم مفهوم الموافقة، مثل: مفهوم قوله

ص: 30


1- مصابيح الظلام: 1/ 37.
2- الفوائد الحائرية: 148- 149.
3- الرسائل الأصولية - رسالة القياس -: 2/ 311.

تعالى: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أ ُفٍّ﴾، ولا نزاع في حجّيته. نعم، وقع النزاع في طريق دلالته، والمعتبر عندي الدلالة العرفية ودوران الحجّة معها، ووجهه ظاهر)(1).

ومن مجموع ما تقدّم يظهر أنَّ مفهوم الموافقة والقياس بطريق أولى عنده (رحمة الله) واحد.

لكنَّ في حاشيته على المدارك قال تعليقاً على قول الشارح (من باب مفهوم الموافقة): (كونه من باب القياس بطريق أولى لا إشكال فيه، وأمَّا كونه من باب مفهوم الموافقة ربَّما يحتاج إلى تأمّل، وعندي فرق بين المقامين، فتأمّل)(2).

والبحث في هذا الطريق يقع في أُمور:

الأمر الأوَّل: أشار إلى النزاع في طريق دلالة قياس الأولوية
اشارة

أشار (رحمة الله) إلى النزاع في طريق دلالة قياس الأولوية، والمذكور في كلماتهم أنَّ هناك ثلاثة أقوال:

القول الأوَّل

أنَّه من باب القياس، قال في المعالم: (حجّة الذاهبين إلى كون مثله قياساً: أنَّه لو قطع النظر عن المعنى المناسب المشترك المقصود من الحكم كالإكرام، في منع التأفيف، وعن كونه آكد في الفرع لما حكم به، ولا معنى للقياس إلّا ذلك)(3).

وممّن ذهب لذلك العلّامة (رحمة الله) (4)، وسيأتي مزيد بيان لذلك.

القول الثاني

أنَّها تدلّ عليه بالدلالة المطابقية باعتبار أنَّ كلمة (أُف) مثلاً منقولة عن موضوعها اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى. وقد نسب ذلك إلى المحقّق الحلّي (رحمة الله) (5).

ص: 31


1- الفوائد الحائرية: 186.
2- الحاشية على مدارك الأحكام: 1/ 159- 160.
3- معالم الدين: 450 - 451.
4- تهذيب الأصول: 90.
5- معالم الدين: 450 - 451.
القول الثالث

أنَّه من باب الدلالة الالتزامية، وهو ما ذهب إليه الوحيد (رحمة الله)، أي إدراك التلازم بين موضوعي الحكم كي ينتقل الذهن من أحدهما إلى الآخر ويتبادر المعنى إلى الذهن من اللفظ وبالتالي تثبت الدلالة الالتزامية. ولا بُدَّ من تحقّق شروط الدلالة الالتزامية حينئذٍ ككون التلازم بيِّن بالمعنى الأخصّ، وسيأتي مزيد بيان لذلك.

الأمر الثاني: في النسبة بين مفهوم الموافقة وقياس الأولوية

والظاهر أنَّ هناك قولين:

الأوَّل: كون النسبة هي العموم المطلق.

والآخر: كون النسبة هي العموم من وجه ولا بأس بنقل بعض الكلمات في ذلك.

أمَّا القول الأوَّل: فهو ظاهر كلمات السيد الخوئي (رحمة الله), حيث قال في الدراسات:

(والموافق ينقسم إلى قسمين: الأولوية القطعية والمساواة، والأولوية أيضاً على نحوين: أحدهما: أنْ يكون ذلك مفهوماً عرفياً من نفس اللفظ يعرفه كلّ عارف باللغة، كقوله تعالى: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أ ُفٍّ﴾ فإنَّه يستفاد منه كلّ أحد حرمة الشتم والضرب والقتل بالأولوية القطعية، ويعرف أنَّ ذكر كلمة (أ ُفٍّ) إنَّما هو من جهة كونه أدنى مرتبة التضجّر. وثانيهما: أنْ يحتاج استفادته إلى ضمّ مقدّمة عقلية إليه، كما لو قال المولى: (سَبُّ الإمام موجب للكفر) فإنَّه بعد علم من الخارج أنَّ ذلك إنَّما هو لحرمة الإمام وليس لكونه بشراً مخلوقاً يُفهم منه حرمة سبّه تعالى بالأولوية، ولا بُدَّ فيه من كون المقدمة العقلية قطعية، وإلّا فيكون استحساناً وليس بحجة(1).

وأمَّا القول الآخر فهو ظاهر كلام الميرزا النائيني (رحمة الله) في أجود التقريرات، حيث قال: (ثُمَّ إنَّ المفهوم الموافق يكون على نحو الأولوية تارةً، وعلى نحو المساواة أُخرى.

ص: 32


1- دراسات في علم الأصول: 2/ 294.

والأوَّل: إنَّما يتحقّق فيما إذا كانت الأولوية من المدركات العقلية، وأمَّا إذا كانت عرفية - كما في قوله تعالى: ﴿ فَلا تَقُلْ لَهُما أ ُفٍّ﴾ الدالّ على حرمة ضرب الوالدين - مثلاً - بالدلالة العرفية - فالمدلول خارج عن المفهوم وداخل في المداليل اللفظية العرفية(1). وقد بيَّن الشيخ الحلي (رحمة الله) مراد الميرزا النائيني (رحمة الله) بما نصّه: (لا يخفى أنَّ مراد شيخنا (رحمة الله) هو التفرقة بين مثل قولك (أكرم خدام العلماء) في دلالته بالأولوية على وجوب إكرام العلماء، ومثل آية الأُف، فإنَّ الأوَّل لا يكون إلّا بنحو من الملازمة والانتقال من الأضعف إلى موضع آخر يكون هو الأولى بالحكم الوارد على غيره، بخلاف آية الأف فإنَّه مع هذه الأولوية يمكن أنْ يكون من قبيل الكبرى الكلّية التي ذكر منها فردها الخفي، فيخرج حينئذٍ عن عالم المفاهيم التي وقع الكلام في كون دلالتها لفظية، أو عقلية، وقد اختار هو (رحمة الله) كونها لفظيّة، ويكون مفاد الآية الشريفة داخلاً في المداليل العرفية بلا كلام، ويكون ذلك من قبيل ذكر ما هو الأخفى من أفراد موضوع الكبرى)(2).

فنقطة افتراق مفهوم الموافقة هو ما كان على نحو المساواة, ونقطة افتراق الأولوية هو ما أسماه بالمدلول اللفظي العرفي.

ومن هذا القبيل أيضاً ما ذكره السيد الشهيد (رحمة الله) حيث قال: (ونريد بمفهوم الموافقة ما يستفاد من الدليل مشاركته مع حكم الموضوع المذكور في الدليل إمَّا لكون ثبوته فيه أولى من ثبوته في ملزومه، أو لكونه مساوياً لاشتراكهما في علّة الحكم ومناطه، ويشترط فيه أنْ تكون الملازمة عرفية فلا يكفي ثبوت الملازمة بعنايات عقلية)(3).

فمورد افتراق

ص: 33


1- أجود التقريرات: 2/ 379.
2- أصول الفقه: 5/ 289.
3- بحوث في علم الأصول: 3/384.

الأولوية وفق هذا الكلام هو الأولوية غير المستفادة من اللفظ وإنَّما المستفادة من حكم العقل.

ثُمَّ إنَّ الذي يظهر من مجموع كلمات الوحيد (رحمة الله) أنَّ النسبة بينهما هي العموم من وجه، فقد قال في رسالة في الجمع بين الأخبار: (إذ الحكم بالأولوية إمَّا لحكم العقل بها أو لحكم الشرع)(1)

فالأولوية وفق هذا النصّ على قسمين أولوية شرعية وأولوية عقلية. والذي يظهر من عباراته (رحمة الله) المتقدّمة أنَّ حجّية الأولوية إمَّا أنْ تكون لأجل الدلالة الالتزامية، وبالتالي تكون أولوية عرفية أو أولوية يقينية، والثابت عنده (رحمة الله) - كما تقدَّم - أنَّ اليقين إمَّا ناشئ من حكم العقل أو النقل كما إذا ثبتت الأولوية بالإجماع ونحوه.

ثُمَّ إنَّ الأولوية الشرعية والعرفية مرجعهما إلى أمرٍ واحدٍ، فإنَّ الأولوية العرفية ما لم تندرج تحت حجّية الظهور، أو تكون يقينية، لا تكون حجّة وشرعية.

وعلى كلّ حالٍ، فالأولوية العقلية خارجة عن مفهوم الموافقة لما تقدّم من أنَّ طريق دلالة مفهوم الموافقة عنده (رحمة الله) هو الدلالة العرفية. وهذه هي نقطة افتراق الأولوية عن مفهوم الموافقة.

وأمَّا نقطة افتراق مفهوم الموافقة عن الأولوية فهو بما يسمّى بقياس التساوي أو المساواة.

وأمَّا نقطة الالتقاء والاشتراك فهي الأولوية العرفية أو الشرعية.

ولعلَّ تفريقه (رحمة الله) بين الأولوية ومفهوم الموافقة - كما تقدَّم في حاشيته على المدارك - ناظر إلى هذا الذي ذكرناه.

ص: 34


1- الرسائل الأصولية - رسالة في الجمع بين الأخبار -: 2/ 447.
الأمر الثالث: استند في إثبات الحجّية في المقام وغيره إلى الفهم العرفي

استند (رحمة الله) في إثبات الحجّية في المقام وغيره إلى الفهم العرفي, والدلالة الالتزامية أحد سبل الفهم العرفي، فاقتضى الأمر الوقوف عند ذلك فنقول:

إنَّ الفهم العرفي كي يستند إليه ويكون حجّة لا بُدَّ أنْ يكون ناشئاً من مناسبة ونكتة نوعية عامّة، فالظهور الناشئ من هذا الفهم هو الذي يكون حجّة والذي يسمّى بالظهور الموضوعي، دون ما كان ناشئاً من ملابسات وعوامل شخصية ذاتية وهو ما يسمّى بالظهور الذاتي.

جاء في كلمات السيد الشهيد (رحمة الله) أنَّ (الظهور - سواء كان تصورياً أو تصديقياً - تارةً يراد به الظهور في ذهن إنسان معيّن، وهذا هو الظهور الذاتي، وأُخرى يراد به الظهور بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العامّ، وهذا هو الظهور الموضوعي، والأوَّل يتأثّر بالعوامل والظروف الشخصية للذهن التي تختلف من مورد إلى آخر تبعاً إلى أنسه الذهني وعلاقاته، بخلاف الثاني الذي له واقع محدّد يتمثّل في كل ذهنٍ يتحرّك بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العامّ.

وما هو موضوع الحجّية الظهور الموضوعي؛ لأنَّ هذه الحجّية قائمة على أساس أنَّ ظاهر حال كلّ متكلّم إرادة المعنى الظاهر من اللفظ، ومن الواضح أنَّ ظاهر حاله بوصفه إنساناً عرفياً إرادة ما هو المعنى الظاهر موضوعياً لا ما هو الظاهر نتيجة لملابسات شخصية في ذهن هذا السامع أو ذاك)(1).

نعم, قد يقال بكفاية الظن بالمناسبة والنكتة، ولا يشترط إحراز وجودها ببيان:

إنَّ طرق استكشاف ذلك الظهور الموضوعي تتمّ عن طريق الظهور الذاتي، ومن تلك الطرق ما ذكره السيد الشهيد (رحمة الله) في البحوث حيث قال: (يمكن إحراز الظهور

ص: 35


1- دروس في علم الأصول (الحلقة الثالثة): 1/ 205 - 206.

الموضوعي بإحدى طريقتين، الأولى: إحرازه تعبّداً، وذلك بدعوى جعل الظهور الذاتي أمارة عقلائية عليه، فإنَّ السيرة قائمة على جعل ما يتبادره كلّ شخص من الكلام هو الميزان في تشخيص الظهور الموضوعي المشترك عند العرف)(1).

وظاهر العبارة قيام السيرة العقلائية على أمارية الظهور الذاتي مطلقاً سواء حصل العلم والإحراز عند صاحب الظهور الذاتي للنكتة والمناسبة، أم كان الحاصل عنده مجرد الظن بالمناسبة.

أقول: يمكن أنْ يلاحظ على هذه الدعوى بما حاصله:

إنَّ الظهور الذاتي لما كان تبادراً كاشفاً عن الظهور الموضوعي، فلا بُدَّ من توفر شرط التبادر فيه وهو إحراز العلاقة اللغوية والعلم بها على تفصيل ذكروه في الأبحاث الأُصولية لنوع ذلك العلم بالوضع، كجوابٍ على إشكال الدور على ذلك التبادر.

فكما أنَّ التبادر الذي هو علامة الحقيقة والوضع لا بُدَّ فيه من إحراز الوضع ولو إجمالاً - كما هو مذهب المشهور - أو إحراز القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى - كما هو مبنى نظرية القرن الأكيد - كذلك التبادر في المقام - أي إثبات التطابق بين ما يفهمه الشخص مع ما يفهمه العرف العامّ - هو فرع إحراز وجود العلاقة اللغوية العرفية وما يعتمده العرف من أساليب المحاورة والكلام. وهذا الأمر واضح لا غبار عليه.

فإنَّ ذلك الظهور الذاتي لا بُدَّ له من سبب ومستند، وهو إمَّا الوضع أو القرينة الخاصّة، وكلاهما خارج عن محلّ الكلام، وأمَّا القرينة العرفية العامّة وطريقة أهل المحاورة - وهي محل الكلام - فلكي يستند السامع في فهمه إليها لا بُدَّ من اطلاعه عليها وإحرازه لوجودها.

ص: 36


1- بحوث في علم الأصول: 4/292.

ومنه يتّضح أنَّ ادّعاء قيام سيرة في المقام على كفاية مطلق الظهور الذاتي أو الظنّ بالمناسبة بعيد.

نعم, لا بُدَّ من التفريق بين ما ذكرناه وبين حجّية الظهور - والذي موضوعه الظن - ببيان:

إنَّ هناك نوعين من الظن:

الأوَّل: الظن بوجود نكتة ومناسبة يستند إليها العرف في محاوراتهم، وتمثّل قرينة عامّة على استكشاف مراداتهم، وهذا ما قلنا بعدم كفايته.

الآخر: إحراز وجود النكتة والمناسبة، ولكن السامع يشكّ في أنَّ المتكلّم هل أتبع طرق وأساليب أهل المحاورة واعتمد على تلك المناسبة في بيان مراده أم لا؟

وهنا قالوا إنَّ ظاهر حال كل متكلّم أنْ يتكلم على وفق أساليب وطرق المحاورة اللغوية العرفية.

والثاني هو مورد حجية الظهور والتعبّد بالظهور الظني والذي قامت عليه السيرة دون الأوَّل.

وعليه فالقول بلا بُدّية إحراز وجود المناسبة العرفية وطريقة وأسلوب أهل المحاورة لا يعني إخراج المسألة عن كبرى حجّية الظهور.

وخلاصة ما تقدَّم: أنَّه لا بُدَّ من إحراز وجود المناسبة العرفية، وعدم الاكتفاء بالظن بها. ولعلّ هذا هو مراد السيد الشهيد (رحمة الله) أيضاً، فإنَّ عبارته في البحوث وإنْ كانت موهمة بما تقدّم، لكنّه (رحمة الله) في الحلقة الثالثة فسّرها بما يرجع بروحه إلى ما ذكرناه، حيث قال: (وأمَّا الظهور الذاتي - وهو ما يعبّر عنه بالتبادر أو الانسباق - فيمكن أنْ يقال بأنَّه أمارة عقلائية على تعيين الظهور الموضوعي، فكلّ إنسان إذا انسبق إلى ذهنه معنى مخصوص من كلام ولم يجد بالفحص شيئاً محدّداً شخصياً يمكن أنْ يفسّر ذلك

ص: 37

الانسباق، فيعتبر هذا الانسباق دليلاً على الظهور الموضوعي)(1).

أي أنَّ السامع يقوم بعملية تحليلية في ذهنه لمعرفة سبب ذلك التبادر، فإنْ جرّده عن جميع الأسباب والعوامل الشخصية المحتملة انحصر السبب حينئذٍ بالمناسبة العرفية العامّة، فيكشف حينئذٍ عن الظهور الموضوعي، وذلك مساوق لإحراز وجود المناسبة والنكتة، وإلّا فالظن بها يعني احتمال مدخلية أحد العوامل الشخصية في ذلك.

ثُمَّ إنَّ تلك المناسبة العرفية العامّة مرجعها إلى الارتكاز، فإنَّ المناسبة تعني أنَّ الطريقة اللغوية وأساليب الحوار عند أهل العرف والعقلاء هي تلك، أي أنَّ سيرتهم قامت على ذلك، ومن الواضح أنَّ منشأ الطريقة والسيرة هو الارتكاز.

نعم، ليس بالضرورة - للعمل على وفق المناسبة العرفية - إحرازها بخصوصها وعينها، بل يكفي إحراز أصل وجودها.

والخلاصة: أنَّ الفهم العرفي لمدلولات الأدلّة وكلمات الشارع والمتكلم لا بُدَّ لها من مستند، ومستندها: إمَّا الوضع أو القرينة الخاصّة - وكلاهما خارجٌ عن محلّ الكلام - أو القرينة العامّة، والتي مرجعها إلى الارتكاز كما تقدّم.

ولعلّه إلى ذلك تشير كلمات الوحيد (رحمة الله) أيضاً حيث قال - كما تقدّم نقله -: (.. إنَّما الكلام في مثل المواضع التي أشرنا إليها من أنَّه بمجرد اللفظ يُفهم التعدّي أو المخالفة، ومعلوم أنَّ ذلك لم يتحقّق إلّا بمنشأ، وهو التظافر والتسامع من المسلمين أو الفقهاء والأنس بطريقتهم، وما فهموا من فتاواهم، وما رسخ في الخواطر من معاشرتهم ومخالطتهم..)(2).

ص: 38


1- دروس في علم الأصول (الحلقة الثالثة): 1/ 206.
2- الفوائد الحائرية: 294.
الأمر الرابع: في بيان ضابطة الأولوية
اشارة

قسّم الأعلام الأولوية إلى قسمين:

القسم الأوَّل: الأولوية العرفية

ويمكن إجمال المراد منها: بأنَّها الأولوية التي يفهمها العرف بمجرّد ثبوت المدلول المطابقي للكلام، ومن دون الحاجة إلى توسّط مقدمة عقلية أو خارجية، فيفهم منها العرف ثبوت الحكم للموضوع الآخر لأنَّه أولى بذلك. إذاً هناك ملازمة بين الحكمين لا بين الموضوعين. وهناك منشآن محتملان لهذه الملازمة، هما:

الأوَّل: أنْ يشترك كلا الموضوعين في ملاك الحكم وذلك الملاك يكون أقوى وأشد في الموضوع الآخر منه في الموضوع الأول، أي أنَّ العرف يفهم من قوله تعالى: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أ ُفٍّ﴾ - مثلاً- أنَّ ملاك حرمة التأفف للوالدين هو الإهانة ومن دون دخل لأي خصوصية أخرى، فتكون هي علّة الحكم، ومن البديهي ثبوت الحكم في المورد والموضوع الذي يوجد فيه ذلك الملاك بنحو أقوى وأشد. وأمَّا منشأ فَهْم وتشخيص العرف لذلك الملاك - أي تنقيحه لمناط الحكم -، فلا بُدَّ أنْ يكون بطريق قطعي ولا يكفي فيه مجرد الظن، وإلّا لزم الوقوع في محذور القياس ونحوه. وقد تقدَّم عن المحقّق البهبهاني (رحمة الله) حصر تلك الطرق بالإجماع والعقل، ويمكن أنْ نضيف إلى ذلك الارتكاز العرفي (عقلائي أو متشرّعي) بأنْ يكون المرتكز في ذهن العرف - ولو عرف المتشرعة - أنَّ علّة حرمة التأفف للوالدين هو الإهانة، فالعرف وببركة ذلك الارتكاز يحرز ذلك الملاك وبالتالي يكتشف الملازمة القطعية.

وممّا تقدَّم يتضح: أنَّ الدلالة في المقام ليست من دلالة اللفظ على المدلول الالتزامي فالملازمة ليست بين اللفظ والمدلول الالتزامي، وإنَّما هي من دلالة المدلول على المدلول، وملازمة بين المدلول المطابقي والمدلول الذي يراد إثباته، وذلك لما تقدّم من أنَّ الملازمة

ص: 39

إنَّما تثبت بعد تنقيح المناط وتحديد الملاك. وهو ليس مدلولاً للفظ المذكور في الآية المباركة مثلاً. نعم، بين المدلولين (حرمة التأفف) و(حرمة الضرب) ملازمة في الملاك وهو الإهانة.

وممّا يدلّ على ذلك أيضاً: أنَّه لو جيء بصياغات أُخرى للدليل الذي يراد إثبات الأولوية به لما كان ذلك مؤثراً في ثبوت أو انتفاء الملازمة، بل لو ثبت الحكم بواسطة دليل غير لفظي لكانت الملازمة ثابتة أيضاً، فإنَّ اكتشاف الملاك وبالتالي الأولوية غير متوقف على نوع الصياغة اللفظية كما هو واضح ممّا يعني أنَّ الدال في المقام ليس هو اللفظ حتّى تكون الأولوية من دلالة اللفظ على المدلول.

وهذا أحد وجوه الفرق بين الأولوية - مفهوم الموافقة - وبين مفهوم المخالفة. فإنَّهما وإنْ اشتركا في دلالتهما على المدلول الالتزامي لكنَّ دلالة مفهوم المخالفة من دلالة اللفظ على المفهوم بقرينة أنَّ ثبوت المفهوم من عدمه يتأثّر بتأثّر الصياغات اللفظية، فالجملة الشرطية (إنْ كان عليٌ عالماً فأكرمه) يثبت لها مفهوم الشرط، ولكن لو صيغت بصياغة الجملة الوصفية بأنْ تقول (أكرم علياً العالم) لم يثبت لها المفهوم بناءً على عدم ثبوت مفهوم الوصف.

ومن خلال ما تقدّم اتّضح الوجه في تعبير البعض عنها ب-(الأولوية العرفية القطعية) إمَّا كونها عرفية فباعتبار أنَّ العرف هو الذي يكتشف الملاك والأشدّية، وإمَّا كونها قطعية فباعتبار أنَّ ذلك الاكتشاف إنْ لم يبلغ مرتبة القطع والاطمئنان فلا اعتبار به.

الآخر: أنْ يكون ذكره من باب ذكر الخاصّ للتنبيه على العامّ، وذكر الفرد الخفي للتنبيه على الفرد الجليّ، وفي هذا الصدد يذكر الميرزا النائيني (رحمة الله) بحسب ما نقله الشيخ الحلي (رحمة الله) عن تقرير الشيخ موسى الخوانساري قوله: (ثمَّ وجه الأولوية قد يكون لحكم العقل بها أو لدلالة اللفظ عليها، وأولوية حرمة إيذاء الوالدين بالضرب المستفادة من

ص: 40

قوله تعالى: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أ ُفٍّ﴾ يمكن أنْ يكون على كلا الوجهين؛ لأنَّ العقل يحكم بعد أنْ علم بحرمة الأُف أنَّ الضرب محرّم بطريق أولى، فهذه الأولوية من الأحكام العقلية الملازمية، واللفظ أيضاً دالّ عليها بالدلالة السياقية؛ لأنَّه يفهم من هذا الكلام أنَّه من قبيل التنبيه على العامّ بذكر الخاصّ، فإنَّه بصدد بيان أوَّل درجة من الإيذاء وأدناه، فحرمة أعلى درجة تستفاد من سوق الكلام)(1).

والذي قد صرَّح بأنَّها من المداليل الالتزامية اللفظية فتندرج تحت كبرى حجّية الظهور.

أقول: إنْ كان مراده (رحمة الله) من ذلك أنَّ هناك قرينة في سياق الكلام تدلّ على ذلك فحينئذٍ يكون التعميم لأجل تلك القرينة، وتندرج تحت حجّية الظهور. وإنْ لم يكن كذلك - وإنْ كان ذلك بعيداً عن مجموع كلامه - بل لأجل أنَّ العرف يفهم ذلك، فيرجع الكلام حينئذٍ إلى المنشأ الأوَّل.

القسم الآخر: الأولوية العقلية

ولعلّ المراد منها قد اتّضح ممّا تقدَّم، فهي الأولوية التي تثبت من خلال توسّط مقدّمة عقلية، وهذه المقدّمة وبالتالي الأولوية لا بُدَّ أنْ تكون قطعية، أي من خلال هذه نستطيع أنْ نستكشف ملاك الحكم وأنَّه ثابت في الآخر بنحو أقوى وأشدّ. وكما تقدّم فإنَّ من أبرز الطرق لاكتشاف ذلك هو الإجماع أو حكم العقل.

ويأتي فيها نفس الكلام المتقدّم: من أنَّها من دلالة المدلول على المدلول.

وإلى ما تقدَّم أشار المحقّق القمي (رحمة الله) في قوانينه حيث قال: (فحاصل الكلام في القياس بطريق الأولى الذي يقول به الشيعة، لا بُدَّ أنْ يكون قياس نصّ على علّته أو نبّه عليها، ودفع احتمال مدخلية خصوصية الأصل فيها من جهة كون العلّة في الفرع أقوى

ص: 41


1- أصول الفقه: 5/ 290.

لا غير)(1).

وممّا تقدّم يتّضح حال دعوى أنَّ حجّية الأولوية من باب الدلالة الالتزامية - وهو الذي تبنّاه الوحيد (رحمة الله) - فإنَّ ذلك يعني أنَّ الأولوية تحصل بواسطة تبادر المعنى إلى الذهن من اللفظ من دون ملاحظة الأصل والفرع والعلّة المشتركة بينهما وأنَّ تلك العلّة هي الملاك التامّ والمستقلّ للحكم.

وبعبارة أُخرى: إنَّ الدلالة الالتزامية في المقام تعني عدم انفكاك تصوّر الفرع عن تصوّر الأصل، وبلا حاجة إلى تصوّر وملاحظة أمر آخر، فإنَّ ذلك هو الذي يحقّق شرط الدلالة الالتزامية, أي يكون بيِّن بالمعنى الأخص. وقد عرفت عدم تمامية ذلك، بل لا بُدَّ من استكشاف العلّة وأنَّها الملاك التامّ والمستقلّ للحكم وأنَّها متحقّقة في الآخر بنحو آكد وأشدّ.

النحو الثاني: القياس منصوص العلّة

اشارة

قال (رحمة الله) في شرحه لمقدّمة المفاتيح في مقام تعداد أنحاء هذا القسم من التعدّي:

(.. المنصوص العلّة، وعندهم في حجّيته خلاف، والحقّ الحجية للدلالة العرفية، وهذا أعمّ من أنْ تكون العلّة مذكورة صريحاً، أو يذكر أمر في مقام التعليل)(2).

وقال (رحمة الله) في الفوائد عند بيانه للتعدّي بتنقيح المناط وأنَّه لا بُدَّ فيه من اليقين:

(.. وإنَّما قلنا بعنوان اليقين؛ لأنَّ الظنّي إنْ كان بغير النصّ فهو بعينه القياس الحرام، وإنْ كان النصّ فهو القياس المنصوص العلّة، وفي حجّيته خلاف, قيل بعدم الحجّية مطلقاً. وقيل بالحجّية مطلقاً، وهو المشهور المعروف في الكتب الاستدلالية.

ص: 42


1- القوانين المحكمة: 3/ 205.
2- مصابيح الظلام: 1/ 37.

وقيل: إنْ قام دليل من الخارج على عدم مدخليّة خصوص المادّة فهو حجّة وإلّا فلا. وخيرها أوسطها، للفهم العرفي من دون تأمّل منهم، ألا ترى أنَّه إذا قال الطبيب لواحد لا تأكل هذا لأنَّه حامض أو حلو، يعلم بلا تأمّل أنَّ الطبيب منعه عن أكل كلّ حامض أو حلو، وهكذا جميع استعمالاتهم, فيكون العموم مدلول اللفظ عرفاً، وقد مرَّ أنَّ الشارع يتكلّم بعنوان العرف ويخاطب على طريقتهم)(1).

ولبيان الأمر نقول: إنَّ القائل بحجية القياس منصوص العلّة يدعي أنَّ العلّة المذكورة هي علّة للحكم فيدور الحكم مدارها سلباً وإيجاباً، وبالتالي يتعدّى عن مورد الحكم إلى كلّ مورد تحقّقت فيه تلك العلّة.

ومَن أنكر الحجّية أنكر كونها علّة وملاكاً للحكم الشرعي، بل العلّة المنصوصة إنَّما هي علّة لخصوص موردها، أو هي حكمة للتشريع وبالتالي فلا يدور الحكم مدارها، فيقتصر في الحكم على مورده ولا يتعدّى إلى غيره من الموارد وإنْ تحقّقت فيه تلك العلّة والحكمة(2).

ثُمَّ إنَّ الوحيد (رحمة الله) كما في النصّ المتقدّم ذكر ثلاثة أقوال في المسألة:

القول الأوَّل

عدم حجّية القياس منصوص العلّة مطلقاً ولعلّ من القائلين به السيّد المرتضى (رحمة الله).

حيث قال (رحمة الله) في مقام الردّ على مَن قال بإمكان التعدّي عن مورد العلّة المنصوصة:

(.. وهذا غير صحيح؛ لأنَّ العلل الشرعية إنَّما تنبئ عن الدواعي إلى الفعل وعن وجه المصلحة فيه. وقد يشترك الشيئان في صفة واحدة وتكون في أحدهما داعيةً إلى فعله

ص: 43


1- الفوائد الحائرية: 147 - 148.
2- هذا الفارق الإثباتي بين علّة الحكم وحكمة التشريع، وهناك فارق ثبوتي تركنا الخوض فيه إلى محله، ومن أراد فليراجع أصول الفقه للشيخ حسين الحلي (رحمة الله): 5/291 - 294.

دون الآخر، مع ثبوتها فيه. وقد يكون مثل المصلحة مفسدة، وقد يدعو الشيء إلى غيره في حالٍ دون حال وعلى وجهٍ دون وجه وقدرٍ منه دون قدر، وهذا باب في الدواعي معروف. ولهذا جاز أنْ يُعطى لوجه الإحسان فقيرٌ دون فقير، ودرهم منه دون درهم، وفي حالٍ دون حال أُخرى، وإنْ كان فيما لم نفعله الوجه الذي لأجله فعلنا بعينه. وإذا صحّت هذه الجملة لم يكن في النصّ على العلّة ما يوجب التخطّي والقياس، وجرى النصّ على العلّة مجرى النصّ على الحكم في قصره على موضعه. وليس لأحدٍ أنْ يقول إذا لم يوجب النصّ على العلّة التخطّي كان عبثاً. وذلك أنَّه يفيدنا ما لم نكن نعلمه لولاه، وهو ما كان له هذا الفعل المعيّن مصلحة)(1).

القول الثاني

ما تبنّاه الوحيد (رحمة الله) ونُسب للأكثر أيضاً، من الحجّية مطلقاً. وممّن تبنّى ذلك أيضاً العلّامة الحلّي (رحمة الله) حيث قال: (الحقّ عندي أنَّ العلّة إذا كانت منصوصة وعُلم وجودها في الفرع كان حجّة)(2)،

واستدلّ على ذلك: (بأنَّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الخفية والشرع كاشف عنها، فإذا نصّ على العلّة عرفنا أنَّها الباعثة والموجبة لذلك الحكم، فأين وجدت وجب وجود المعلول)(3).

القول الثالث
اشارة

إنَّ التعدّي والحجّية متوقّف على قيام الدليل الخارجي على التعدّي وإلغاء خصوصية المورد، وإلّا فالعلّة المنصوصة بحدّ نفسها غير موجبة للتعدّي.

وممّن تبنّى ذلك المحقّق الحلي (رحمة الله) حيث قال:

(النصّ على علّة الحكم وتعليقه عليها مطلقاً يوجب ثبوت الحكم إنْ ثبتت العلّة، كقوله: (الزنا يوجب الحدّ، والسرقة توجب القطع).

ص: 44


1- الذريعة: 2/ 684.
2- تهذيب الأُصول: 248.
3- نهاية الأُصول: 252.

أمَّا إذا حكم في شيء بحكمٍ ثُمَّ نصّ على علّته فيه فإنْ نصّ مع ذلك على تعديته وجب، وإنْ لم ينصّ لم يجب تعدية الحكم إلّا مع القول بكون القياس حجّة، مثاله: إذا قال: (الخمر حرام لأنَّه مسكر) فإنَّه يحتمل أنْ يكون التحريم معلّلاً بالإسكار مطلقاً، ويحتمل أنْ يكون معلّلاً بإسكار الخمر. ومع الاحتمال لا يعلم وجوب التعدّية)(1).

وقال (رحمة الله) أيضاً: (فإنْ نصّ الشارع على العلّة وكان هناك شاهد حالٍ يدلّ على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلّة في ثبوت الحكم جاز تعدية ذلك الحكم وكان ذلك برهاناً)(2).

ولتحقيق الحال في المسألة نقول:

الصحيح - والله العالم - هو صحّة القول الثاني وأنَّ العلّة المنصوصة علّة حكم يدور الحكم مدارها سلباً وإيجاباً، وذلك تمسّكاً بالإطلاق.

ببيان: أنَّ المقام مقام تشريع وبيان للأحكام الشرعية, فإنَّا نريد أنْ نحدّد أنَّ الشارع شرّع الحكم لعموم موارد العلّة أم لخصوص المورد المذكور.

وطريقة الشارع في البيان يُراعى فيها الفهم العرفي وما هو المرتكز في أذهانهم، وما هو المرتكز في أذهان العرف هو أنَّ الأثر - ومنه الحكم - يدور مدار علّته، أي أنَّ العلّة هي المرادة حقيقةً، وهي التي تمثّل موضوع الحكم. وبذلك يمكن إثبات أنَّ الشارع في مقام البيان من جهة العلّة ومدخليتها في ثبوت الحكم الشرعي، والتي هي من أهمّ مقدّمات الحكمة المثبتة للإطلاق. وبناءً على ذلك إذا احتملنا مدخلية شيءٍ آخر - كخصوصية المورد - في ثبوت الحكم، فيمكن إلغاؤه بإطلاق كلام الشارع في التعليل.

إذاً الحكم بعموم العلّة يتمّ ببركة الإطلاق، وهو المراد - والله العالم - من تعبيرهم

ص: 45


1- معارج الأُصول: 183.
2- نفس المصدر: 185.

لإثبات الإطلاق بالفهم العرفي - كما تقدّم عن الوحيد (رحمة الله) - أو الدلالة العرفية - كما عن صاحب الحدائق (رحمة الله) - فإنَّ الدلالة الإطلاقية دلالة وفَهْم عرفي.

ولتتميم هذا القول لا بُدَّ من دفع بعض الإشكالات التي قد تثار حوله:

الإشكال الأوَّل

بمراجعة روايات التعليل، نجد أنَّ أكثر العلل المذكورة فيها هي من قبيل الحكمة؛ وذلك لعدم اطرادها أو انعكاسها، وعليه فأكثر روايات التعليل مقيّدة, بناءً على أنَّ الحكمة تمثّل جزء العلّة لا العلّة التامّة, ومن المعلوم أنَّ تقييد - تخصيص - الأكثر مستهجن، وعليه فالإطلاق غير تام.

وفيه: أنَّه يجب أنْ نميّز بين نظرتين إلى العلل المذكورة في الروايات:

الأُولى: النظر إلى كلّ علّة بصورة منفردة، فإذا كانت غير مطّردة ولا منعكسة، فحينئذٍ لا يمكننا القول بأنَّ الشارع في مقام بيان علّة الحكم المطّردة، بل في مقام بيان جهة من جهات المصلحة وحكمة التشريع.

الأخرى: النظر إلى مجموع العلل الصادرة من الشارع، ومن المعلوم أنَّ أغلب هذه العلل غير مطّردة ولا منعكسة، فهي حِكَمُ تشريع.

وما يحتاجه الإطلاق هو لحاظ العلّة بالنظرة الأُولى. فإنَّا بالإطلاق نريد أنْ نثبت شمول الحكم لكلّ أفراد تلك العلّة، لا أحكام متعدّدة لأفراد علل متعدّدة.

الإشكال الثاني
اشارة

الإطلاق في المقام - كما تقدَّم - مبتنٍ على ظهور حال المتكلّم الشارع، ولمّا كانت أغلب العلل المذكورة من قبيل حكمة التشريع، فذلك يخدش بالظهور الحالي المدّعى، أي أنَّ طريقة الشارع وبالتالي ظاهر حاله أنَّه ليس بصدد ذكر العلل المطّردة، خصوصاً وأنَّ الوجوه التي يمكن بيانها كوجهٍ لذكر العلّة من باب حكمة التشريع كثيرة.

وفيه: أنَّ المقصود هو الحكم بإطلاق العلّة، فلا بُدَّ أنْ ينظر إلى نفس تلك العلّة

ص: 46

المذكورة في الرواية، فمع عدم المقيّد يتمّ الإطلاق؛ لتمامية الظهور المدّعى كما تقدّم. ودعوى بلوغ الغلبة حدّ الانصراف, أوَّل الكلام.

فالنتيجة: أنَّ الإطلاق في المقام تامّ، فالأصل في العلل المنصوصة في روايات الأحكام أنْ تكون علل أحكام، لا حِكَمَ تشريع.

ثُمَّ إنَّ الميرزا النائيني (رحمة الله) ذكر ثلاثة أُمور لا بُدَّ من توفّرها حتّى تكون العلّة المنصوصة مطلقة.

وحاصل كلامه: (إنَّ الحكم على العلّة المأخوذة في الحكم بأنَّها من قبيل العلّة المنصوصة، وأنَّ الحكم غير مختصّ بمورده، بل يكون تابعاً لتلك العلّة أينما وجدت، يتوقّف على أُمور ثلاثة:

الأمر الأوَّل

أنْ تكون العلّة من العناوين العرفية التي تكون معرفتها بيد العرف ليصلح أنْ يخاطب بها المكلف، وتلقى عهدتها عليه فعلاً أو تركاً، وذلك مثل الإسكار ونحوه من العناوين العرفية القابلة للإلقاء على عاتق المكلّف، أمّا لو لم تكن العلّة من هذا القبيل، بل كانت أمراً مجهول الحقيقة عند العرف مثل النهي عن الفحشاء بالنسبة إلى الأمر بالصلاة ونحو ذلك من العلل التي يجهلها العرف ولا يمكن أنْ تلقى إليه وأنْ يكلّفوا بها، لم تكن العلّة المذكورة صالحة لأنْ تكون من منصوص العلّة، ولا يتعدّى عن مورد الحكم إلى ما توجد فيه العلّة ممّا هو خارج عن مورد الحكم المذكور، بل تكون حينئذٍ من قبيل حكمة التشريع غير المطّردة ولا المنعكسة.

الأمر الثاني

أنْ لا يكون للحكم المعلّل إضافة إلى المورد، بحيث نحتمل فيه أنْ تكون العلّة المذكورة علّة لحكم خصوص ذلك المورد دون غيره ممّا وجدت فيه تلك العلّة، كأنْ يقول: (إنَّ تحريم الخمر لأجل الإسكار)، فإنَّه يحتمل فيه كون الإسكار علّة لخصوص حرمة الخمر دون غيره ممّا وجد فيه الإسكار، بل لا بُدَّ أنْ يؤخذ الحكم المذكور

ص: 47

- أعني التحريم مطلقاً - لتكون العلّة المذكورة - أعني الإسكار - علّة لذلك الحكم المطلق ليسري الحكم إلى كلّ ما وجدت فيه تلك العلّة.

الأمر الثالث

أنْ لا يكون للعلّة المذكورة إضافة إلى خصوص المورد بحيث يحتمل أنْ تكون العلّة في ذلك الحكم هو خصوص المضاف منها إلى ذلك المورد دون غيرها ممّا يضاف إلى الموارد الأُخر، كأنْ يقول: (الخمر حرام لإسكاره)، فإنَّه يحتمل فيه كون العلّة في التحريم هو خصوص الإسكار المضاف إلى الخمر دون مطلق الإسكار، بل لا بُدَّ أنْ تكون العلّة المذكورة مطلقة بأنْ يقول: (الخمر حرام لأجل الإسكار)؛ لتكون العلّة في التحريم هو مطلق الإسكار، وتكون صحّة التعليل متوقّفة على تحقّق الكبرى الكلّية القائلة: (إنَّ كلّ مسكر حرام)، فيكون التحريم سارياً إلى كلّ مورد تتحقّق فيه العلّة المذكورة، أعني الإسكار, بخلاف ما لو قال: (الخمر حرام لأجل إسكاره)، فإنَّ صحّة التعليل فيه لا تتوقّف على تحقّق تلك الكبرى الكلّية، بل يكفي في صحّته كون إسكار خصوص الخمر علّة في تحريمه من دون حاجة إلى تلك الكبرى الكلّية.

وبالجملة: لا يمكن أنْ يكون التعليل راجعاً إلى الكبرى الكلّية إلّا حيث يكون حسن التعليل أو صحّته متوقّفاً على تحقّق تلك الكبرى، ولا يكون ذلك متوقّفاً على ما ذكر إلّا بعد تحقّق هذه الأُمور الثلاثة، ولو اختلّ واحدٌ منها لم تكن صحّة التعليل متوقّفة على تلك الكبرى ليكون ذلك التعليل طريقاً إلى استكشاف تلك الكبرى الكلّية)(1).

أمّا الأمر الأوَّل الذي ذكره (رحمة الله) فهو واضح، لكن الكلام في الأمرين الثاني والثالث، أي إضافة العلة أو الحكم إلى المورد مانع عن جريان الإطلاق، فلم يرتضها بعض

ص: 48


1- أصول الفقه، للشيخ حسين الحلي (رحمة الله): 5/294 - 295.

الأعلام ومنهم السيد الخوئي (رحمة الله)، فقد ناقشهما على ما في هامش أجود التقريرات حيث قال: (لا يخفى أنَّ هذا الاحتمال إنَّما هو على خلاف ما هو المرتكز في أذهان العرف من دوران كلّ حكم مدار علّته، ومن أنَّ العلّة المذكورة في الكلام هي بنفسها علّة للحكم، مع قطع النظر عن خصوصية قيامها بالموضوع المذكورة في القضية.. وبالجملة لا نشكّ في أنَّ ما يستفاد عند أهل العرف من قضية (لا تشرب الخمر لأنَّه مسكر) بعينه هو المستفاد من قضية (لا تشرب الخمر لإسكاره)..)(1).

أقول: يمكن مناقشة قول الميرزا (رحمة الله)، بأنْ نقول بالتفصيل بين المقدّمة الثانية والثالثة، أمَّا في المقدّمة الثالثة فكلامه تامّ؛ لاندراجها تحت كبرى (احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية) المانعة من التمسّك بالإطلاق. ولتوضيح ذلك نحتاج لبيان المراد من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية، فنقول:

إنَّ موردها الشكّ في قرينية الموجود، ولكي تتحقّق لا بُدَّ من توفّر أُمور:

1. أنْ يكون هناك شيء موجود محرز محتفٍ بالكلام - متصل به - ولا يكفي احتمال وجوده.

2. أنْ يكون ما يدلّ عليه ذلك الموجود يدور أمره بين أكثر من مدلول ومعنى، ولم يتمّ تشخيص معناه بحدّه، أي هناك شكّ في الظهور سواء أكان ذلك الشكّ على نحو دوران الأمر بين المتباينين، أم بين الأقلّ والأكثر.

3. أنْ يكون أحد تلك المداليل والمعاني المحتملة على تقدير ثبوته قرينة مفسّرة لذلك الكلام، وهذا معنى كونه صالحاً للقرينية، أي الشيء الموجود على أحد محتملاته يكون قرينة.

ص: 49


1- أجود التقريرات: 2 /380 - 381.

ومع تحقّق هذه الأُمور يرتفع الظهور الأوّلي للكلام، قال في أجود التقريرات: (وبوجود ما يصلح للقرينة لا ينعقد للكلام ظهور أصلاً ويكون من المجملات)(1).

وذكر السيد الشهيد (رحمة الله) في مباحث الأُصول: (وإنْ كان الشكّ في قرينية الموجود المتصل فلا تجري أصالة عدم القرينة، لما عرفت من أنَّ النكتة في أصالة عدم القرينة المتصلة إنَّما هو غلبة عدم الغفلة، فمع الشكّ في القرينة من جهة أُخرى كاحتمال معنىً معيّن للفظ المتصل على تقديره يكون قرينة، لا يمكن نفيها بأصالة عدم القرينة، وبالتالي لا يحرز موضوع الظهور كي نتمسّك بأصالة الظهور)(2).

وعليه فكما لا يمكن التمسّك بالإطلاق مع وجود القرينة، كذلك لا يمكن التمسّك به مع وجود ما يصلح للقرينية.

ومقامنا من هذا القبيل, فإنَّ إضافة العلّة إلى الضمير فيها احتمالان:

الأوَّل: اختصاص العلّة بذلك المورد.

والآخر: عمومها لبقية الموارد.

فهو على الاحتمال الأوَّل يكون قرينة على الاختصاص، فتندرج في كبرى الاحتفاف بعد عدم تعيّن أحد الاحتمالين.

وأمّا الأمر الثاني فلا يندرج تحت كبرى الاحتفاف؛ لعدم تعدّد الاحتمالات المتكافئة بعد عدم الموجب لذلك. ومجرد احتمال ذلك لا يمنع من تماميّة الإطلاق بعد عدم كونه احتمالاً معتدّاً به.

وعلى كلّ حال، فقد اتضح ممّا تقدَّم أنَّ مرجع هذا النحو من إلغاء خصوصيّة المورد إلى الإطلاق.

ص: 50


1- أجود التقريرات: 3 / 156.
2- مباحث الأصول: ق2: 2/ 195.

النحو الثالث: قاعدة عموم البدلية

قال (رحمة الله) في شرحه للمفاتيح: (وأمَّا من عموم البدلية، مثل حكمهم في التيمّم بوجوب تقديم اليمنى على اليسرى؛ لأنَّه بدل، والمنشأ في هذا أيضاً الفهم العرفي)(1).

وكذا في الفوائد الحائرية(2)

الفائدة (11)، وفي الفائدة (15) من الفوائد الجديدة قال:

(اعلم أنَّ الفقهاء يُجرون في البدل الشرعي عن المبدل منه الشرعي أحكام ذلك المبدل منه إلّا أنْ يثبت خلاف ذلك من الشرع، مثلاً: يحكمون في التيمّم بوجوب البدأة من الأعلى في المسح، وترتيب اليدين بتقديم اليمين على اليسار، وغير ذلك. وكذا وجوب الإخفات في التسبيح بدل الحمد في الركعتين الأخيرتين، وغير ذلك ممّا لا يحصى. والظاهر أنَّ دليلهم هو الفهم العرفي، ألا ترى أنَّ عمّاراً تمعك في التراب وتمرّغ في تيمّمه مع صلاحه وتقواه وتديّنه وكونه من أهل المعرفة واللسان، ولعلّك بملاحظة محاورات العرف ومعاملاتهم يظهر ذلك عليك. وبالجملة: أيّ موضع يتحقّق فيه الفهم العرفي يمكن الاستناد والاحتجاج. وأمَّا كون الأمر كذلك كلّياً فمحتمل، ويحتاج ثبوت ذلك إلى تأمّل تامّ، وعرفت في الفوائد اعتبار الفهم العرفي وكونه حجّة، فلاحظ وتأمّل)(3).

واستدلّوا على أصل القاعدة بما دلّ على بدلية فعل مكان فعل آخر كأدلّة التيمّم ونحوه. ولا كلام لهم في ثبوت أصل القاعدة، وإنَّما الكلام في عمومها، بمعنى أنَّ جميع أحكام وشروط وأجزاء المبدل منه هل تثبت للبدل بمجرّد ذلك أم لا؟ فقد وقع الخلاف في ذلك.

ص: 51


1- مصابيح الظلام: 1 / 38.
2- الفوائد الحائرية: 150.
3- الفوائد الحائرية: 431 - 432.

ذهب الوحيد (رحمة الله) إلى العموم إلّا أنْ يثبت خلاف ذلك كما تقدّم، وكلامه يرجع إلى الفهم العرفي والارتكاز، فمنشأ التعميم هو ما ارتكز في الأذهان من أنَّ البدل يقوم مقام المبدل منه، وأنَّ له كلّ ما للمبدل منه، إلّا ما خرج بالدليل. ومع هذا الارتكاز العرفي في أذهان السامعين يمكن دفع إشكال عدم العموم والإطلاق من جهة عدم كون المتكلّم في مقام البيان من جهة الكيفية والشروط والأجزاء للبدل، وإنَّما هو في مقام البيان من جهة أصل مشروعية البدل.

فأدلّة البدلية بقطع النظر عن ذلك الارتكاز المدّعى لا يظهر منها أكثر من ذلك.

ثُمَّ إنَّ ثبوت هذا الارتكاز من عدمه بحاجة إلى جمع المؤيّدات والشواهد، وهذا ما حاول الوحيد (رحمة الله) تحصيله، وذكر لذلك هنا شاهدين:

الأوَّل: حادثة تيمّم عمّار بدلاً عن الغسل. وهذه الحادثة ذُكرت في أكثر من رواية وبأسانيد تامّة، نذكر منها ما رواه أبو أيوب الخزّاز عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: سألته عن التيمّم؟ فقال: (إنَّ عمّاراً أصابته جنابة فتمعّك كما تتمعّك الدابّة، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): يا عمّار تمعّكت كما تتمعّك الدابة! فقلت له: كيف التيمّم؟ فوضع يده على المسح، ثمَّ رفعها فمسح وجهه، ثمَّ مسح فوق الكف قليلاً)(1).

وذكر الوحيد (رحمة الله) - في مقام الاستدلال على اشتراط الترتيب في التيمّم -:

(ويشهد عليه أيضاً عموم المنزلة، وتوقيفية العبادة، وقاعدة البدلية؛ لأنَّ أهل العرف إذا علموا بهيئة وكيفية في المائية ثُمَّ سمعوا أنَّه إذا لم يوجد الماء فالتراب، أو بدله التراب عند العذر، وأمثال هذه العبارات لا يفهمون منها إلّا أنَّ الترابية بهيئة المائية، إلّا أنْ تثبت المخالفة من الخارج..

ص: 52


1- الوسائل، أبواب التيمّم، ب11، ح2.

ومن هذا ترى عمّاراً مع كونه مدنيّاً مطيعاً من أهل الفهم جزماً فعل في مقام إطاعة الواجب من الله تعالى ما فعل، وليس ذلك إلّا من الجهة التي ذكر، ولذا لم يُشنّع عليه بأنَّ هذا الخيال من أين؟ وبأي جهة؟ بل مازح معه بما مازح.. ولذا اتفق أفهام الكلّ في قول الفقهاء: إنْ لم يوجد التراب فالغبار، وإنْ لم يوجد فالطين، إلى غير ذلك، وكذا في ما ورد في الأخبار، بل في بعضها فتيمّم بالطين، أو تيمّم بالغبار، أو ما يؤدّي ما ذكرت من العبارة، وإن كان بتفاوت في التعبير.

وبالجملة: أيُّ فرق بين أنْ يقال: إنْ لم تجدوا ماءً فبالتراب، وإنْ لم تجدوا تراباً فبالغبار، وأمثال ذلك، كما ورد في الأخبار. وأمَّا في الغبار والطين يفهم اتحاد الهيئة على اليقين من دون شكّ، وليس ذلك من الاطلاع عن الخارج، إذ لو عرض هذه العبارة على أهل العرف يفهمون كذلك البتة، حتّى لو وجدوا من الفقهاء مخالفة في ذلك كُلّا ً أو بعضاً لحكموا بثبوت مانع، أي دليل شرعي يمنع من الإطلاق أو العموم، أو يمنع عموماً. كما أنَّ الحال في الماء كذلك، مثل قوله: إنْ لم يكن ماءً مجمّداً وثلجاً، يفهم أنَّ الوضوء أو الغسل من الجمد والثلج مثل الماء، فتأمّل جيداً)(1).

أقول: قد يحمل فعل عمّار (رحمة الله) على احتياطه في ذلك مع جهله بكيفية التيمّم، فلا يكشف ذلك حينئذٍ عن الارتكاز عند الفهم النوعي للعرف، وعلى كلّ حال فاستكشاف الفهم العرفي والارتكاز قائم على عدم إنكار النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لذلك الارتكاز المدّعى في ذهن عمّار. والإنكار ليس ببعيد بعد وصفه (صلی الله علیه و آله و سلم) لفعل عمّار (رحمة الله) بأنّه كتمعّك الحمار.

وفي الجواهر في مقام الاستدلال على الموالاة في التيمّم بعموم المنزلة والبدلية، قال: (وإنْ كان قد يشهد له في الجملة تمرّغ عمّار وهو من أهل اللسان. إلّا أنَّه يدفعه عدم

ص: 53


1- الحاشية على مدارك الأحكام: 2/ 137- 138. وانظر مصابيح الظلام: 4/ 359.

مساواتها للكيفية في الانصراف، على أنَّه قد رُدّ ذلك على عمّار، فعُلم أنَّ المراد بالمنزلة البدلية في الإباحة لا الكيفية)(1).

وأمَّا الاستشهاد ببدلية التيمّم بالغبار أو الطين عن التيمّم بالتراب، فالظاهر أنَّه ليس في محلّه بعد أنْ بُيّنت كيفية التيمّم بالتراب، فالبدلية هي في متعلّق التيمّم بعد معرفة كيفية التيمّم، وهذا بخلاف بدلية التيمّم عن الوضوء، فإنَّ المفروض أنَّ أصل الكيفية غير معلومة لولا البيان من الشارع. فحال بدلية التيمّم بالغبار عن التيمّم بالتراب كحال بدلية الوضوء بالتراب عن الوضوء بالماء، فإنَّ الذي يفهمه العرف المطّلع على كيفية الوضوء - لو تُرك من دون بيان لكيفية التيمم من الشارع - هو إيصال التراب بنفس كيفية إيصال الماء إلى كلّ أجزاء الوضوء.

الثاني: ما ذكره (رحمة الله) نقلاً عن التذكرة من الإجماع, حيث قال: (.. قال في مبحث التيمّم في التذكرة: يجب فيه تقديم اليمنى على اليسرى بإجماعنا؛ لأنَّه بدل ممّا يجب فيه التقديم؛ إذ يظهر منه أنَّ جميع المجمعين استندوا إلى قاعدة البدلية في الحكم المجمع عليه، واستندوا أيضاً في وجوب البدأة بالأعلى في الوجه والكفّين بهذه القاعدة)(2).

أقول: تمامية هذا الوجه بحاجة إلى إثبات عدم المخالف المضرّ بالإجماع أوَّلاً. وإلى كون مستندهم هو قاعدة البدلية ثانياً. وفي كليهما نظرٌ.

أمَّا ثبوت الإجماع فكثير من عبارات المتقدّمين ظاهرة في وجوب الترتيب في التيمّم كما في المبسوط (1: 34)، والخلاف (1: 138)، والمقنعة (64)، والمراسم (54)، والسرائر (1: 137). لكن عبارة الصدوق (رحمة الله) في المقنع والهداية ظاهرهما عدم الترتيب.

ص: 54


1- جواهر الكلام: 5/ 176- 177.
2- الحاشية على مدارك الأحكام: 2 / 137.

قال (رحمة الله) في المقنع: (ثُمَّ تدلك إحدى يديك بالأُخرى فوق الكفّ قليلاً)(1). وفي الهداية: (ويمسح على ظهر كفّيه)(2).

وأمَّا كون مستند المجمعين هو قاعدة البدلية فهو أوَّل الكلام بعد أنْ كانت هناك مستندات أُخرى استندوا إليها في الموارد المختلفة، كالأخبار البيانية.

بل عبارة التذكرة التي أشار إليها الوحيد (رحمة الله) غير ظاهرة في أنَّ المستند هو قاعدة البدلية, حيث قال: (الترتيب واجب في التيمّم يبدأ بمسح الوجه، ثُمَّ بالكف اليمنى، ثُمَّ اليسرى، فلو غيّره وجب أنْ يعيد على ما يحصل به الترتيب، ذهب إليه علماء أهل البيت (علیهم السلام) لقوله تعالى: ﴿فَامْسَحُوا بِوجُوهِكُم﴾ والواو للترتيب عند الفرّاء، ولأنَّ التقديم لفظاً يستدعي سبباً الترجيح من غير مرجّح ولا سبب إلّا التقديم وجوباً..)(3).

والنتيجة: إنَّ مرجع عموم البدلية عند الوحيد (رحمة الله) إلى ذلك الفهم العرفي الناشئ من الوضوح والارتكاز.

النحو الرابع: عموم المنزلة

اشارة

قال (رحمة الله) في شرحه لمقدّمة المفاتيح: (وأمَّا من عموم المنزلة، مثل: إنَّ التيمّم بمنزلة الطهارة المائية)(4).

ونحوه ما ذكره في الفائدة (11)(5)

من الفوائد الرجالية.

والمراد من المنزلة أو التنزيل هو: جعل شيء مكان شيءٍ آخر بلحاظ الآثار، من دون اعتبار كونه مصداقاً له، فلا يعتبر فيه ولم يلحظ عدم التمكّن من المنزَّل عليه، أو

ص: 55


1- المقنع: 26.
2- الهداية: 88.
3- التذكرة: 2/ 196 - 197.
4- مصابيح الظلام: 1/ 38.
5- الفوائد الحائرية: 150.

عند عدم الإتيان بالمنزَّل عليه.

وبهذا يختلف عن البدل، فهو وإنْ كان جعل شيء مكان شيء آخر بلحاظ الآثار أيضاً، لكن الملحوظ فيه هو إمَّا عدم التمكّن من المنزَّل عليه أو عدم الإتيان بالمنزَّل عليه.

وقد ذُكر في معجم مقاييس اللغة(1) في تعريف البدل: (بدل: الباء والدالّ واللام أصل واحد وهو قيام الشيء مقام الشيء الذاهب). وذكر في تعريف التنزيل: (والتنزيل: ترتيب الشيء ووضعه منزله)(2).

فجهة الاشتراك بين التنزيل والبدلية هي: أنَّ المغايرة بينهما وبين الأصل باقية حتّى اعتباراً ومجازاً.

وجهة الاختلاف هي: أنَّ التنزيل لم يلحظ فيه عدم الإتيان بالمنزَّل عليه، بخلاف البدل فإنَّه لوحظ فيه ذلك.

ولأجل جهة الاشتراك تلك نجد في جملة من عبارات الوحيد وغيره عطف إحداهما على الأُخرى ما ظاهره عطف تفسير. وكذا نجد ما يعبّر عنه الآخرون بالتنزيل يعبّر عنه بالبدليّة أو العكس، بل في عباراته المختلفة كذلك.

نعم، في بعض عباراته يظهر أقوائية التنزيل من البدليّة. قال (رحمة الله) في شرح مراد الفيض الكاشاني (رحمة الله) من كون التراب مبيحاً مكان الوضوء كذلك: (ومراده من البدليّة ما يستفاد من المشابهة، مثل قول الصادق (علیه السلام): (إنَّ الله جعل التراب طهوراً، كما جعل الماء طهوراً)، وقوله (علیه السلام): (إنَّ ربَّ الماء هو ربُّ الأرض)، في مقام التعليل لكفاية التيمّم. وقوله (علیه السلام): (أحد الطهورين)، (جعلهما طهوراً).. إلى غير ذلك.

وأقوى من الكلّ عموم المنزلة الواردة في بعض الصحاح من قوله: (هو بمنزلة

ص: 56


1- معجم مقاييس اللغة: 79.
2- المصدر السابق: 857.

الماء)؛ لأنَّه دلالة عرفية مسلّم عندنا؛ لأنَّهم: إذا قالوا: هو بمنزلة هذا، يفسّرون ذلك بأنَّ كلّ منزلة من منازله يكون موجوداً فيه أيضاً، فيظهر منه أيضاً أنَّه يبيح كلّ ما يبيحه المائية، بل يظهر منه استحبابه أيضاً لسائر ما يستحبّ له المائية)(1).

ولعلّ ذلك ناشئ من أنَّ الإطلاق في التنزيل يكون أوضح باعتبار أوضحيّة نظر المتكلّم في مقام بيانه إلى ترتيب الآثار؛ ومن هنا احتجنا إلى التكلّف لإثبات إطلاق وعموم البدليّة إلى إثبات ذلك الارتكاز والفهم العرفي، كما تقدّم.

وفي هذه المسألة أيضاً يوجد خلاف في عموم التنزيل. فذهب البعض إلى أنَّ التنزيل إنَّما يتمّ بلحاظ أبرز الآثار، جاء في تقريرات السيد الخوئي (رحمة الله): (نعم، ورد في الصحيحة هذا المضمون: أنَّ مَن بقي شهراً في مكّة فهو بمنزلة أهلها، فربَّما يدّعى أنَّ مقتضى عموم التنزيل جريان أحكام الأهل بتمامها التي منها اعتبار حدّ الترخّص.

ويندفع أوَّلاً: بأنَّ المتبادر من التنزيل أنْ يكون بلحاظ أظهر الآثار، وهو في المقام إتمام الصلاة، فلا يشمل غيره)(2).

في حين ذهب البعض إلى عموم التنزيل، بل جعله الوحيد كما تقدّم (مسلّم عندنا).

أقول - والله العالم - قد يقال: إنَّ ثبوت إطلاق عموم التنزيل من عدمه متوقّف على تماميّة مقدّمات الحكمة، وبالخصوص المقدّمة الأُولى، أي: كون المتكلّم في مقام البيان من هذه الجهة، فللقائل بالعموم ادّعاء أنَّ الجهة الملحوظة هي جميع الآثار. وللآخر القول: إنَّ ملحوظ المتكلّم هو أبرز الآثار. والأقرب هو القول بالعموم، فمثلاً في (الطواف بالبيت صلاة) نزَّل المتكلّم الطواف منزلة الصلاة، أي جعله هو بلحاظ الآثار لا أنَّه مصداق له اعتباراً ومجازاً، فالملحوظ للمتكلّم المنُزِّل هو ترتيب آثار المنُزَّل عليه

ص: 57


1- مصابيح الظلام: 4/ 199- 200.
2- موسوعة الإمام الخوئي (رحمة الله): 20 / 216- 217.

على المنُزَّل، ولا معنى لاختصاص ذلك بأثرٍ دون أثر، إلّا مع وجود المرجّح، أي ما يكون مقيّداً أو موجباً للانصراف. وكون الأثر الأوَّل أوضح وأبرز من الأثر الثاني لا يوجب ذلك الانصراف ما لم ينطبق عليه أحد مناشئ الانصراف.

نعم, هناك إشكال في التمسّك بإطلاق التنزيل ذكره السيد الشهيد (رحمة الله) مع جوابه وحاصله:

(هنا إشكال عامّ في التمسّك بإطلاقات أدلّة التنزيل في حالة وجود القدر المتيقّن من ناحية نفس المتكلّم، وحاصله: أنَّ الإطلاق إنْ كان ناشئاً من مقدّمات الحكمة المعروفة فلا يضرّ به وجود القدر المتيقّن، وأمَّا إذا كان ناشئاً من نكتة خاصّة مبنيّة على عدم وجود القدر المتيقّن من ناحية الكلام فينثلم بوجودها.

والإطلاق في دليل التنزيل ليس من قبيل الأوَّل؛ لوضوح أنَّ مقدّمات الحكمة إنَّما تجري دائماً في طرف الموضوع للقضية الحملية، لا في طرف محمولها، فإذا قيل: (الفقيه عالم) يثبت بمقدّمات الحكمة أنَّ كلّ فقيه عالم، لا أنَّ الفقيه عالم بكلّ علم، بل يكفي أنْ يكون عالماً بعلمٍ واحدٍ؛ لأنَّ المحمول يلحظ بنحو صرف الوجود، وفي دليل التنزيل قد وقع التنزيل محمولاً فقيل مثلاً: (الخمر كلحم الخنزير) أو (الطواف صلاة)، فيكفي صِرف التنزيل ولو بلحاظ أثر لإشباع حاجة القضية إلى محمول، فيثبت بالإطلاق أنَّ كلّ طوافٍ صلاة، لا أنَّ الطواف بمنزلة الصلاة في كل منازلها وشؤونها.

وإنَّما ينعقد الإطلاق في دليل التنزيل بدلالة الاقتضاء العرفية في حالة عدم وجود قدر متيقّن في البين؛ لأنَّ ظهور الكلام في إفادة أمر عملي مع عدم التعيين، وعدم التعيين يوجب فهم الإطلاق، وأمَّا مع وجود المتيقّن بقرينةٍ خاصّة، أو بالانسياق الارتكازي لأثرٍ مخصوص لأظهريته ووضوحه فلا موجب للتمسّك بإطلاق دليل التنزيل لإثبات سائر الآثار.

ص: 58

والجواب على هذا الإشكال: أنَّ العناية التي تصحّح جعل الطواف صلاة - مثلاً - لها مراتب، وكلّما كان الطواف واجداً لمرتبة أكبر من خصوصيات الصلاة كانت العناية المذكورة أخفّ، وبهذه النكتة يثبت الإطلاق في أدلّة التنزيل، أو على الأقلّ في ما كان بلسان حمل المنُزَّل عليه على المنزَّل، فتدبّر جيّداً)(1).

بيان ذلك: هناك ثلاثة أمور لها دخل في إثبات الإطلاق من عدمه في المقام:

الأمر الأوَّل

الإطلاق الناشئ من مقدّمات الحكمة. وهو غير جارٍ في المقام كما بُيّن في أصل الإشكال - وإنْ كان هناك جملة من الأعلام قد ذهبوا إلى جريان الإطلاق المحمولي -.

نعم, عدم جريانه لا يمنع من جريان الإطلاق بطريق آخر.

الأمر الثاني

دلالة الاقتضاء العرفية لدليل التنزيل, وهي لا تقتضي الإطلاق أيضاً لدليل التنزيل, ببيان: أنَّ دلالة الاقتضاء تعني أنَّ الكلام نفسه لا يدلّ على ذلك الظهور المعيَّن بنفسه, وإنَّما يدل عليه بتوسط المناسبات العقلية أو العرفية أو الشرعية المكتنفة بذلك الكلام ممّا يوجب تقدير أمر ما بحسب تلك المناسبة.

وعليه، فدلالة الاقتضاء لدليل التنزيل تقتضي تقدير أمر, والأمر المقدَّر هو الآثار, ولمَّا كان التقدير يتقدَّر بقدره, وبلا حاجة لتقدير ما هو أكثر ممّا تتم به الدلالة العرفية, والدلالة العرفية هنا تتم بالقدر المتيقّن للآثار, أو بالأثر الأظهر والأبرز المرتكز في الذهن والموجب للانصراف إليه. فلا موجب مع دلالة الاقتضاء لإطلاق التنزيل لجميع الآثار.

الأمر الثالث

نفس عملية التنزيل بما هي هي وبقطع النظر عن دخالة أي أمر

ص: 59


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/ 421 - 422.

خارج عنها بما في ذلك دلالة الاقتضاء. وهذا الأمر يقتضي الإطلاق لدليل التنزيل, ببيان: أنَّ عملية التنزيل أمر اعتباري عنائي فلا بُدَّ له من عناية ومصحّح لحالة الاستعمالات المجازية وبقية الأمور الجعلية والاعتبارية, والعناية أو المصحّح لعملية التنزيل - كما تقدَّم - هو ترتيب آثار وخصوصيات المنزَّل عليه على المنزَّل.

وهذه العناية يدور أمرها بين احتمالين: إمَّا ترتيب خصوص الآثار التي تمثّل القدر المتيقّن, أو ترتيب جميع الآثار. والأوَّل بحاجة لمؤونة التقييد بالقدر المتيقّن بعد ملاحظة أنَّ نفس عملية التنزيل ومن دون ملاحظة أمر آخر كدلالة الاقتضاء لا تقتضي التقييد بالقدر المتيقّن, وذلك بخلاف الاحتمال الآخر. فيتعيَّن الاحتمال الآخر؛ لأنَّه الأقلّ مؤنة.

إذاً نفس عملية التنزيل بما فيها من مصحّح وعناية تقتضي التنزيل بلحاظ جميع الآثار.

وبعد بيان ذلك نقول: إنَّ المحَكَّم في المقام هو الأمر الثالث لا الثاني, فإنَّ الأمر الثاني - أي دلالة الاقتضاء - بعد كونها خارجة عن نفس عملية التنزيل بما هي هي, إنَّما يصار إليها بعد تمام عملية التنزيل.

وبعبارة أخرى: إنَّ دلالة الاقتضاء تعني أنَّ صدق الكلام متوقف على تقدير أمر ما, فإذا كان نفس الكلام صادقاً من دون حاجة لذلك التقدير فلا موجب لجريان دلالة الاقتضاء. وكلامنا من هذا القبيل كما بُيّن آنفاً.

وعليه فدليل التنزيل يقتضي الإطلاق بلحاظ الآثار إطلاقاً غير ناشئ من مقدّمات الحكمة, بل للنكتة الخاصّة المقدّمة.

ثُمَّ إنَّ هذا الإشكال مع جوابه يأتي في (عموم الشباهة) وأيضاً في (عموم البدلية) على تقدير ظهور أدلتها في الإطلاق.

وعلى كلّ حال: قد اتضح أنَّ مرجع هذا النحو من إلغاء الخصوصية إلى الإطلاق.

ص: 60

النحو الخامس: عموم الشباهة

قال (رحمة الله) في شرحه لمقدّمة المفاتيح: (وأمَّا من عموم الشباهة كما في تشبيهات الشارع واستعاراته في مقام يظهر منه أنَّ الشباهة في الحكم الشرعي، وأنَّ الغرض أنْ يفهم الراوي لذلك، هذا إذا كان جميع وجه الشبه على سواء في الظهور وانصراف الذهن، أو القدر الذي يكون كذلك مثل (الطواف بالبيت صلاة) و(الفقاع خمر) وإطلاق الخمر على النبيذ، وغير ذلك، وهذا أيضاً منشؤه الفهم العرفي)(1).

والظاهر أنَّ فرقها عن عموم المنزلة هو لسان الدليل، فعموم المنزلة ما كان بلسان التنزيل، وعموم الشباهة ما كان بلسان التشبيه والاستعارة ونحوها، ولأجل التساهل في الفرق من هذه الجهة تجد أنَّ الأمثلة التي ذكرها البعض للتنزيل قد ذكرها (رحمة الله) للتشبيه كما في (الطواف بالبيت صلاة). نعم، هناك فارق أهمّ ستأتي الإشارة إليه.

ثُمَّ إنَّ الوحيد (رحمة الله) قد ذكر بعض الأُمور التي يلزم توفّرها حتّى يتمّ عموم التشبيه، وهي:

1. أنْ يكون التشبيه في الحكم الشرعي، وشرطه واضح، فإنَّ ذلك هو ما يحقّق تسرية الحكم إلى الشبيه؛ فإنَّ تشبيه الشارع له في الحكم يعني سراية ذلك الحكم إليه. وأمَّا التشبيه بغير حكم المشبّه به من صفات وآثار فلا يقتضي سراية الحكم كذلك. فمثلاً تشبيه الطواف بالصلاة من جهة أنَّها معراج المؤمن، لا يقتضي ذلك ثبوت أحكام الصلاة من طهارة ونحوها للطواف.

وهذا الشرط لا بُدَّ من توفّره أيضاً في البدلية والتنزيل، كما هو واضح.

نعم, يكفي لإحراز هذا الشرط عدم وجود قرينة على الخلاف، فإنَّ مقتضى الأصل

ص: 61


1- مصابيح الظلام: 1/ 38.

في تشبيهات وتنزيلات الشارع بما هو شارع هو التشبيه والتنزيل في الحكم، لأنَّ مقتضى الظهور الحالي للشارع بما هو شارع هو تشريع وبيان الأحكام.

2. أنْ تكون جميع وجوه الشبه على سواء في الظهور وانصراف الذهن، أو القدر الذي يكون كذلك. ويتفرّع على ذلك أنَّه إذا كان بعض الوجوه والأحكام أظهر ينصرف إليها التشبيه، ويسري سراية الحكم إليه بالخصوص. فإذا فرضنا - مثلاً - أنَّ حرمة الخمر هي أظهر من نجاسته، فيكون حينئذٍ الحكم الذي يسري للفقّاع نتيجة التشبيه هو خصوص الحرمة دون النجاسة.

ثُمَّ إنَّ هذا الوجه إنْ تمّ في التشبيه فلا يتمّ في التنزيل عنده لما ذكره في النصّ المتقدّم من أقوائية التنزيل من البدلية والتشبيه، فإنَّ الذي يظهر منه أنَّ أقوائية التنزيل هو من جهة أنَّ عمومه مسلّم عندهم.

ولعلّ هذا هو الفارق المهمّ عنده (رحمة الله) بين التنزيل والتشبيه.

لكنّ الذي يظهر - والله العالم - أنَّ تمامية العموم في التشبيه وكذلك التنزيل والبدلية متوقّفٌ على تماميّة الإطلاق من عدمه المتوقّف على الإشكال المتقدّم للسيد الشهيد (رحمة الله) أو جوابه.

ثُمَّ إنَّ مرجع هذا النحو من إلغاء خصوصية المورد عند الوحيد (رحمة الله) إلى الإطلاق.

النحو السادس: قاعدة اتّحاد طريق المسألتين

قال (رحمة الله) في شرحه لمقدّمة المفاتيح في مقام تعداد طرق التعدّي على نحو الظنّ: (وأمَّا من اتّحاد طريق المسألتين، مثل: الحكم بتحريم ذات البعل بالزنا بها بسبب تحريم المعتدّة بالعدّة الرجعية بالزنا بها، للنصّ على أنَّها بحكم الزوجة، فالزوجة بطريقٍ أولى، فإنَّ الظاهر من الفقهاء أنَّه ليس بقياس أصلاً، وأنَّ المنشأ الفهم العرفي، وهو كذلك بعد وجود ذاك النصّ وملاحظته. ويعضده تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلّية، سيّما

ص: 62

وهذا الوصف شرط في التحريم بلا ريبة، مضافاً إلى الاستقراء في كون حكمها حكم ذات البعل في كثير من الأحكام)(1).

وقال (رحمة الله) في الفوائد الحائرية: (وممّا يوجب التعدّي أيضاً اتّحاد طريق المسألتين، مثل: الحكم بتحريم ذات البعل بالزنا بها بسبب تحريم المعتدّة بالعدّة الرجعية بالزنا بها، للنصّ على أنَّها بحكم الزوجة، فالزوجة أولى، فإنَّ الظاهر من الفقهاء أنَّه ليس بقياس أصلاً، وأنَّ المنشأ الفهم العرفي، وهو كذلك بعد وجود ذلك النصّ وملاحظته. ويعضده تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلّية؛ سيّما وهذا الوصف شرط في التحريم بلا ريبة. مضافاً إلى الاستقراء في كون حكمها حكم ذات البعل في كثير من الأحكام)(2).

ولاستيضاح المراد من هذه القاعدة نذكر جملة من كلمات الأعلام في بيانها:

ففي التنقيح الرائع ذكرها في ضمن تعداد أدلّة الدليل العقلي، حيث قال:

(الخامس: اتّحاد طريق المسألتين، وهو تعليق الحكم على وصف هو سبب التحريم، فيتعدّى إلى كلّ محل يوجد فيه ذلك الوصف، كالحكم بتحريم ذات البعل المزني بها لتحريم المعتدّة الرجعية مع الزنا بها، للنصّ على أنَّها بحكم الزوجة، فالمزوجة أولى) ثمَّ قال: (وهذه الثلاثة [أي مفهوم الموافقة، ومنصوص العلّة، واتّحاد طريق المسألتين] ليست من القياس بل هي في حكم المنصوصة)(3).

وفي المهذّب البارع (.. أو للنصّ على علّية الحكم ويسمّى اتّحاد طريق المسألتين، كقوله وقد سُئل عن بيع الرطب بالتمر: أينقص إذا جف؟ قالوا: نعم. قال: إذن

ص: 63


1- مصابيح الظلام: 1/ 38.
2- الفوائد الحائرية: 149 - 150.
3- التنقيح الرائع: 1/ 7.

لا يصلح)(1).

وهو ظاهر في إرجاع القاعدة إلى منصوص العلّة.

وفي رسائل الشهيد الثاني (رحمة الله): (والظاهر أنَّ التخريج وهو تعدّية الحكم من منطوق إلى مسكوت عنه ضرب من القياس الجليّ، كما يقال: ضرب الوالدين حرام؛ لأنَّ أُفّهما حرام، وقد يسمّى بالتنبيه بالأدنى على الأعلى، وكذا اتّحاد طريق المسألتين قياس جليّ أيضاً)(2).

ومرادهم من القياس الجليّ هو قياس الأولوية.

وفي المدارك (والترجيح: تعدّية الحكم من منطوق به إلى مسكوت عنه، إمَّا لكون المسكوت عنه أولى بالحكم وهو التنبيه بالأدنى على الأعلى.. أو للنصّ على علّية الحكم ويسمّى اتّحاد طريق المسألتين)(3).

وهو نصّ في إدراج القاعدة تحت منصوص العلّة.

وعلى كلّ حال، فالذي يظهر من كلمات الوحيد (رحمة الله) أنَّ مسألتنا هذه غير مسألة العلّة المنصوصة أو قياس الأولوية وغيرها من الطرق المذكورة بعد جعله في عرضها، وأيضاً جعله الوصف (العدّة الرجعية) مشعر بالعلّية لا أنَّه علّة حقيقية، يؤكّد تفريقه لهذه المسألة عن مسألة العلّة المنصوصة.

والذي يظهر من عباراته (رحمة الله) أيضاً أنَّه أقرب إلى التنزيل والاعتبار، فإنَّه جعل المدار في تحريم ذات البعل هو النصّ الدال على أنَّ المعتدّة بالعدّة الرجعية بحكم الزوجة - لا أنَّها زوجة حقيقية - فيشتركان في الأحكام.

ولعلّ فرقه عن عموم المنزلة - والذي هو أحد الطرق المذكورة في عرضه -، أنَّ في

ص: 64


1- المهذب البارع: 1/ 68.
2- رسائل الشهيد الثاني (رحمة الله): 2/ 775.
3- مدارك الأحكام: 8/ 477.

عموم المنزلة يراد إسراء الحكم من المُنزَّل عليه إلى المُنزَّل. وأمَّا في مسألتنا فبالعكس، أي يراد إسراء الحكم من المنزَّل إلى المنزَّل عليه.

ثُمَّ إنَّ مرجع الفهم العرفي الذي أشار إليه (رحمة الله) هنا هو الإطلاق.

النحو السابع: القاعدة الثابتة المسلّمة أو الواردة في خبر واحد

قال (رحمة الله) في شرحه لمقدّمة المفاتيح: (وأمَّا من القاعدة الثابتة المسلّمة، مثل (البيِّنة على المدّعي واليمين على من أنكر) و(أنَّ النكول موجب للحكم). أو القاعدة الواردة في خبر واحد مثل (إذا قصّرت أفطرت، وإذا أفطرت قصّرت))(1).

وقال في الفوائد الحائرية: (وممّا يخرج بسببه القاعدة الثابتة عن نصّ، مثل قولهم: (إذا قصّرت أفطرت، وإذا أفطرت قصّرت)، وهذا كسابقه، وإنْ كان ممّا يخرج عن النصّ بملاحظة النصّ، إلّا أنَّهما بعنوان القاعدة)(2).

والقاعدة سواء كانت مسلّمة متّفقاً عليها أي كانت يقينية أو مطمأناً لها، أم كانت ظنّية ثابتة بخبر الواحد الحجّة، فكلتاهما حجّة. ومرجع هذا الطريق إلى تطبيق الكبرى الكلّية على مواردها. وهذا في الحقيقة ليس من موارد التعدّي وإلغاء الخصوصية, فإنَّ المراد من التعدّي وإلغاء خصوصية المورد هو إسراء حكم موضوع ومورد إلى موضوع ومورد آخر. فيلزم تعدّد الموضوع حتى تتحقّق صغرى التعدّي. وفي القاعدة والكبرى الكلية هناك موضوع واحد كلي يسري الحكم من خلاله إلى أفراده, لا أنَّ الحكم يسري إلى موضوع آخر.

ثُمَّ إنَّه (رحمة الله) ذكر في الفوائد من طريق التعدّي ما سمّاه ب-(التلازم بين الحكمين)،

ص: 65


1- مصابيح الظلام: 1 / 37 - 38.
2- الفوائد الحائرية: 148.

حيث قال: (إنَّ التعدّي ربَّما يكون بعد ملاحظة أمرٍ.. ومثل التلازم بين الحكمين مثل قوله: (إذا قصّرت أفطرت، وإذا أفطرت قصّرت))(1).

فكلّما ثبتت المفطرية ثبت التقصير، وبالعكس. وهذا مرجعه أيضاً إلى القاعدة الكلّية.

هذا آخر ما وسعنا بحثه في بيان أهمّ طرق إلغاء خصوصية المورد عند الوحيد البهبهاني (رحمة الله).

والحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على رسوله وآله الغرّ الميامين.

* * *

ص: 66


1- الفوائد الحائرية: 293.

خلاصة ونتائج البحث

ظهر ممّا تقدَّم أنَّ الوحيد (رحمة الله) جعل التعدّي عن مورد النصّ في قسمين رئيسيين, وذكر تحت كل قسم أنحاء.

أمَّا القسم الأوَّل: فهو ما كان التعدّي فيه على سبيل اليقين, وقد جعله في نحوين:

النحو الأوَّل: ما كان منشأ اليقين بالتعدّي هو حكم العقل. وقد ظهر أنَّ مرجع التعدّي فيه إلى الارتكاز والوضوح والذي يمثّل قرينة لبّية متصلة يتصرف على ضوئها ذهن السامع والمتلقي في ظهورات الكلام. وبهذا يوجّه التعدّي في الموارد التي ذكرها لهذا النحو بما فيها تنقيح المناط.

النحو الآخر: ما كان منشأ اليقين بالتعدّي هو النقل. وقد حصره (رحمة الله) بالإجماع بعد عدم وجود نصّ قطعي السند والدلالة معاً. وملاك الإجماع عنده (رحمة الله) الاتفاق الموجب لحصول العلم، والحاصل عند القدماء أيضاً، وحصوله كذلك يعني أنَّه وصل إليهم يداً بيد من عصر النصّ، ممّا يعني أنَّ الحكم كان من الأُمور الواضحة في أذهان الفقهاء والرواة من قبلهم، وعليه فيكون مرجع هذا النحو من التعدّي إلى ذلك الاتفاق والوضوح والارتكاز.

وأمَّا القسم الآخر فهو ما كان التعدّي فيه على سبيل الظنّ. وقد ذكر له (رحمة الله) عدَّة أنحاء, هي:

النحو الأوَّل: القياس بطريق الأولى, وقد وقع البحث فيه في عدّة أمور مرجعها إلى أمرين:

الأوَّل: في مرجع دلالة قياس الأولوية, وقد أرجعه (رحمة الله) إلى الدلالة الالتزامية, وقد فسّرنا ذلك بأنّ الأولوية تُحصّل بواسطة تبادر المعنى إلى الذهن من اللفظ من دون

ص: 67

ملاحظة الأصل والفرع والعلّة المشتركة بينهما وأنَّ تلك العلّة هي الملاك التامّ والمستقلّ للحكم.

فإنَّ ذلك هو الذي يحقّق شرط الدلالة الالتزامية، أي يكون بيِّن بالمعنى الأخص. فيكون القياس بطريق الأولى من دلالة اللفظ على المدلول. وقد ذكرنا مناقشات على ذلك, وقَرّبنا أنَّها من باب دلالة المدلول على المدلول؛ وذلك لما تقدّم من أنَّ الملازمة إنَّما تثبت بعد تنقيح المناط وتحديد الملاك. وهو ليس مدلولاً للفظ.

الآخر: يظهر من كلماته (رحمة الله) أنَّ هناك فرقاً عنده بين مفهوم الموافقة والأولوية, وقد قرّبنا ذلك الفرق بكون النسبة بينهما هي العموم من وجه, فنقطة الالتقاء هي الأولوية العرفية أو الشرعية, ونقطة افتراق مفهوم الموافقة هي ما يسمى بقياس المساواة, وأمَّا نقطة افتراق الأولوية فهي الأولوية العقلية.

وظهر ممّا تقدَّم أيضاً أنَّ مرجع إلغاء الخصوصية هنا هو الارتكاز أو تنقيح المناط أيضاً.

النحو الثاني: القياس منصوص العلّة. وقد اختار (رحمة الله) حجيته وأنَّ مرجع الحجية فيه الدلالة العرفية, وقد حاولنا تفسير تلك الدلالة العرفية بالإطلاق, ببيان أنَّ طريقة الشارع في البيان يُراعى فيه الفهم العرفي وما هو المرتكز في أذهانهم، وما هو المرتكز في أذهان العرف هو أنَّ الأثر - ومنه الحكم - يدور مدار علّته، أي أنَّ العلّة هي المرادة حقيقةً، وهي التي تمثّل موضوع الحكم. وبذلك يمكن إثبات أنَّ الشارع في مقام البيان من جهة العلّة ومدخليتها في ثبوت الحكم الشرعي، والتي هي من أهمّ مقدّمات الحكمة المثبتة للإطلاق. وبناءً على ذلك إذا احتملنا مدخلية شيءٍ آخر - كخصوصية المورد - في ثبوت الحكم، فيمكن إلغاؤه بإطلاق كلام الشارع في التعليل.

ثُمَّ تمَّ التعرض بعد ذلك للأمور الثلاثة والتي ذكر الميرزا النائيني (رحمة الله) أنَّه لا بُدَّ من

ص: 68

توفرها حتى تكون العلّة المنصوصة عامّة ومطلقة, وهي:

الأمر الأوَّل: أنْ تكون العلّة من العناوين العرفية التي تكون معرفتها بيد العرف ليصلح أنْ يخاطب بها المكلف، وتلقى عهدتها عليه فعلاً أو تركاً.

الأمر الثاني: أنْ لا يكون للحكم المعلّل إضافة إلى المورد، بحيث نحتمل فيه أنْ تكون العلّة المذكورة علّة لحكم خصوص ذلك المورد دون غيره ممّا وجدت فيه تلك العلّة.

الأمر الثالث: أنْ لا يكون للعلّة المذكورة إضافة إلى خصوص المورد بحيث يحتمل أنْ تكون العلّة في ذلك الحكم هو خصوص المضاف منها إلى ذلك المورد دون غيرها ممّا يضاف إلى الموارد الأُخر.

وقد ظهرت تماميَّة الأمر الأوَّل والثالث دون الثاني.

والحاصل: أنَّ مرجع إلغاء الخصوصية هنا هو الإطلاق.

النحو الثالث: قاعدة عموم البدلية. وكلامه (رحمة الله) يرجع إلى الفهم العرفي الناشئ من الوضوح والارتكاز، فمنشأ التعميم هو ما ارتكز في الأذهان من أنَّ البدل يقوم مقام المبدل منه، وأنَّ له كلّ ما للمبدل منه، إلّا ما خرج بالدليل.

ثُمَّ إنَّ ثبوت هكذا ارتكاز من عدمه بحاجة إلى جمع المؤيّدات والشواهد، وهذا ما حاول الوحيد (رحمة الله) تحصيله، وقد ذكر لذلك شاهدين:

الأوَّل: حادثة تيمّم عمّار بدلاً عن الغسل.

الآخر: ما ذكره (رحمة الله) نقلاً عن التذكرة من الإجماع.

وقد تقدَّم مناقشة الشاهدين.

النحو الرابع: عموم المنزلة. وقد اتضح أنَّ مرجع هذا النحو إلى الإطلاق. وظهر أنَّ هناك اختلافاً بين الأعلام في عموم التنزيل من عدمه وأنَّ القول الفصل هو اختيار

ص: 69

الإشكال الذي ذكره السيد الشهيد (رحمة الله) أو جوابه. واتضح أيضاً وجه الفرق بينه وبين عموم البدلية وعموم الشباهة, وأنَّ الوجه في أقوائيته منهما لعلّه ناشئ من أنَّ الإطلاق في التنزيل يكون أوضح باعتبار أوضحية نظر المتكلم في مقام بيانه إلى ترتيب الآثار؛ ومن هنا احتجنا إلى التكلّف لإثبات إطلاق وعموم البدلية إلى إثبات ذلك الارتكاز والفهم العرفي، وكذا في عموم الشباهة.

النحو الخامس: عموم الشباهة. وقد أرجع (رحمة الله) مستنده إلى الفهم العرفي أيضاً والذي فسرناه بالإطلاق, وقد ظهر أنَّ تمامية هذا النحو من عدمه متوقفةً على الإشكال المتقدِّم للسيد الشهيد في النحو المتقدِّم من عدمه. وبيَّنا أيضاً وجه الفرق بينه وبين عموم المنزلة.

النحو السادس: قاعدة اتّحاد طريق المسألتين. وقد أرجعها (رحمة الله) إلى الفهم العرفي أيضاً, والذي فسرناه بالإطلاق, بعد أنْ جعله في عرض الأنحاء المتقدمة, وإنْ اختار جملة من المحقّقين أنَّه من منصوص العلّة. نعم، استقربنا من كلماته (رحمة الله) أنَّه أقرب إلى عموم المنزلة, مع وجود فارق وهو أنَّ في عموم المنزلة يراد إسراء الحكم من المُنزَّل عليه إلى المُنزَّل. وأمَّا في مسألتنا فبالعكس، أي يراد إسراء الحكم من المُنزَّل إلى المُنزَّل عليه.

النحو السابع: القاعدة الثابتة المسلّمة أو الواردة في خبر واحد. وهذا مرجعه إلى القاعدة الكلية وانطباقها على مواردها.

والخلاصة: أن ضابطة إلغاء الخصوصية مرجعها كما تقدَّم إلى الارتكاز، أو تنقيح المناط، أو الإطلاق.

* * *

ص: 70

المصادر

1. أجود التقريرات. تقرير أبحاث الميرزا النائيني (رحمة الله). تأليف: السيد أبو القاسم الخوئي (رحمة الله). تحقيق ونشر: مؤسسة صاحب الأمر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) (قم المقدسة). الطبعة الثانية رجب 1430 ﻫ.

2. أصول الفقه. تأليف: الشيخ حسين الحلي (رحمة الله). الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة. الطبعة الأولى 1431ﻫ.

3. بحوث في شرح العروة الوثقى. تأليف السيد الشهيد محمَّد باقر الصدر (رحمة الله) الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر (رحمة الله).الطبعة الأولى1421.

4. بحوث في علم الأصول, تقرير أبحاث الشهيد السيد محمَّد باقر الصدر (رحمة الله). تأليف: السيد محمود الهاشمي. الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي. الطبعة الثالثة 1417ﻫ-1996م.

5. تذكرة الفقهاء. تأليف: العلّامة الحلي (رحمة الله). تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث. الطبعة الأولى 1414ﻫ.

6. التنقيح الرائع لمختصر الشرائع. تأليف: المقداد السيوري (رحمة الله). تحقيق: السيد عبد اللطيف الحسيني الكوه كمري. الناشر: مكتبة آية الله المرعشي النجفي (رحمة الله). الطبعة الأولى 1414ﻫ.

7. جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام. تأليف: الشيخ محمَّد حسن النجفي (رحمة الله). تحقيق: عباس القوجاني وعلي الآخوندي. الناشر: دار إحياء التراث العربي. الطبعة السابعة 1404ﻫ.

8. الحاشية على مدارك الأحكام. تأليف: الوحيد البهباني (رحمة الله). تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث. الطبعة الأولى 1419ﻫ.

ص: 71

9. الخلاف. تأليف: الشيخ الطوسي (رحمة الله). تحقيق: علي الخراساني والسيد جواد الشهرستاني ومهدي طه نجف ومجتبى العراقي. الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة. الطبعة الأولى 1407ﻫ.

10. دراسات في علم الأصول. تقرير أبحاث السيد أبو القاسم الخوئي (رحمة الله) تأليف: السيد علي الهاشمي الشاهرودي (رحمة الله). الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية. الطبعة الأولى 1419ﻫ – 1998م.

11. دروس في علم الأصول (الحلقة الثالثة). تأليف: السيد الشهيد محمَّد باقر الصدر (رحمة الله). الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر (رحمة الله). الطبعة الثانية 1424ﻫ.

12. الذريعة إلى أصول الشيعة. تأليف: السيد المرتضى (رحمة الله). تصحيح وتقديم وتعليق: أبو القاسم كرجي. سنة الطبع 1437ﻫ. مطبعة: دانشكاه طهران.

13. الرسائل الأصولية. تأليف: الوحيد البهبهاني (رحمة الله). الناشر: مؤسسة العلّامة المجدد الوحيد البهبهاني (رحمة الله). الطبعة الأولى 1416ﻫ.

14. رسائل الشهيد الثاني (رحمة الله). تأليف: زين الدين بن علي الشهيد الثاني (رحمة الله). تحقيق: رضا مختاري وحسين شفيعي. الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة. الطبعة الأولى 1421ﻫ.

15. السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى. تأليف: ابن إدريس الحلي (رحمة الله). الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة. الطبعة الثانية 1410.

16. الفوائد الحائرية. تأليف: الأستاذ الأكبر الوحيد البهبهاني (رحمة الله). تحقيق ونشر: مجمع الفكر الإسلامي. الطبعة المحقّقة الأولى 1415ﻫ.

17. القوانين المحكمة. تأليف: الميرزا القمّي (رحمة الله). شرحه وعلَّق عليه: رضا حسن صبح.

ص: 72

الناشر: دار المحجّة البيضاء. الطبعة الأولى 1431ﻫ.

18. مباحث الأصول. تقرير أبحاث السيد الشهيد محمَّد باقر الصدر (رحمة الله). تأليف: السيد كاظم الحسيني الحائري. الناشر: دار البشير. الطبعة الثانية 1425ﻫ.

19. المبسوط في فقه الإمامية. تأليف: الشيخ الطوسي (رحمة الله). تحقيق: السيد محمَّد تقي كشفي. الطبعة الثالثة 1387ش.

20. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام. تأليف: السيد محمَّد بن علي الموسوي العاملي (رحمة الله) تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث. الطبعة الثانية 1429ﻫ - 2008م.

21. مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع. تأليف: الوحيد البهبهاني (رحمة الله). الناشر: مؤسسة العلّامة المجدد الوحيد البهبهاني (رحمة الله). الطبعة الأولى 1424ﻫ.

22. معارج الأصول. تأليف: المحقّق الحلي (رحمة الله). تحقيق: محمَّد حسين الرضوي. الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) للطباعة والنشر. الطبعة الأولى 1403ﻫ.

23. معالم الدين في أوليات أصول الفقه. تأليف: جمال الدين الحسن بن الشهيد الثاني (رحمة الله). إخراج وتحقيق وتعليق: عبد الحسين محمَّد علي البقال. توزيع ونشر: مكتبة كاشف الغطاء. الطبعة المحقّقة الأولى 1403ﻫ.

24. معجم مقاييس اللغة. تأليف: أحمد بن فارس بن زكريا. رتّبه وصحّحه: إبراهيم شمس الدين. الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. الطبعة الأولى 1433ﻫ - 2012م.

25. المراسم العلوية والأحكام النبوية. تأليف: سلّار الديلمي (رحمة الله). تحقيق وتصحيح: محمود البستاني. الناشر: منشورات الحرمين. الطبعة الأولى 1404ﻫ.

ص: 73

26. المقنع. تأليف: الشيخ الصدوق محمَّد بن علي بن بابويه (رحمة الله). تحقيق ونشر مؤسسة الإمام الهادي (علیه السلام). الطبعة الأولى 1415ﻫ.

27. المقنعة. تأليف: الشيخ المفيد (رحمة الله). الناشر: المؤتمر العالمي للشيخ المفيد (رحمة الله). الطبعة الأولى 1413ﻫ.

28. المهذب البارع في شرح المختصر النافع. تأليف: ابن فهد الحلي (رحمة الله). تحقيق: مجتبى العراقي. الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة. الطبعة الأولى 1407ﻫ.

29. موسوعة الإمام الخوئي (رحمة الله). الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي (رحمة الله). الطبعة الرابعة 1430ﻫ - 2009م.

30. وسائل الشيعة. تأليف: الحرّ العاملي (رحمة الله). تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث. الطبعة الثانية 1424ﻫ - 2003م.

ملاحظة: ما تقدَّم نقله عن كتابي تهذيب الأصول ونهاية الأصول للعلّامة الحلي (رحمة الله) اعتمد في ذلك على كتاب معالم الدين وملاذ المجتهدين. تأليف: الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني (رحمة الله). تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة.

ص: 74

نجاسة الخمر (القسم الثاني) - الشيخ علي العقيلي (دام عزه)

اشارة

من الموارد التي وقعت محلّ خلاف بين الفقهاء مسألة (نجاسة الخمر).

وهذه دراسة مستوعبة للمسألة في قسمين. وقد تضمَّن القسم الأَول منها ما يُمكن الاستدلال به للقول المشهور, ويقع الكلام في القسم الثاني في بيان ما يعارضه, وكيفيّة العلاج.

ص: 75

ص: 76

بسم الله الرحمن الرحیم

تقدَّم في القسم الأوَّل عرض ما استدل به على نجاسة الخمر من الكتاب والسُنَّة والإجماع وبيان النقض والإبرام فيها.

ويقع الكلام في هذا القسم - وهو الأخير - في بيان ما استدل به على الطهارة، وكيفية علاج التعارض.

الروايات التي استدل بها على الطهارة

والروايات التي يمكن الاستدلال بها على الطهارة - مضافاً للأصل - كثيرة أيضاً، بل دعوى العلم بصدور جملة منها من الأئمة (علیهم السلام) أيضاً غير بعيدة.

وفيها المعتبر وما هو تامّ الدلالة على الطهارة كمعتبرة الحسن بن أبي سارة الدالة على طهارة الخمر بعنوانه الخاصّ، وكمعتبرة الحسين بن موسى الحناط، وكذلك معتبرة عبد الله بن بكير ومعتبرة علي بن جعفر وهما تدلان على طهارة الخمر بالإطلاق، إلى غير ذلك(1) كما سيتضح عند استعراضها, منها:

معتبرة الحسن بن أبي سارة قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إنْ أصاب ثوبي شيء من الخمر أصلّي فيه قبل أن أغسله؟ قال: (لا بأس, إنَّ الثوب لا يسكر)(2).

ص: 77


1- العناوين الواردة في الروايات متعددة، مثل: (المسكر والنبيذ)، (الخمر والنبيذ والمسكر)، (النبيذ)، (النبيذ يكسرونه بالماء).
2- الوسائل: 3/471/ب38 من أبواب النجاسات - باب نجاسة الخمر والنبيذ والفقاع وكل مسكر - ح10 وذُكر في السند (الحسين بن أبي سارة), ونقلها الحرّ عن التهذيب. ولكن الموجود في التهذيب: 1/822 عن (الحسن بن أبي سارة), وكذا في الاستبصار: ج1/ح664. وعبّر عنها في التنقيح: 3/84 (كما في مصححة الحسن بن أبي سارة)، وفي المستمسك ب-(موثق الحسن بن أبي سارة)، وفي مصباح المنهاج ب-(معتبر الحسن بن أبي سارة)، وفي مجمع الفائدة: 1/ 311 (وصحيحة الحسن.. وهذه أصح سنداً وأوضح دلالة حيث إنَّها صريحة في الخمر وفي قبل الغسل). وقال صاحب المدارك: 2/291 (حجّة القول بالطهارة الأصل وما رواه الحسن بن أبي سارة في الصحيح..).

وتقريب الاستدلال بها: أنّ الترخيص في الصلاة في الثوب يدل على الطهارة، فإنَّ ظاهر الرواية أنَّ السائل يسأل عن مانعية الصلاة في الثوب الذي أصابه الخمر، والمانعية المتصوّرة هي من جهة النجاسة، والإمام (علیه السلام) أجابه بعدم البأس، وهذا معناه طهارة الثوب. كما أنَّ تعليل الإمام (علیه السلام) ب-(أنّ الثوب لا يسكر) ظاهر عرفاً بأنّ المشكلة في الخمر هي في الإسكار، وهو يتحقّق إذا كان في الآنية لا في الثوب، فإنّه لا يُستعمل فيما يُسكر.

وبعبارة أخرى: إنَّ المعلّل هو المنع من الصلاة، ومقتضاه أنَّ المنع من الخمر لمّا كان بسبب الإسكار فهو ليس بنجس فلا تتعدى النجاسة للثوب، وإلّا فلو كان الخمر نجساً لتعدت النجاسة إلى الثوب.

وبالجملة: إنَّ الخبر يدل على عدم نجاسة الخمر وجواز الصلاة بالثوب المصاب به، وأنّ المشكلة في الخمر إنَّما هي في الإسكار وحرمة شربه.

والنتيجة: أنّ الرواية لها ظهور قوي أو هي كالصريحة في الطهارة.

هذا كلّه من حيث الدلالة.

أمَّا سنداً فالرواية معتبرة، إذْ إنَّ راويها (الحسن بن أبي سارة) كما هو موجود في التهذيب والاستبصار، وهو مذكور في كتب الرجال وقد وثّقه النجاشي(1).

ص: 78


1- معجم رجال الحديث: 5/ 264 وهو روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله (علیهما السلام).

وأمّا (الحسين بن أبي سارة) الذي جاء في سندها في الوسائل فلا ذكر له في كتب الرجال.

وعلى فرض تمامية ما في الوسائل فسند الرواية تامّ أيضاً؛ لأنَّ (الحسين بن أبي سارة) ثقة، إمّا لاتحاده مع (الحسن بن أبي سارة) الموثّق عند النجاشي باعتبار أنَّه لم يذكر الحسين بن أبي سارة - بالتصغير- في كتب الرجال، وإمّا لرواية ابن أبي عمير عنه في المقام، وأنّه يوجد راوٍ من الطبقة الخامسة باسم الحسين بن أبي سارة يروي عنه ابن أبي عمير.

نعم، مع اختلاف الاسم عن المصدر الأصلي المطبوع - كالتهذيب والكافي - وعدم وثاقته على أحد النقلين فهذا يضر بالأخذ بالرواية - وإنْ كان الاسم في المصدر الأصلي هو موثّق بخلاف نقل الوسائل -، وذلك لأنَّ هذا يكشف عن أنَّ نسخ المصدر الأصلي مختلفة جزماً أو احتمالاً، فلا يمكن الاستناد إلى نسخة المصدر الموجود؛ فإنَّ هذه نسخةٌ، وما وقع عند الحرّ نسخةٌ أخرى، ولعلّها هي الصحيحة، فإذاً يكون الوارد مردداً.

ثمَّ لا يخفى أنَّ ما رواه ابن قولويه (رحمة الله) في كامل الزيارات(1) باب ثواب من زار الحسين (علیه السلام) يوم النصف من شعبان: حدثني جماعة مشايخي، عن محمد بن يحيى العطار(2)، عن الحسين بن أبي سارة المدائني، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج أو غيره واسمه الحسين قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): من زار قبر

ص: 79


1- كامل الزيارات: 335.
2- محمد بن يحيى أبو جعفر العطار الأشعري من مشايخ الكليني يروي عنه كثيراً، وأما الصدوق فيروي عنه بواسطة أحد مشايخه، وأما الطوسي فطريقه إليه في مشيخة التهذيب: الحسين بن عبيد الله، وأبو الحسين ابن أبي جيد جميعاً عن أحمد بن محمد بن يحيى عن أبيه محمد ين يحيى العطار، وله أيضاً طرق أخرى بإسناده عن محمد بن يعقوب الكليني (لاحظ معجم رجال الحديث: 19/43-44).

الحسين (علیه السلام) ليلة من ثلاث غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، قال: قلت: أيّ الليالي

جعلت فداك، قال: ليلة الفطر أو ليلة الأضحى أو ليلة النصف من شعبان.

و نقله الشيخ (رحمة الله) في التهذيب(1) عن ابن قولويه بنفس السند وفيه (الحسين بن أبي سارة)، إنَّما المراد به راوٍ آخر من الطبقة الثامنة أو السابعة بقرينة الراوي والمروي عنه, حيث روى العطار عنه, وهو روى عن يعقوب بن يزيد، ومحمد بن يحيى العطار من الطبقة الثامنة وهي طبقة مشايخ الكليني (رحمة الله).

كما أنَّ يعقوب بن يزيد ثقة وهو من الطبقة السابعة(2)- وجلّهم من أصحاب الجواد والهادي والعسكري (علیهم السلام) -.

وأمّا ابن أبي عمير فهو من الطبقة السادسة، قال النجاشي: (.. لقي أبا الحسن موسى (علیه السلام) وسمع منه.. وروى عن الرضا (علیه السلام)..)(3). وقال الشيخ الطوسي: (أدرك من الأئمة ثلاثة أبا إبراهيم موسى (علیه السلام) ولم يروِ عنه, وأدرك الرضا (علیه السلام), والجواد (علیه السلام)..)(4).

وممّا تقدَّم يتضح وجود شخص آخر باسم (الحسين بن أبي سارة) من الطبقة الثامنة أو السابعة، ويتضح أنَّ ابن أبي عمير لا يروي عن هذا الحسين بن أبي سارة لاختلاف الطبقة، كما أنّ الحسين بن أبي سارة هذا لا يروي عن الإمام الصادق (علیه السلام).

ص: 80


1- التهذيب: ج6/ح112.
2- ذكر في ترجمة يعقوب أنه من أصحاب الكاظم والرضا والهادي (علیهم السلام).
3- رجال النجاشي في ترجمة محمد بن أبي عمير، الرقم 887، ولا يخفى أنه هو وصفوان والبزنطي من الطبقة السادسة.
4- الفهرست عند ذكر عنوان محمد بن أبي عمير، الرقم 617. وما ذكره الشيخ من أنه لم يروِ عن الكاظم (علیه السلام) ينافي ما ذكره النجاشي من أنّه سمع منه الأحاديث. وذُكر أنّه يؤيد قول النجاشي رواية له عن الكاظم (علیه السلام) في الفقيه ج2 - باب افتتاح السفر - ح783.

ومنها: رواية الحسين بن أبي سارة, قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) إنّا نخالط اليهود والنصارى والمجوس وندخل عليهم وهم يأكلون ويشربون فيمرّ ساقيهم فيصبّ على ثيابي الخمر؟ فقال: (لا بأس به إلّا أنْ تشتهي أنْ تغسله لأثره)(1). وهي ضعيفة سنداً بابن سيابة فهو لم يوثّق سواء كان صالح بن سيابة أو فرض التصحيف وأنّه صباح بن سيابة.

ومنها: معتبرة عبدالله بن بكير, قال: سأل رجل أبا عبد الله (علیه السلام) - وأنا عنده - عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب؟ قال: (لا بأس)(2).

وتقريب الاستدلال بها: أنّ المسكر لو كان نجساً ففي ذلك بأس كما هو واضح، فهي تدل على طهارة مطلق المسكر ومنه الخمر.

قال الشيخ الحرّ (رحمة الله) بعد نقله لهذه الرواية وغيرها: (أقول: حمل الشيخ هذه الأخبار على التقية من سلاطين ذلك الوقت وجمع من علماء العامة، وحمل ما لا تصريح فيه بالصلاة على اللبس في غير الصلاة، ويمكن الحمل على تعذّر الإزالة، وبعضه يمكن حمله على الإنكار).

فإذاً, يفهم من الأخبار عدم النجاسة, غاية الأمر إمكان حملها على التقية, أو على اللبس في غير الصلاة مثلاً.

هذا، ولكن الحمل على التقية سيأتي الكلام فيه إنْ شاء الله تعالى.

وأمَّا الحمل على اللبس في غير الصلاة فهو وإنْ كان ممكناً, ولكن عرفاً إنَّما يسأل السائل لا لمجرد سقوط الخمر من حيث هو هو وإنَّما عادة يسأل عن ذلك لمعرفة أنَّه هل

ص: 81


1- نفس المصدر من الوسائل: ح12 وفي الهامش: في المصدر الحسن. أقول الرواية في التهذيب: ج1/ح824 عن الحسن بن أبي سارة.
2- نفس المصدر ح11 عن التهذيب.

يضرّ بما سيقوم به من عمل كالصلاة؟

إنْ قيل: يمكن حمل هذه الرواية وما سبقها من معتبرة الحسن على العفو عن الخمر في الصلاة وإنْ كانت نجسة.

يمكن الجواب: - مضافاً إلى أنَّ ما ذكر هو خلاف الظاهر عرفاً- لا يتعيّن الحمل على العفو, إذ يمكن حمله أيضاً على أنَّ الأمر هو لمنع الخمر من جهة الصلاة كالحرير وليس لنجاسة الخمر.

ومنها: معتبرة علي بن رئاب, قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الخمر والنبيذ والمسكر يصيب ثوبي، أغسله أو أصلي فيه؟ قال: (صلِّ فيه إلَّا أنْ تقذّره فتغسل منه موضع الأثر إنَّ الله تعالى إنَّما حرَّم شربها)(1).

وتقريب الاستدلال: بعد ذكرها الخمر بعنوانه - لا بالإطلاق - من جهة دلالتها على جواز الصلاة في ثوب أصابه خمر, وظاهر ذلك الطهارة، بل إنَّ الحصر في قوله (علیه السلام): (إنَّ الله تعالى إنَّما حرَّم شربها) كالصريح, أو قل: له ظهور قويّ في طهارتها, وأنَّ المشكلة تكمن في الشرب والتناول.

ص: 82


1- نفس المصدر: ح14 من قرب الإسناد، وهي في قرب الإسناد: 163. وهي معتبرة بناءً على أنّ صاحب الوسائل (رحمة الله) له سند معتبر إلى الشيخ الطوسي، والشيخ له سند معتبر إلى كتب عبد الله بن جعفر كما هو المعروف. وأمّا إذا نوقش في ذلك من جهة كون طرق صاحب الوسائل ليست إلى النسخ, أو من جهة أنّ طرق الفهرست هي ليست إلى النسخ فالرواية لا تكون تامّة سنداً. لاحظ الفهرست: 168 عند عنوان عبد الله بن جعفر الحميري القمي. وقد عبّر عن الرواية بالصحيحة جمعٌ، منهم: المحقّق السبزواري في الذخيرة: ج1/ق1/154، والمحقّق الخوانساري في مشارق الشموس: 1/338، والفاضل الهندي في كشف اللثام: 1/394، وصاحب الحدائق، وصاحب الجواهر، والمحقّق الهمداني، والسيد الحكيم في المستمسك.

ومنها: معتبرة الحسين بن موسى الحناط, قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الرجل يشرب الخمر ثم يمجّه فيصيب ثوبي؟ فقال: (لا بأس)(1).

ودلالتها تامَّة, فلو كان الخمر نجساً ففي ذلك بأس كما هو واضح، فيتضح أنَّ له أنْ يتعامل معه معاملة الطاهر، وأمَّا سنداً سواء كان الراوي الحسين بن موسى الحنّاط - كما في التهذيب والوسائل -, أم أخاه الحسن بن موسى - على نسخةٍ كما في هامش الوسائل - فقد يقال بضعفها حيث لم يوثّقا, ولكن بناءً على تمامية كبرى وثاقة مشايخ ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي تكون معتبرة، فقد روى ابن أبي عمير عن الحسن بن موسى الحنّاط كما في فهرست الشيخ, والطريق معتبر(2)، وكذا روى البزنطي عنه كما في الوسائل(3), والطريق معتبر أيضاً، وإذا شُكّك في الطريق الأول من ناحية طرق الفهرست فالطريق الثاني تامّ لا إشكال فيه.

وروى ابن أبي نصر, عن الحسين بن موسى كما في الوسائل بطريق معتبر(4)، وفي

ص: 83


1- نفس المصدر: ب39/ح2 عن التهذيب. وفي هامش الوسائل: في هامش المخطوط عن نسخة: (الحسن).
2- الفهرست عند الرقم 172 قائلاً: (الحسن بن موسى له أصل. أخبرنا به ابن أبي جيد, عن ابن الوليد, عن الصفار, عن أحمد بن محمد بن عيسى, عن ابن أبي عمير, عن الحسن بن موسى). وابن أبي جِيد من مشايخ النجاشي، وأيضاً من مشايخ الإجازة. ويمكن أن يقال: إنّ كون الشخص من مشايخ الإجازة المعروفين - الذين كانوا يُقصدون من الرواة ليُجاز لهم في دفع الكتاب والرواية - يولّد اطمئناناً بكونه ثقة.
3- الوسائل: 26/101/ب4 من أبواب ميراث الأبوين ح4. والسند: محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر, عن الحسين بن موسى الحنّاط, عن الفضيل بن يسار.
4- 3/105/ب18/ح4.

الكافي, والطريق معتبر(1)، وكذلك في توحيد الصدوق, والطريق معتبر(2).

وروى عنه ابن أبي عمير أيضاً في طريق النجاشي, ولكن في السند ابن بطة وهو ضعيف(3). وعلى أيّ حال يكفي أحد الطرق الثلاثة المتقدّمة.

وأمَّا ما رواه عبد الحميد بن أبي الديلم قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): رجل يشرب الخمر فبزق فأصاب ثوبي من بزاقه؟ قال: (ليس بشيء)(4) فمورده السؤال عن بصاق شارب الخمر, والبصاق ليس بنجس, وإنَّما النجس الخمر، مضافاً إلى أنَّها ضعيفة سنداً.

ومنها: معتبرة ابن أبي بكر الحضرمي, قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): أصاب ثوبي نبيذ أصلي فيه؟ قال: (نعم)، قلت: قطرة من نبيذ قطر في حبّ أشرب منه؟ قال: (نعم, إنّ أصل النبيذ حلال, وإنّ أصل الخمر حرام)(5).

ووجه الدلالة كما عن الذخيرة هو: إنّ الظاهر عدم القائل بالفصل، ولكن قال

ص: 84


1- الكافي: 2/245. والسند: محمد بن يحيى, عن أحمد بن محمد بن عيسى, عن أحمد بن محمد بن أبي نصر, عن الحسين بن موسى, عن فضيل بن يسار, عن أبي جعفر (علیه السلام).
2- التوحيد: 155/ب14/ح3.
3- رجال النجاشي: 45, رقم: 90, قال: (الحسين بن موسى الحنّاط... عن أبي عبد الله (علیه السلام). وعن أبيه, عن أبي عبد الله (علیه السلام). وعن أبي حمزة, وعن معمّر بن يحيى, وبريد, وأبي أيوب, ومحمد بن مسلم وطبقتهم. له كتاب أخبرنا: الحسين بن عبيد الله, قال: حدثنا ابن حمزة, قال: حدثنا ابن بطة, عن الصفّار, عن أحمد بن محمد بن عيسى, عن ابن أبي عمير, عن الحسين بكتابه). والحسين الغضائري قال عنه النجاشي: (أبو عبد الله (رحمة الله) شيخنا) فهو من مشايخ النجاشي, مضافاً إلى ما ذكر من كونه كثير الرواية، وأنه شيخ إجازة، وتوثيق ابن طاووس له، (المعجم: 7/ 22).
4- الوسائل ب35 من أبواب الأشربة المحرمة ح2 عن التهذيب. والرواية في التهذيب: باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ح114.
5- نفس المصدر: ب38/ح9.

الشيخ (رحمة الله): (فأول ما فيه: أنّه ليس في ظاهر الخبر أنَّ الذي أصابه من النبيذ هو المسكر المحرّم دون أنْ يكون النبيذ الذي ليس بمسكر، وإذا احتمل هذا, وهذا حملناه على النبيذ الذي لا يسكر وهو ما قدمنا ذكره ممّا قد نبذ فيه التُميرات لتكسر طعم الماء)(1).

ويمكن أنْ يلاحظ على ذلك بعدم وضوح هذا الحمل, فإنَّ الظاهر أنَّ السؤال عن النبيذ المسكر حيث يتوقع من السائل أنْ يسأل عن نجاسته وحرمته, وأمَّا ما كان حلالاً فيبعد السؤال عن نجاسته، أيّ أنَّ السؤال منصرِف إلى خصوص المسكر؛ لوضوح عدم نجاسة النبيذ بمجرد النبذ.

وأمَّا سند الرواية فالكلام من ناحية أبي بكر الحضرمي, وهو (عبد الله بن محمد)(2) ممَّن روى عن الباقر والصادق (علیهما السلام), وهو وإنْ لم يرد في حقّه توثيق خاصّ, إلاّ أنَّه يستفاد من بعض الروايات مدحه(3)، مضافاً إلى رواية ابن أبي عمير عنه(4)، وكذلك رواية صفوان بن يحيى البجلي عنه(5).

ومنها: رواية حفص الأعور, قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): الدنّ يكون فيه الخمر

ص: 85


1- التهذيب: 1/280 ح821. وقال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه: ج1/ ق2: (إنّه لا يبعد إرادة النبيذ الغير المسكر, فتكون هذه الرواية على خلاف المطلوب أدل).
2- وهو المعروف من المكنين بأبي بكر الحضرمي.
3- لاحظ معجم رجال الحديث: 11/217.
4- الكافي باب اللواط ح2, والسند تام. وهو في الوسائل: 20/329/ب17 تحريم اللواط على الفاعل ح1.
5- كما في الوسائل: 28/201/ح7 عن الفقيه, وهو من رجال تفسير القميّ حيث ورد في رواية في تفسير سورة المائدة تفسير قوله تعالى: [..وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ..]، وكامل الزيارات ب2 ثواب زيارة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم), ح5.

ثمَّ يجفّف، يجعل فيه الخل؟ قال: (نعم)(1). وهي ضعيفة بحفص.

ومنها: معتبرة بكير: سُئل أبو جعفر وأبو عبد الله (علیهما السلام) فقيل لهما: إنّا نشتري ثياباً يصيبها الخمر وودك الخنزير عند حاكتها أنصلي فيها قبل أنْ نغسلها؟ فقال:(نعم، لا بأس, إنمّا حرّم الله أكله وشربه, ولم يحرّم لبسه ومسّه والصلاة فيه)(2).

وهذه الرواية من جهة السند تامّة بلحاظ سندها في العلل، وأما بلحاظ روايتها في الفقيه فهي مرسلة(3).

وأمَّا دلالةً فقد أُشكل في دلالتها على الطهارة بأنَّ ما يضعّف أمرها هو ما تدلّ عليه ضمناً من جواز الصلاة في جزء من الخنزير، وهذا يجعل الرواية معارضة لا مع روايات نجاسة الخمر فقط, بل مع روايات نجاسة الخنزير أيضاً، ومع روايات منع ما لا يؤكل

ص: 86


1- نفس المصدر: ب51/ح2.
2- نفس المصدر: ح3 عن الفقيه, وقال الحرّ في ذيلها: (وفي العلل عن أبيه, عن سعد, عن محمد بن الحسين وعلي بن إسماعيل ويعقوب بن يزيد كلهم, عن حمّاد بن عيسى, عن حريز, عن بكير, عن أبي جعفر (علیه السلام). وعن أبي الصباح وأبي سعيد والحسن النبّال, عن أبي عبد الله (علیه السلام) مثله). أقول: هي في العلل: 2/357 باب الرخصة في الصلاة في ثوب أصابه خمر وودك الخنزير: (أبي (رحمة الله) قال: حدّثنا سعد بن عبد الله, عن محمد بن الحسين وعلي بن إسماعيل ويعقوب بن يزيد, عن حمّاد بن عيسى, عن حريز, قال: قال بكير عن أبي جعفر (علیه السلام)). وأبو الصباح وأبو سعيد والحسن النبّال, عن أبي عبد الله (علیه السلام) قالوا: قلنا لهما إنّا نشتري ثياباً يصيبها الخمر وودك الخنزير عند حاكتها أنصلي فيها قبل أنْ نغسلها؟ قال: (نعم, لا بأس بها, إنمَّا حرّم الله أكله وشربه ولم يحرّم لبسه ومسّه والصلاة فيه). والودك: بفتحتين: دسم اللحم والشحم (المصباح المنير مادة ودك). وعن مجمع البحرين: أنَّه دسم اللحم, ومنه ودك الخنزير ونحوه, يعني: شحمه.
3- علل الشرائع: 2/357 باب 72 علة الرخصة في الصلاة في ثوب أصابه خمر وودك الخنزير. الفقيه: 1/248 ح 751, (وسئل أبو جعفر وأبو عبد الله (علیهما السلام)..).

لحمه الثابتة في الخنزير بقطع النظر عن نجاسته. ولا يمكن القول بأنَّ مورد الرواية ليس نصّاً في بقاء ودك الخنزير في الثوب إلى حين الصلاة، بل ولا في وجود الرطوبة السارية عند الملاقاة معه؛ لأنَّ التعليل واضح في جواز الصلاة فيه فتكون الرواية بلحاظ جزء من مدلولها ساقطة وجداناً، أو بالمعارضة للدليل القطعي(1).

وبعبارة أخرى: يوجد ما يوهن الرواية، إذ إنَّها لا تتكفّل ببيان طهارة الخمر فقط, بل تتكفّل أيضاً بطهارة ودك الخنزير وعدم مانعيته من الصلاة فتعارض ما هو مقطوع به فقهاً من عدم صحة الصلاة في شيء من جسم الخنزير لا للنجاسة فقط، بل لأنَّ الخنزير ممّا لا يؤكل لحمه.

أو قل: إنَّ الرواية تعارض مجموع طوائف ثلاث، الأولى: ما دلّ على نجاسة الخمر مع ضمّ العلم من الخارج بأنَّ كلّ ما كان نجساً فهو مانع. والثانية: ما دلّ على نجاسة الخنزير مع ضمّ العلم المذكور أيضاً. والثالثة: ما دلّ على أنَّ الصلاة فيما يؤكل لحمه باطلة مع ضمّ العلم بأنَّ الخنزير مما لا يؤكل لحمه بالضرورة من الدين، ومن أجل أنَّه يُقطع - إجمالاً - بصدور بعض هذه الطوائف الثلاث تكون هذه الرواية مخالفة للقطعي من السُنّة لا محالة، فتسقط عن الحجيّة رأساً.

ولكن يمكن أنْ يقال:

أ- إنَّ الضمير في (أكله وشربه) يعود كما هو واضح على الخنزير والخمر بتأويل

ص: 87


1- لاحظ بحوث في شرح العروة الوثقى: 2/432, وأضاف (رحمة الله): (وهذا يقتضي سقوط الرواية في تمام المدلول عن الحجية, إمَّا لعدم تعقّل التبعيض في الحجية في أمثال المقام عرفاً, أو لكون ذلك أمارة نوعية على وجود خلل في الرواية بنحو يسلب الوثوق بها ويخرجها عن دليل الحجية). وقال (رحمة الله): (الرواية معتبرة لاسيمّا أنَّ الأربعة الذين يروون الرواية فيهم الثقة, مضافاً إلى ما في اتفاق أربعة لم يثبت ضعف واحد منهم من تعزيز لسند الرواية).

المشروب, وأنَّ تناول المذكورات حرامٌ. وأمَّا الضمير في (ولبسه ومسّه والصلاة فيه) فهو يعود إلى الثوب المذكور في ضمن الثياب وأنَّه لا إشكال في الثوب؛ إذْ لا يُعلم بمماسته لودك الخنزير برطوبة مسرية ولا يُعلم بوجود أجزاء منه، كما أنَّه لا تصريح في الرواية بأنَّ ودك الخنزير كان باقياً في الثوب إلى حين الصلاة فغاية ما هنالك شمولها لهذه الحالة بالإطلاق فلا تكون معارضة لجميع ما دلّت عليه الطائفة الثالثة.

مضافاً إلى ذلك: أنَّه لا دلالة في الرواية على أنَّ ملاقاة الثوب لودك الخنزير كانت مع وجود الرطوبة المسرية فلعلّها حصلت من دون رطوبة.

نعم، هذا لا يتم إلاّ بالنسبة إلى ملاقاة الثوب مع ودك الخنزير، وأمَّا ملاقاته مع الخمر فإنَّها لا تتصور إلاّ برطوبة كما هو واضح.

فإذاً, دلالة الرواية على نفي المنع والنجاسة إنَّما هي بالإطلاق فيُقيّد بخصوص ما إذا كانت الملاقاة بدون رطوبة أو مع زوال عين النجاسة، اللهمّ إلاّ أنْ يدّعى الانصراف الناشئ من غالبية الرطوبة في لحم الخنزير عند ذبحه وأكله في قبال أنَّه مسّه عند تجفيفه, والذي هو فرض نادر.

ب- إنّه يمكن التفكيك في الحجيّة بين فقرات الحديث الواحد بأنْ يقال: إنَّ سقوط الرواية في بعض مدلولها لمانع مختصّ به من قيام دليل قطعي على خلافه, أو لوجود المعارض له, أو لوهنه بمخالفة الأصحاب, أو الهجران ممّا لا يلزم منه سقوطها في البعض الآخر(1).

ص: 88


1- ذكر صاحب العروة (رحمة الله) في كتاب الصلاة (مسألة17): (يستثنى ممّا لا يؤكل الخز الخالص غير المغشوش بوبر الأرانب والثعالب وكذا السنجاب..). وممّا علّقه السيد الخوئي (رحمة الله) - عند بحثه عن جلد ووبر السنجاب -: (.. إنَّ سقوط الرواية عن الحجيّة في بعض مدلولها لمانع مختصّ به لا يلازم سقوطها في البعض الآخر؛ فإنَّ التفكيك في مفاد الدليل غير عزيز في الفقه، والسرّ أنَّ الرواية المشتملة على حكمين تنحلّ في الحقيقة إلى روايتين, فكأنَّ الراوي روى مرة جواز الصلاة في الفنك, وأخرى جوازها في السنجاب, فإذا كان للأولى معارض أوجب سقوطها عن الحجيّة فلا مقتضي لرفع اليد عن الثانية السليمة عنه، نظير ما أخبرت البيِّنة - في الشبهات الموضوعية - عن طهارة الثوب والإناء، وقد علمنا بنجاسة الثوب فإنَّ سقوطها فيه لا يستوجب السقوط عن الحجيّة في الإناء..) المستند في شرح العروة الوثقى 12/194.(ط. جديدة).

وبالجملة: يمكن أنْ يقال: إنَّ للرواية دلالتين اثنتين: الأولى: عدم مانعية الخمر، والثانية: عدم مانعية الخنزير وهما ليستا صادقتين معاً، بل لنا علم إجماليّ بكذب إحداهما لا محالة, لكنّه منحل بالعلم التفصيلي بكذب الأخرى بخصوصها وهي الدلالة الثانية؛ للعلم بعدم جواز الصلاة في الخنزير ولو مع قطع النظر عن نجاسته فتسقط حجيّة الرواية من هذه الجهة، وأمَّا الدلالة الأولى حيث أنَّها ليست متعلّقة للعلم التفصيلي بالكذب والبطلان ولا للعلم الإجمالي به بعد فرض الانحلال فلا محالة تكون حجّة في إثبات مدلولها وهو عدم مانعيّة الخمر، فإنَّ دليل حجيّة الخبر ناظر إلى دلالات الخبر وهو يتناسب مع التفصيل والتبعيض في الحجيّة.

اللّهم إلّا أنْ يقال بأنَّ بطلان أحد مدلولي هذه الرواية يشكّل أمارة توجب سلب الوثوق بها من رأس فلا تكون مشمولة لأدلة حجيّة خبر الواحد في نفسها بناءً على أنَّ دليل الحجيّة لا يشمل خبر الثقة مطلقاً؛ إذ هو لا يشمل ما كان من أخبار الثقات فيه أمارة توجب سلب الوثوق بصدوره بنحوٍ مكافئ لوثاقة الراوي.

أو يقال: إنَّه لا يمكن التفكيك في الحجيّة في أمثال المقام؛ لأنَّ الدليل المهمّ على حجيّة الخبر هو السيرة وهو دليل لبيّ، ولا جزم بالأخذ به في أمثال المقام، فيقتصر على القدر المتيقّن وهو حال عدم اشتمال الخبر على معنى لا يمكن الالتزام به.

والخلاصة: إنْ تمت الدلالة فبها، وإلاّ فالرواية لا تعدّ من روايات الطهارة التامّة.

ص: 89

ومنها: معتبرة علي بن جعفر عن أخيه موسى (علیه السلام) قال: سألته عن البيت يبال على ظهره ويغتسل من الجنابة ثم يصيبه المطر أيؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة؟ فقال: (إذا جرى فلا بأس به).

قال: وسألته عن الرجل يمرّ في ماء المطر وقد صبّ فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل أن يغسله؟ فقال: (لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي فيه ولا بأس به)(1).

والاستدلال بها - بعد ظهور أنَّ الذي أصاب ثوبه هو الماء الذي صبّ فيه الخمر لا نفس الخمر - موقوفٌ على أنْ يراد بماء المطر الماء الناشئ من التقاطر لا ما هو مطر بالفعل حال النزول، وبالتالي يشمل بإطلاقه صورة الانقطاع والقلّة فيدلّ على عدم انفعال الماء القليل بملاقاة الخمر وهو كاشف عن طهارته.

وبالجملة: الرواية تدلّ على طهارة الخمر بالإطلاق فلم يُفصِّل الإمام (علیه السلام) بين حالة نزول المطر بالفعل وبين الانقطاع، ومقتضى الإطلاق - أو ترك الاستفصال - عمومية هذا الحكم حتى لحالة الانقطاع، وبذلك تثبت طهارة الخمر.

وأمَّا سندها فهو تامّ حيث رواها الشيخ الصدوق في الفقيه، وطريق الصدوق إلى علي بن جعفر تامّ، وهو: (وما كان فيه عن علي بن جعفر فقد رويته عن أبي ·، عن محمد بن يحيى العطار، عن العمركي بن علي البوفكي، عن علي بن جعفر (علیه السلام) ورويته عن..)(2).

ص: 90


1- الوسائل: 1/145/ ب6 من أبواب الماء المطلق ح2، عن الفقيه، وكذلك رواها الشيخ في التهذيب ج1/ح1321.
2- الوسائل: 30/76 عند ذكره لطرق الصدوق. والعمركي بن علي البوفكي النيسابوري وثّقه النجاشي، وهو من أصحاب الإمام العسكري (علیه السلام)، وكان في خدمة أبي جعفر الثاني (علیه السلام). وطريق الطوسي (رحمة الله) إلى علي بن جعفر في التهذيب واحدٌ، فيه: (الحسين الغضائري) وهو من مشايخ النجاشي، وشيخ إجازة، وكثير الرواية، و(أحمد بن محمد بن يحيى) وهو ممَّن ترضّى عنه الصدوق، قال الشيخ (رحمة الله): (وما ذكرته عن علي بن جعفر أخبرني به: الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمد بن يحيى عن..). وللشيخ طريقان في الفهرست عند الرقم 377 الأول معتبر، والثاني معتبر بناءً على أنَّ المراد بأحمد بن محمد هو (ابن عيسى)، لكن الشيخ (رحمة الله) قال في الفهرست في بداية كلامه: (له كتاب المناسك ومسائل لأخيه موسى الكاظم بن جعفر (علیهما السلام) سأله عنها أخبرنا بذلك جماعة عن..). فما هو المرجع في اسم الإشارة (بذلك)؟ المتيقن رجوعه إلى المسائل.

ومنها: معتبرة علي الواسطي قال: دخلتْ الجويرية - وكانت تحت عيسى بن موسى - على أبي عبد الله (علیه السلام) وكانت صالحة، فقالت: إنَّي أتطيب لزوجي فيجعل في المشطة التي امتشط بها الخمر وأجعله في رأسي؟ قال: (لا بأس)(1).

بتقريب: أنَّ الخمر لو كان نجساً ففي ذلك بأس كما هو واضح.

فإنْ قيل: إنَّ السؤال إنَّما هو عن نفس العمل، لاحتمال حرمة استعمال الخمر بأي نحو، فلا يدل نفي البأس إلّا على عدم حرمة ذلك تكليفاً(2).

أجيب ب-: أنَّه لو سلّم عدم انسباق حيثيّة النجاسة من السؤال، فلا أقل من التمسك بإطلاق نفي البأس؛ لأنَّ التنجيس بنفسه بأس، ولو سلّم أنَّ البأس المنفي هو البأس في العمل، بمعنى حرمته خاصّة، لا البأس من ناحيته بنحو يشمل سراية النجاسة فلا أقل من كون سكوت الإمام (علیه السلام) عن محذور السراية مع أهميته ودخوله في محل الابتلاء ظاهراً عرفاً في عدم وجود محذور من هذا القبيل(3).

ص: 91


1- الوسائل: 25/379/ب37 من أبواب الأشربة المحرمة ح2، عن التهذيب. وهو في التهذيب: 9/123 رواه الشيخ عن محمد بن أحمد بن يحيى عن...
2- قال السيد الخميني (رحمة الله) في كتاب الطهارة: (لقرب احتمال أنْ تكون شبهتها في حليّة الانتفاع بالخمر وجواز التمشط بها). وعبّر (رحمة الله) عن الرواية ب-(حسنة علي الواسطي).
3- لاحظ بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/430.

والرواية تامّة سنداً، لثبوت وثاقة سعدان بن مسلم لرواية الأزدي عنه(1).

وأما علي الواسطي فهو ثقة لتوثيق علي بن الحسن بن فضّال إيّاه، وقد نقله الكشي بسندٍ صحيحٍ، وقال النجاشي في ترجمة علي بن الحسن الواسطي إنه لا بأس به(2). اللّهمّ إلّا أنْ يقال: إنَّ علي الواسطي، هو غير علي بن الحسن الواسطي، ويكفي التشكيك في ذلك لعدم اعتبار الرواية، ولعلّ هذا هو الذي دعا السيد الشهيد (رحمة الله) للقول بأنَّ الرواية ساقطة سنداً بعلي الواسطي.

ومنها: مرسلة الصدوق عن الإمام الصادق (علیه السلام): لا بأس أنْ تصلي في ثوب أصابته خمر؛ لأنَّ الله عزّ وجلّ حرّم شربها، ولم يحرّم الصلاة في ثوب أصابته(3).

ومنها: رواية أبي جميلة عن أبي عبد الله (علیه السلام): أنَّه سأله عن ثوب المجوسي ألبسه وأصلي فيه؟ قال: (نعم). قال: قلت: يشربون الخمر، قال: (نحن نشتري الثياب السابرية فنلبسها ولا نغسلها)(4).

ص: 92


1- الكافي باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجة ح2 بسند تامّ.
2- في معجم رجال الحديث: 12/339 قال النجاشي: (علي بن حسان الواسطي أبو الحسن القصير المعروف بالمنمس عمّر أكثر من مائة سنة، وكان لا بأس به، روى عن أبي عبد الله (علیه السلام)، روى عنه سعدان بن مسلم له كتاب يرويه عدة من أصحابنا..). وفي ص338: (وقال الكشي "320-321": (قال محمد بن مسعود: سألت علي بن الحسن بن علي بن فضال عن علي بن حسان قال: عن أيهما سألت أما الواسطي فهو ثقة، وأما الذي عندنا فيشير إلى علي ابن حسان الهاشمي فإنَّه يروي عن عمه عن عبد الرحمن بن كثير فهو كذاب واقفي أيضاً لم يدرك أبا الحسن موسى (علیه السلام)). وفي 13/262 في ترجمة علي الواسطي: عدّه البرقي من أصحاب الصادق (علیه السلام).
3- الفقيه: 4/57 ح: 5090. وقال الصادق (علیه السلام).
4- الوسائل: 3/518/ب73 من أبواب النجاسات ح7. وأبو جميلة المفضل بن صالح هو محل كلام وخلاف.

ومنها: معتبرة معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث، وهم يشربون الخمر ونساؤهم على تلك الحال، ألبسها ولا أغسلها وأصلي فيها؟ قال: (نعم..)(1).

وهي تامّة سنداً، وطريق الشيخ إلى أحمد بن محمد الذي ابتدأ به السند تامّ في المشيخة(2) - وكذا طريق الصدوق إليه -.

ومنها: ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر قال: سألته عن رجل مرّ بمكان قد رُشّ فيه خمر قد شربته الأرض وبقي نداوته أيصلي فيه؟ قال: (إنْ أصاب

ص: 93


1- الوسائل: 3/518/ب73 من أبواب النجاسات ح1 عن التهذيب، وهي في التهذيب ج2/ ح1497. والسابرية: ضرب من الثياب الرقاق تعمل بسابور - موضع بفارس - والنسبة إليها السابري.
2- أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي هو من الطبقة السابعة - الذين جلّهم من أصحاب الجواد والهادي والعسكري (علیهم السلام) - له كتب وهو من أصحاب الرضا والجواد والهادي (علیهم السلام) - كما عن الشيخ في رجاله - وروى عن الجواد والهادي (علیهما السلام)، ويروي عنه كثيراً محمد بن يحيى، ويروي هو كثيراً عن الحسين بن سعيد الأهوازي كما في المقام حيث المراد من الحسين هو ابن سعيد الأهوازي ويتضح ذلك بمراجعة أسانيد رواياته - كما في الكافي -. وعن السيد البروجردي في حاشية مقدمته على جامع الرواة أنَّ ما رواه الشيخ عن أحمد بن محمد بن عيسى يقرب من مائتين وألف. وذكر الشيخ في المشيخة عدة طرق إلى أحمد بن محمد بن عيسى، الأوّل: قال فيه: ومن جملة ما ذكرته عن أحمد بن محمد بن عيسى ما رويته...، وهو طريق معتبر. والثاني: ذكره الطوسي بعد ذكر أسناده إلى محمد بن علي بن محبوب وفيه أحمد بن محمد بن يحيى وتوثيقه يختلف باختلاف المباني. والثالث والرابع: ذكرهما الطوسي كطريقين إلى ما أخذه من نوادر أحمد بن محمد بن عيسى، والثالث معتبر، والرابع فيه أحمد بن محمد بن يحيى - وتمييز روايات النوادر عن غيرها من كتب أحمد في التهذيبين عند عدم التصريح من الشيخ به غير ميسور والمهم أنَّه لا ثمرة لذلك -. وذكر الشيخ في الفهرست طرق ثلاثة، الأوّل: فيه أحمد بن محمد بن يحيى، والثاني: فيه أحمد بن محمد ابن الحسن بن الوليد، والثالث - إلى كتاب المبوبة الذي ذكر أنَّه النوادر - معتبر.

مكاناً غيره فليصلِّ فيه، وإنْ لم يصب فليصلِّ ولا بأس)(1).

وتقريب الدلالة من عدة وجوه:

أ- التمسك بإطلاق قوله (علیه السلام) (وإنْ لم يصب فليصلِّ) فإنَّ مقتضى إطلاق صحّة الصلاة بمجرد عدم إصابة مكان آخر جاف، سواء كان الوقت وسيعاً بنحو يجفّ قبل خروجه أو لا، وسواء كان بالإمكان تجفيفه بالعناية أو وضع شيء يمنع عن السراية أو لا، بل لعلّ الغالب إمكان التحفظ بنحو من الأنحاء، فلو كان المكان نجساً ومنجساً للزم التحفّظ، ولما ارتفع المحذور بمجرد عدم إصابة مكان آخر في حال إرادة الصلاة، كما هو ظاهر الرواية.

وبالجملة: إنَّ كلامه (علیه السلام) مطلق فلم يقيّد باشتراط التجفيف، أو وضع مانع دونه يصلي عليه.

ب- التمسك بقوله (علیه السلام) (لا بأس) لظهوره في نفي البأس الملحوظ للسائل في مقام الاستعلام لو تمَّ استظهار أنَّ البأس المحتمل للسائل هو النجاسة لا منع نداوة الخمر عن الصلاة بالأصالة، فإذاً ليس البأس المقصود للسائل إلّا نجاسة البدن والثوب بالخمر.

ج- بتقريب الإطلاق المقامي وعدم التنبيه على ما يترتب على الصلاة في ذلك المكان عند الانحصار من النجاسة ولزوم غسل الأعضاء بعد ذلك، إلّا أنَّ افتراض هذا الإطلاق بلا موجب؛ لأنَّه لم يحرز كون الإمام (علیه السلام) في مقام البيان عن سائر الجهات، فلعلّه اعتمد في توضيح ذلك على ما تقتضيه القاعدة(2).

ص: 94


1- الوسائل: 3/455/ب30 من أبواب النجاسات ح7 نقلها عن قرب الإسناد فقط.
2- لاحظ بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/433-434 - بتصرف -.

وأما سنداً فهذه الرواية يرويها الحرّ (رحمة الله) عن قرب الإسناد للثقة عبد الله بن جعفر الحميري(1)، الذي تضمّن في جزئه الثاني كتاب مسائل الثقة علي بن جعفر في الحلال والحرام عن أخيه الإمام موسى بن جعفر (علیهما السلام)، وروى تلك المسائل عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر، ولكن عبد الله بن الحسن راوي هذه النسخة من المسائل لم يوثّق في كتب الرجال، وعن المحقّق صاحب المنتقى (رحمة الله) الإشارة إلى ذلك، ومن هنا لم يعتمد معظم الفقهاء على مسائل علي بن جعفر المروية بطريقه.

ومن ثَمَّ هذه الرواية ضعيفة سنداً.

إنْ قيل: كتاب قرب الإسناد من الأصول المعتبرة المشهورة فلا يضر ضعف الراوي.

قلت: إنَّ شهرة الكتاب إنَّما تقتضي عدم الحاجة إلى سند صحيح إليه، لا اعتبار كل ما فيه، مضافاً إلى أنَّه ينبغي إحراز الشهرة في المقام.

ومنها: معتبرة كليب بن معاوية قال: كان أبو بصير وأصحابه يشربون النبيذ يكسرونه بالماء فحدّثتُ أبا عبد الله (علیه السلام) فقال لي: (وكيف صار الماء يحلّ المسكر؟ مرهم لا يشربون منه قليلاً ولا كثيراً). ففعلت فأمسكوا عن شربه، فاجتمعنا عند أبي عبد الله (علیه السلام) فقال له أبو بصير: إنَّ ذا جاءنا عنك بكذا وكذا؟ فقال: (صدق, يا أبا محمد إنَّ الماء لا يحلّ المسكر فلا تشربوا منه قليلاً ولا كثيراً)(2).

وتقريب الدلالة: إنَّه لو كان المرتكز في ذهنهم النجاسة لكان من البعيد أنْ يتوهموا

ص: 95


1- عبد الله بن جعفر بن الحسن بن مالك بن جامع الحميري، أبو العباس القمي، وثّقه الشيخ، وعن النجاشي أنَّه شيخ القميين ووجههم، من أصحاب الهادي والعسكري (علیهما السلام) - وذكر أنَّه ليس له رواية عن الرضا والجواد (علیهما السلام) - وهو من الطبقة الثامنة. وكتاب قرب الإسناد الجزء الثاني منه يحتوي على مسائل علي بن جعفر رواه الحميري بواسطة عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر.
2- الوسائل: 25/341/ح2.

كسر محذور النجاسة بالماء؛ لأنَّ من الواضح أنَّ النجس إذا زِيد ماءً تنجس ما يلقى فيه ولا يطهر، وإنَّما ينشأ هذا التوهم عند قصر النظر على محذور الحرمة، فيكشف عن عدم ارتكاز النجاسة في ذهن ثلّة من فقهاء أصحاب الأئمة(1).

فإذاً, ظاهر المعتبرة ارتكاز الطهارة عند أبي بصير ولم يردع الإمام (علیه السلام) عن هذا الارتكاز فبالإمضاء السكوتي يدلّ على الطهارة، والرواية معتبرة سنداً(2).

ومنها: معتبرة عبد الله بن سنان(3).

ومنها: رواية الجعفريات(4).

ومنها: معتبرة إسماعيل بن جابر قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) ما تقول في طعام أهل

ص: 96


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/413.
2- في سندها (علي بن الحكم) وقد وثّقه الشيخ، وأما (كليب بن معاوية بن جبلة الصيداوي الأسدي) فهو وإن لم يذكر بشيء، ولكن الظاهر أنَّه ثقة لأكثر من وجه: حيث روى عنه ابن أبي عمير بسند تامّ كما في الكافي باب في ترك دعاء الناس ح1، وكذلك بسند تامّ في باب أنَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حرّم كل مسكر قليله وكثيره ح1، وكذلك عنه صفوان بسند تامّ كما في الكافي باب التسمية والتحميد والدعاء في الطعام ح7، وكذلك بسند تامّ في باب أن رسول الله حرّم كل مسكر قليله وكثيره ح6. وروى الكليني بسند تامّ عن زيد الشحّام عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قلت له: إنَّ عندنا رجلاً يقال له كليب فلا يجيء عنكم شيء إلّا قال أنا أُسَلّمِ فسميناه كليب تسليم، قال: فترحم عليه، ثم قال: (أتدرون ما التسليم)؟ فسكتنا، فقال: (هو والله الإخبات قول الله عزّ وجلّ > الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ<). الكافي باب التسليم ح3، ولاحظ الآية: 23 من سورة هود. (والإخبات: الخضوع والتسليم والانقياد والاطمئنان). وظاهر الرواية أنَّ كليباً من مصاديق الآية الكريمة فيمكن أنْ يدل على وثاقته، قال السيد الخوئي (رحمة الله) في المعجم: (.. فيه دلالة واضحة على جلالة كليب لا تقل عن التوثيق)، ولك أنْ تقول أنَّه مدح يدل على التوثيق.
3- الوسائل: 6/521/ب74 من أبواب النجاسات ح1.
4- جامع أحاديث الشيعة: 2/89/ح8.

الكتاب؟ فقال: (لا تأكله ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة ثم قال: لا تأكله، ولا تتركه تقول إنَّه حرام، ولكن تتركه تتنزه عنه، إنَّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير)(1).

والرواية ظاهرة في الطهارة، وأما سندها فهو: أبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن إسماعيل بن جابر، وإسماعيل بن جابر الجعفي الخثعمي وثّقه الشيخ (رحمة الله)، وهو ممن روى عنه ابن أبي عمير وصفوان بسند تامّ. وما ورد

في ذمه ضعيف(2).

ومنها: رواية هارون بن حمزة الغنوي(3)، وهي ضعيفة سنداً من جهة يزيد بن إسحاق.

ومنها: رواية زكريا بن إبراهيم(4)، وهي ضعيفة سنداً لعدم ثبوت وثاقة عبد الرحمن بن حمزة، وزكريا بن إبراهيم.

ومنها: رواية حفص الأعور(5)، وهي ضعيفة سنداً بحفص.

وبالجملة: إنَّه وإنْ كان يمكن الخدشة في بعض الروايات، ولكن لا يمكن إنكار أنَّها بمجموعها تدلّ على الطهارة، وكثرتها تؤدي إلى الاطمئنان بصدور مضمونها, ومِن ثَمَّ ستعارض روايات النجاسة التي لو خُليت وطبعها لكان يظهر من مجموعها النجاسة، وإنْ كان في كلّ منها ما يمكن مناقشته.

ص: 97


1- الوسائل: 24/210/ب54 من أبواب الأطعمة المحرمة - باب تحريم الأكل في أواني الكفار مع العلم بتنجيسهم لها لا مع عدمه - ح4 عن الكافي.
2- لاحظ المعجم: 4/ 33، 353.
3- الوسائل: 25/350/ب21 من أبواب الأشربة المحرمة ح5.
4- الوسائل: 24/211/ب54 من أبواب الأطعمة المحرمة ح5.
5- الوسائل: 25/368/ب30 من أبواب الأشربة المحرمة ح3.

فإذاً, لنلاحظ ما هو مقتضى الصناعة في باب الأخبار للخروج من مأزق هاتين الطائفتين من الروايات.

هل يمكن طرح روايات الطهارة؟

قد يقال: إنَّ أخبار الطهارة ساقطة عن الحجيّة في حدّ نفسها وذاتها فلا تزاحم أخبار النجاسة، ويتعيّن الأخذ بها ولا تصل النوبة إلى باب التعارض أساساً؛ فإنَّ اللاحجّة لا تعارض الحجّة؛ وذلك إمَّا استناداً إلى أنَّ أخبار الطهارة معرَضٌ عنها وإنْ لم تكن مهجورة كلياً، أو لأنَّها مخالفة لكتاب الله تعالى، أو لأنَّ أخبار النجاسة في نفسها قطعية إجمالاً لاستفاضتها فتكون روايات الطهارة مخالفة للسُنّة القطعية وهي كالمخالفة للكتاب الكريم توجب الخروج عن إطلاق دليل الحجيّة.

والجواب: أمَّا بالنسبة للإعراض فبناءً على أنَّه كاسر وموهن فهو إنَّما يكون كذلك إذا كان كاشفاً عن وجود خلل في الرواية سنداً أو غيره بحيث لو اطلّعنا عليه لأعرضنا عنها كما أعرض المشهور وبالتالي تسقط عن الاعتبار، أو عن وجود ارتكاز واضح بينهم على النجاسة تلقّوه يداً بيد من المعصوم (علیه السلام) ومن أجله لم يولوا اهتماماً لروايات الطهارة.

ولكن يظهر في المقام أنَّ ترك المشهور العمل بروايات الطهارة مبنيٌّ على إعمال النظر والاجتهاد والرأي في فَهْم النصوص فتُركت روايات الطهارة على أساس الحدس والصناعة والمباني؛ لكونها مخالفة لكتاب الله، أو للاحتياط في الدين، أو لكونها موافقة للعامّة فتحمل على التقيّة كما يظهر ذلك من كلام الشيخ الطوسي (رحمة الله) المتقدم الذي يقدّم فيه أخبار النجاسة لمخالفة أخبار الطهارة للكتاب أو لموافقتها للعامّة.

كما أنَّ ابن إدريس الحلي حينما تعرّض لأخبار الطهارة رماها بأنَّها آحاد، ولم يُشِر في

ص: 98

كلمات المتقدّمين إلى وجود خلل خاص بها(1).

فكون مقتضى الصناعة هو ما منع المشهور من العمل بأخبار الطهارة أمرٌ محتمل ومعتدّ به إنْ لم يكن هو الظاهر. مضافاً إلى ذلك فإنَّه قد يُشكّك صغروياً في حصول إحراز إعراض الأصحاب عن أخبار الطهارة فلا يثبت مع وجود القول بها من القدماء ومن المتأخّرين.

وبالجملة: حتى لو سُلمت كبرى أنَّ الإعراض موهنٌ، لكن لم تثبت صغرى الإعراض في المقام.

نعم، يمكن أنْ يقال: بأنَّه لو اتفقت الطبقة المتقدّمة الذين هم أصحاب الخبرة بالحديث كالكليني والصدوق والطوسي على الإعراض عن الحديث فإنَّه يسقط عن الحجيّة؛ إذْ إنَّ اتفاقهم إنْ حصل سوف يكون موجباً للاطمئنان بوجود خلل في الرواية أو السقوط عن الحجيّة، باعتبار أنَّ الدليل العمدة لحجيّة الخبر هو السيرة - والأدلة اللفظية هي إرشاد إلى ذلك ولا تريد أنْ تؤسس مطلباً جديداً فهي إمضائية لا تأسيسية - والسيرة دليل لبيّ فيقتصر على القدر المتيقّن منها، وهو حالة عدم اتفاق إعراض طبقة أهل الخبرة بالحديث من المتقدمين، فإذاً دليل حجية الرواية المهم - وهو السيرة - قاصر عن الشمول لمثل هذه الحالة.

ولكن لا يخفى أنَّ الصدوق - مثلاً - الذي ذكر في مقدّمة كتاب الفقيه أنَّه لا يذكر إلّا ما يفتي به ويراه حجّة بينه وبين ربه اقتصر في الفقيه على النصّ الدالّ على طهارة الخمر من دون أنْ يذكر شيئاً من نصوص النجاسة بنحو يظهر منه العمل بالأولى دون الثانية، إذْ قال في الفقيه: (ولا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر؛ لأنَّ الله عزّ وجلّ حرّم

ص: 99


1- السرائر: 1/179.

شربها ولم يحرّم الصلاة في ثوب أصابته، فأمَّا في بيت فيه خمر فلا يجوز الصلاة فيه)(1).

وذكر (رحمة الله) في موضع آخر معتبرة بكير(2)، وذكر في موضع ثالث رواية أبي جميلة(3).

والحاصل: أنَّه يصعب إحراز الإعراض من الطبقة المتقدمة عن نصوص الطهارة مع وضوح الدلالة وكثرة العدد, بل قال المحقّق الهمداني (رحمة الله): (الإنصاف أنَّ إعراضهم عنها ليس على وجه يسقطها عن الحجيّة، فهي أخبار مستفيضة مشهورة عمل بها بعض الأصحاب لا يكون طرفها إلّا تعارض مكافئ، وما يصلح لمعارضتها ليس إلّا بعض أخبار النجاسة الذي لا يقبل الحمل على الاستحباب، وهذا البعض من حيث هو لا يكافئ أخبار الطهارة إلّا أنْ يدّعى انجباره بعمل الأصحاب ونقل إجماعهم واعتضاده بظواهر غيره من الأخبار الكثيرة، وفيه تأمل)(4).

وأمَّا بالنسبة لمخالفة كتاب الله تعالى فقد تقدّم أنَّ الآية لا تدلّ على النجاسة، وبالتالي أخبار الطهارة ليست مخالفة للكتاب الكريم.

وبعبارة أخرى: لا إشكال كبروياً في أنّ ما يخالف كتاب الله تعالى هو ساقط عن الحجيّة، ولكن صغروياً لم تتمّ دلالة كلمة (رجس) على النجاسة، ومعه فلا يصدق على أخبار الطهارة أنَّها معارضة للكتاب حتى تسقط بذلك عن الحجية.

ص: 100


1- الفقيه: 1/74.
2- الفقيه: 1/248.
3- الفقيه: 1/259، وفي هامش الفقيه: 1/74 تعليقاً على عبارة (بيت فيه خمر): (يمكن توجيهه بأن عين الخمر هنا موجودة بخلاف إصابة الثوب منها فربّما كان للعين أثر لا يكون للأثر). [سلطان]. وتعليقاً على عبارة (فلا يجوز الصلاة فيه): (روي أخبارٌ بالنهي عن الصلاة في بيت فيه خمر وحملها الأصحاب على الكراهة لاستعمالهم عدم الجواز في الكراهة كثيراً والأحوط أنْ لا يصلي فيه). [م ت].
4- مصباح الفقيه للمحقّق الهمداني (رحمة الله): ج1/ق2/548 - 549.

هذا، مضافاً إلى أنَّه لو سلمت الدلالة على النجاسة فقد يقال: إنّ أخبار الطهارة مستفيضة مقطوعة الصدور إجمالاً، ومع كونها كذلك فلا يتمّ هذا الوجه، أي لا توجب الآية سقوط أخبار الطهارة عن الحجيّة، وإنَّما توجب السقوط إذا لم تكن هذه الأخبار قطعيّة الصدور إجمالاً.

وأمَّا بالنسبة إلى مخالفة السُنّة القطعية فقد أجيب عنه ب-: أنَّ جملة من روايات النجاسة قابلة للحمل على التنزّه بالجمع العرفي أو قابلة للتقييد، إذْ تستفاد النجاسة من إطلاقها، فإنْ أريد بالاستفاضة بضم هذه الجملة لم يفد لإثبات عنوان المخالفة الموجبة للسقوط عن الحجيّة، وإنْ أريد ادعاء الاستفاضة من دونها فهو واضح البطلان.

الوجوه الصناعية لرفع التعارض

اشارة

وقد تسأل: كيف يتعامل مع هاتين الطائفتين المتعارضتين للوصول إلى الحكم الشرعي بعد اتضاح عدم سقوط إحدى الطائفتين عن الحجيّة في حدّ نفسها؟ فكلّ منهما له حجيّة شأنية، أو قل له حجّة لولائية، أي هو حجّة في حدّ نفسه لولا وجود المعارض له، لا أنَّ حجيّته بالفعل، فهذا يتوقف على أنْ يثبت الدليل إلى الأخير بأنْ ندفع المعارض له.

فهل يوجد نصّ شرعي يرفع التعارض؟ أو هل يوجد جمع عرفي، أم إنَّ التعارض مستقّر ونحتاج إلى إعمال المرجّحات العامّة الواردة في الأخبار العلاجيّة؟ وإنْ لم يتمّ وجود مرجّح نرجع إلى العموم الفوقاني إنْ وجد، وإلّا كان المرجع هو الأصل العملي حيث الأصل الأولي ومقتضى القاعدة الأوّلية(1) هو تساقط الدليلين المتعارضين عن

ص: 101


1- أي مقتضى دليل حجيّة الخبر، ويراد من الأصل الثانوي الأخبار العلاجيّة للموقف بين المتعارضين الذاكرة للمرجّحات العامة حتى يتضح ما هو الحجّة فعلاً.

الحجيّة بمعنى عدم شموله لهما رأساً(1)؛ لأنَّه إنْ كان السيرة فالمتيقّن منها غير المتعارضين، وهذا واضح، وإنْ كان دليل الحجيّة دليلاً لفظياً، بتقريب: أنّ دليل حجيّة الخبر لكليهما لازمه تنجيز وحجيّة المتعارضين معاً، وشموله لأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح، ولأحدهما المخيّر بعنوان الجامع - أي الأحد - فهو معقول ثبوتاً، لكنْ إثباتاً باطل؛ لأنَّ ظاهر دليل حجيّة الخبر هو حجيّة الفرد لا حجيّة أحدهما والجامع، فالقاعدة تقتضي التساقط حيث الاحتمالات الأساسية والقريبة من الذهن ثلاثة كما تقدّم، والأولان فيهما محذور ثبوتي، والثالث فيه محذور إثباتي. هذا إذا كان مدرك حجيّة الخبر دليل لفظي، وأما بناءً على أنَّ المدرك الأساسي هو السيرة فالأمر واضح؛ لأنَّ السيرة دليل لُبّي والقدر المتيقّن منها عدم وجود المعارض.

والجواب: توجد عدَّة وجوه، منها: التمسّك بوجود النصّ الحاكم، ومنها: الجمع العرفي، ومنها: الرجوع إلى الأصل الثانوي، أي المرجّحات العامّة حيث يستقر التعارض، فإذاً توجد وجوه عديدة يمكن تصوير مقتضى الصناعة فيها.

الوجه الأول

أنّ الشارع تصدّى بنفسه في خصوص المقام ورفع التعارض والاختلاف من خلال بيانه بلزوم تقديم أخبار النجاسة، وذلك من خلال معتبرة علي ابن مهزيار: قرأتُ في كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن (علیه السلام) جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (علیهما السلام) في الخمر يصيب ثوب الرجل أنَّهما قالا:(لا بأس بأنْ تصلي فيه إنَّما حُرّم شربها).

وروى غير زرارة عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنَّه قال: (إذا أصاب ثوبك خمرٌ أو نبيذ - يعني المسكر - فاغسله إنْ عرفت موضعه، وإنْ لم تعرف موضعه فاغسله كله، وإنْ

ص: 102


1- لا أنّه يشملهما ثُمّ يتساقطان كما يوهمه لفظ التساقط.

صليت فأعد صلاتك) فأعلمني ما آخذ به؟ فوّقع (علیه السلام) بخطه وقرأته: (خذْ بقول أبي عبد الله (علیه السلام))(1) - ونحوها رواية خيران الخادم -(2).

بتقريب: أنَّ المعتبرة ناظرة إلى كلتا الطائفتين المتعارضتين ودلّت على لزوم ترجيح قول أبي عبد الله (علیه السلام) وهو الطائفة الدالة على النجاسة، فهي التي تمثّل قول أبي عبد الله (علیه السلام) فقط، فإنَّ عنوان (قول أبي عبد الله (علیه السلام)) صالح عرفاً لإرادة القول المختصّ، وليس المراد هو القول الآخر، فإنَّه قول لهما (علیهما السلام) معاً، ولو كان مراده قولهما معاً لكان على الإمام (علیه السلام) أنْ يقيم قرينة عليه. فهذا جمع شرعي وبيان شرعي لما يجب الأخذ به(3).

ص: 103


1- لاحظ الوسائل: 3/468/ح2.
2- تقدّمت, وفي سندها سهل بن زياد، فإنْ بنينا على وثاقته كانت معتبرة وإلاّ فهي رواية.
3- لا يخفى: أ- إنَّ النصوص الواردة عن الأئمة (علیهم السلام) ظاهرة في بيان الحكم الواقعي الشرعي الأولي الثابت في أصل التشريع - غير القابل للتغيير في فرض عدم النسخ -. ومن هنا فالأصل الأولي أنَّ الرواية تصدر بداعي بيان الحكم الواقعي، وليس الأصل الأولي هو الحكم الفعلي للمكلف الثابت لأجل التقيّة ونحوها القابل للتغيير. ب- لا يرفع اليد عن الأصل الأولي المتقدم إلّا بقرينة، كما إذا كانت الرواية معارضة برواية أخرى تخالف العامة فتحمل الموافقة على التقيّة، وأمَّا مع عدم المعارضة بشيء فلا موجب للحمل على التقيّة لأنَّه بلا موجب ومقتضٍ. ج- الحكم الواقعي الأولي لا يقبل التعدد فإذا كان الخطابان واردين لبيان الحكم الواقعي الأولي فاحتمال مخالفة أحدهما للواقع موجود، ومن هنا كان اختلافها في الموضوع الواحد موجباً لتعارضها في أنفسها ومورداً للمرجحات الإثباتية الواردة في الأخبار العلاجية والترجيح بينها بلحاظ طريقتيهما إلى الواقع وقوة الكاشفية، فالأخبار العلاجية راجعة إلى تعارض الحجتين إثباتاً في الحكم الواحد. د- سيرة الأئمة (علیهم السلام) التصدي للأحكام الأولية الواقعية بعد تشخيصها كما هو مقتضى الوضع الطبيعي المناسب للأمر بالأخذ بخلاف العامة. ﻫ الوظيفة الفعلية العملية للمكلف قد تكون طبق الحكم الأولي وقد تكون وظيفة ثانوية طبق الحكم الثانوي، وتشخيص الوظيفة الثانوية في حقّ كل شخص من حيث التقيّة، أو الحرج، أو الضرر هو أمرٌ موكول إلى الشخص نفسه لاختلافها باختلاف الأشخاص والظروف غير المنضبطة عادة، وإنمَّا صدر منهم (علیهم السلام) تشخيص الوظيفة الثانوية في مناسبات في حقّ بعض الأشخاص كقصة علي بن يقطين.

والحاصل: أنَّه يؤخذ بما دلّ على النجاسة: إمَّا باعتبار أنَّ المعتبرة حاكمة؛ لأنَّها ناظرة للطرفين، أو باعتبار أنَّها مرجّح علاجي للتعارض، غاية الأمر هو خاصّ بالمقام وليس من المرجّحات العامّة، والخاصّ أو المقيّد يُعمل به ويقدّم على المرجّحات العامّة - التي هي مبيّنة حال مرحلة الحجيّة والحكم الظاهري ومرحلة معرفة الوظيفة الظاهرة، والتي دلّت عليها الأخبار العلاجية العامّة، والتي لا يذكر فيها للخبرين مفادّ ومدلول معيّن للتعارض - فيكون العمل بالمعتبرة من باب العمل بالأخبار العلاجية.

وبعبارة أخرى: تقدَّم المعتبرة إمَّا من باب الحكومة والنظر للمحكوم مع الاعتراف بأصل وجوده ولو في مرحلة الكشف عن المراد الجدي، وإمَّا من باب كونها مرجّحاً علاجياً خاصّاً بالمقام - وليس من باب الحكومة - لاحتمال أنَّها صادرة للتقيّة ونحوها وليست لبيان الحكم الواقعي، أو لاحتمال أنَّه (علیه السلام) يريد بيان أنَّ الرواية غير صادرة من الإمامين (علیهما السلام) أصلاً وأنَّها مكذوبة عليهما فالنظر تكذيبي.

واستدل بهذا الوجه الأوَّل كثيرٌ من علمائنا، قال النراقي (رحمة الله): (إنّ الخبر العلاجي في خصوص اختلاف الأخبار في المقام وارد وهي صحيحة علي بن مهزيار.. وظاهر أنَّ المراد قوله منفرداً)(1).

وقال صاحب الجواهر (رحمة الله): (.. إذ من الواضح إرادة قوله المنفرد عن قول أبيه وإلّا فكلا القولين قوله والأخذ بهما جميعاً ممتنع، والتخيير غير مقصود، على أنَّه لو كان المراد

ص: 104


1- مستند الشيعة: 1/192.

قوله مع أبيه لكان ينبغي إسناده إليهما معاً أو إلى أبي جعفر (علیه السلام) كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، وهي مع اشتمالها على الإعراض عن تلك الأخبار دالّة على النجاسة أكمل دلالة وأبلغها في علو سندها وتعدّد طرقها، ومروية عن الإمام اللاحق حاكمة على الأخبار المروية عمن قبله وليس في تلك الأخبار ما يعادلها نفسه)(1).

وقال الشيخ الأنصاري (رحمة الله): (ويكفي في الحكومة بين أخبار الطرفين رواية علي بن مهزيار..)(2).

وقال المحقّق الهمداني (رحمة الله): (ولكن مع ذلك كله الأظهر النجاسة لصحيحة علي بن مهزيار.. فإنَّ ظاهرها تعيّن الأخذ بقول أبي عبد الله (علیه السلام) المنفرد عن قول أبي جعفر (علیه السلام) الذي مضمونه التنجيس فهو المتبع، ولا يعارضها أخبار الطهارة لحكومتها عليها؛ فإنَّها بمنزلة الأخبار العلاجية الواردة في حكم المتعارضين الآمرة بالأخذ بما وافق الكتاب، أو ما خالف العامّة، أو غير ذلك فإنَّها لا تعدّ في عرض المتعارضين.. لكنك خبير بأنَّ العمومات والقواعد لا تزاحم النصّ الخاصّ الصحيح، فالصحيحة سليمة عن المعارض يجب الأخذ بظاهرها، فما في المدارك من حملها على الاستحباب جمعاً بينها وبين أخبار الطهارة في غير محله. ونظيرها في الحكومة على ساير الأخبار خبر خيران الخادم قال:.. إذ الظاهر أنَّ اختلاف أصحابنا فيه لم يكن إلّا لاختلاف أخبارهم، وكان هذا منشأ لتحيّر السائل ورجوعه إلى الإمام (علیه السلام)، فما صدر عنه (علیه السلام) لبيان حكم ذلك الموضوع الذي اختلفت الروايات فيه لرفع تحيّره لا يُعدّ في عرض تلك الأخبار الموجبة لتحيّره)(3).

ص: 105


1- الجواهر: 6/8-9.
2- كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 2/360.
3- مصباح الفقيه للمحقق الهمداني: ج1/ق2/549.

وقال السيد الحكيم (رحمة الله): (.. ولا ريب في دلالة الروايتين المذكورتين على أنّ التعارض بين روايتي الطهارة والنجاسة مستحكم على نحوٍ لا مجال للجمع العرفي بينهما، وأنَّ الترجيح لرواية النجاسة، فلو اقتضت عمومات الترجيح رواية الطهارة كانت الروايتان المذكورتان إمَّا مخصّصتين لها أو حاكمتين عليها..)(1).

وقال السيد الخميني (رحمة الله): (.. فما بقي في الباب إلّا صحيحة ابن رئاب قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الخمر والنبيذ والمسكر يصيب ثوبي فأغسله أو أصلي فيه؟ قال: صلِ فيه إلّا أنْ تقذّره فتغسل منه موضع الأثر إنَّ الله تعالى إنَّما حرّم شربها) فإنَّها سليمة سنداً ودلالة عن الخدشة، بل يمكن أنْ يقال: إنّ قوله (علیه السلام) (إلّا أنْ تقذّره فتغسل منه) الخ نحو تفسير للأوامر الواردة في غسل الثوب منها، بل لقوله: رجس ونجس، بدعوى أنَّ القذارة فيها بالمعنى العرفي، فتكون شاهدة للرجس والنجس في غيرها، بل قوله (علیه السلام) (إنَّ الله إنَّما حرّم شربها) الخ حاكم على ما تقدّم لولا صحيحة علي بن مهزيار.. وحسنة خيران الخادم أو صحيحته المتقدّمة فإنَّهما حاكمتان عليها وعلى جميع الروايات في الباب على فرض تسليم دلالتها..)(2).

وقال السيد الخوئي (رحمة الله): (.. ولا مناصّ من الحكم بنجاسة الخمر؛ وذلك لأنَّ الصحيحة ناظرة إلى الطائفتين ومبيّنة لما يجب الأخذ به منهما، فهي في الحقيقة من أدلة الترجيح وراجعة إلى باب التعادل والتراجيح، وغاية الأمر أنَّها مرجحة في خصوص هاتين المتعارضتين)، وقال أيضاً: (.. إنّّ الصحيحة.. دلتنا على وجوب الأخذ بروايات النجاسة وتقديمها على أخبار الطهارة لما عرفت من حكومتها على كلتا الطائفتين..)،

ص: 106


1- مستمسك العروة: 1/403.
2- كتاب الطهارة: 3/187.

الى أنْ قال: (.. ونحن إنَّما حكمنا بنجاسة الخمر بصحيحة علي بن مهزيار..)(1).

ويمكن أن يلاحظ عليه:

1- لا مثبت أنَّ الرواية من الأخبار العلاجيّة المبيّنة لحال الحجيّة الظاهرية؛ لأنَّ المناسب لذلك هو أنْ لا تكون ناظرة لمورد معين للتعارض، فعدم تشخيص مورد معيّن للتعارض يكشف عن أنَّ السائل يريد استعلام حال الحجيّة للخبرين المتعارضين اللذين لا يمكن أنْ يشملهما معاً دليل الحجيّة، وأمَّا في المقام فمورد التعارض قد شخّصه السائل، ومن ثَمَّ يحتمل فيها - في الأقل إنْ لم يكن ظاهراً - أنَّ السائل يريد معرفة واستعلام العلم بالحكم الواقعي الأولي للمسألة وبيان حال المسألة واقعاً(2).

ص: 107


1- التنقيح: 3/86 و88 و90 ط. جديدة. وكذا ذكر هذا الوجه علماء آخرون. فلاحظ مصباح المنهاج: 8/396، فقه الصادق: (.. ولكن صحيح علي بن مهزيار.. وخبر خيران الخادم.. يدلان على تحقّق المعارضة بين نصوص الطهارة وطائفة من نصوص النجاسة، وهي الناهية عن الصلاة في الثوب الذي أصابته الخمر - وإنْ كان في دلالتها على النجاسة تأمل - وتقديم تلك النصوص على نصوص الطهارة وعليه فلا مجال للعمل بها..) 3/311، وفي القواعد الفقهية للسيد البجنوردي: 5/323: (.. فبملاحظة هاتين الروايتين يتعيّن الأخذ بأخبار النجاسة وترك الطائفة الأخرى وردّ علمها إلى أهلها أو حملها على التقية..)، واقتصر الشيخ حسن صاحب المعالم في كتابه منتقى الجمان: 1/87 في باب الخمر على ذكر معتبرة ابن مهزيار فقط ولم يذكر غيرها، وقال صاحب الحدائق: 5/ 108 - الذي اختار حمل الأخبار الدالة على الطهارة على التقية - في ضمن ردّه على الوجه الثاني الآتي: (وأمَّا ما ذكره الفاضل الخراساني - من أنَّه يمكن أنْ يكون المراد بقول أبي عبد الله (علیه السلام) قوله الذي مع أبي جعفر (علیه السلام) ويكون التعبير بهذه العبارة المشتبهة للتقيّة - فهو ممّا لا يروج إلّا على الصبيان العادمي الأفهام والأذهان).
2- لا يخفى: أنَّ مقتضى الجمع العرفي لمّا لم يكن واقعياً قطعياً، بل كان ظاهرياً ظنياً فهو لا يمنع من السؤال الموصل للحكم الواقعي وليس هو كالسؤال عن أخبار التعارض العامة؛ لأنَّ الغرض منها لمّا كان هو معرفة الوظيفة الظاهرية كان منصرفاً عمّا إذا كانت معلومة بطريقة الجمع العرفي. (لاحظ المحكم في أصول الفقه).

مضافاً إلى أنَّه لو كانت الرواية من المرجّحات العلاجيّة في خصوص المقام وأنَّها بصدد بيان أنَّ الرواية الدالّة على الطهارة مكذوبة مثلاً وغير صادرة من الإمامين (علیهما السلام)، أو إنَّها صادرة لتقيّة ونحوها لكان من المناسب للإمام (علیه السلام) أنْ يُكذِّب وينفي أصل الصدور عنهما (علیهما السلام)، إضافة إلى أنَّه يحتمل أنَّها بصدد الترجيح في مقام العمل للمكلّف الذي ظاهره أنَّه يريد الحكم ليعمل به، وأمَّا احتمال صدور أخبار الطهارة تقيّة فهو ضعيف كما سيتضح(1).

وكذا لا مثبت لكون الرواية حاكمة وناظرة للمتعارضين وأنَّها مقدِّمة لروايات النجاسة، وممّا يبّعده أنَّ احتمال صدور نصوص الطهارة تقيّة ضعيف، كما أنَّه لا نظر

ص: 108


1- بل قيل: إنَّ رواية الطهارة المنقولة عن زرارة هي الأقرب للحكم الواقعي، وما رواه غير زرارة هو الذي يحمل على وجوه أخرى من تقيّة ونحوها، لأجل فقاهة زرارة، ومعرفته بوجوه الكلام، واختصاصه بالإمام (علیه السلام) حيث يطلعه على ما يخفيه (علیه السلام) عن غيره. لاحظ الكافي ج7 كتاب المواريث ب57 ميراث الولد مع أبويه ح3. وقيل: يحتمل أنّ الرواية واردة مورد التقيّة وأنّ الإمام (علیه السلام) اتقى السائل عبد الله بن محمد بأنْ جاء بالجواب مجملاً حيث إنّه (علیه السلام) أتى بالجواب بنحو يُفهم منه النجاسة من دون أنْ يصرح بها، واحتمال التقيّة منشؤه أنّ السائل الذي كتب تقتضي مناسبات الحكم والموضوع أنْ يكون هو عبد الله بن محمد ابن حصين الحضيني الأهوازي الذي يروي عن الإمام الرضا (علیه السلام)، إذ هو أهوازي وكذلك علي بن مهزيار، والحضيني لم يكن شيعياً، وصرّح الكشي أنّ الذي هداه للتشيع الحسن بن سعيد الأهوازي. فالظاهر أنَّه هو السائل وأنَّ المسؤول الإمام الكاظم (علیه السلام)، إذ هو المنصرف من لفظ أبي الحسن (علیه السلام) وأنَّ هذا السؤال منه قبل تشيعه؛ إذْ كان من غير المعاندين من العامّة ممَّن يرجع في أمور دينه إلى الأئمة (علیهم السلام) باعتبارهم علماء وفقهاء أجلاء، وما أكثر أمثاله في الخارج حتى تثبت له الإمامة بطول العشرة والصحبة مع الإمام (علیه السلام)، وعليه فيكون الإمام (علیه السلام) قد اتقاه بأنْ جاء بالجواب مجملاً. أقول: لاحظ اختيار معرفة الرجال: 2/827.

تفسيري؛ إذْ لا ذكر لوجه صدور كل منها، وعلى أي حال الاستدلال بها على الحكم يحتاج إلى إثبات أنَّها ناظرة إلى كلا طرفي الأخبار من الروايات فالحكومة هي فرع وجود دليلين.

2- إنّ ظاهر قوله (علیه السلام): (خُذْ بقول أبي عبد الله (علیه السلام)) الفراغ من جهة السند ومن جهة صدور النصّ من الإمامين وعن الحجيّة، فحتى قولهما (علیهما السلام) المشترك هو حجّة فيتعيّن أنْ يكون الترجيح منه (علیه السلام) هو بحسب الحكم الواقعي(1) لا الظاهري, وحينئذٍ تكون الرواية هي من طائفة روايات النجاسة, وطرف معارضته.

قال السيد الخوانساري (رحمة الله): (ويمكن أنْ يقال: ليست هذه الصحيحة متعرّضة لترجيح أحد الخبرين على الآخر، بل لترجيح أحد القولين بعد الفراغ عن أنَّهما مقولا الإمامين، ولا ينافي هذا حجيتّهما فهذا نظير أنْ يقال: كان طريقة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كذا وطريقة أمير المؤمنين (علیه السلام)

كذا، أي الطريقين أتبع؟ فيقال اتبع طريقة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم))(2).

ص: 109


1- ورواية خيران أوضح في النظر إلى الحكم الواقعي وفي أنَّها ليست من الأخبار العلاجية؛ لأنَّ الإمام (علیه السلام) فيها صار في مقام بيان الحكم الواقعي معللاً ذلك بأنَّه رجس، ومعه فعدم الحكومة في المقام أوضح.
2- جامع المدارك: 1/ 203. ويمكن أنْ يقال أيضاً: إنّ ما رواه زرارة من عدم البأس هو روايتان مستقلتان؛ لأنَّ زرارة لم يروِ ذلك عنهما معاً في مجلس واحد، بل عن كلٍّ مستقلاً وبالتالي قوله (علیه السلام): (خذ بقول أبي عبد الله) لا قرينة على أنّه قوله (علیه السلام) منفرداً الذي رواه غير زرارة، بل يكون مجملاً بين النقلين عن أبي عبد الله (علیه السلام)، وليفهم السائل الأخذ بقول أبي عبد الله (علیه السلام) خاصة، فإنَّ الحكم حتى لو كان هو الطهارة لكن الاجتناب فيه تنزيه واحتياط، وليكن إجمال الجواب منه (علیه السلام) لمصلحة ما - من دون تفريط بالحكم الشرعي الواقعي - كالتنفير من الخمر وعدم الاقتراب منها بأي شكل. وقال المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان: 1/ 310: (وليس في الأخبار ما يصلح حجة إلّا المكاتبة ودلالتها غير صريحة؛ لأنَّ قول أبي عبد الله (علیه السلام) كان مع قول أبي جعفر (علیه السلام) أيضاً. نعم، انفراده (علیه السلام) يشعر بأنّه قوله فقط لكن ليس بصريح، ففيها إجمال ما ولا تصلح للاحتجاج في مثل هذه المسألة بانفرادها لما ستقف عليه وإنْ صلحت للاحتجاج للظهور في الجملة لكنها مكاتبة، والمشافهة خير منها. وأمّا دليل طهارته فالأصل، والاستصحاب، ودليل كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنّه نجس.. والأخبار الكثيرة..).

3- لو سُلّم أنَّ الرواية ناظرة إلى كلتا الطائفتين وتريد ترجيح قول أبي عبد الله (علیه السلام) منفرداً - أي طائفة أخبار النجاسة - فإنَّه يمكن أنْ يقال إنَّها لا تدل على النجاسة، فهذا أول الكلام فلعَلّ المقصود هو التنّزه بقرينة الطائفة الأولى المروية عنهما المجوّزة للصلاة: (لا بأس أنْ تصلي فيه إنّما حرّم شربها).

وبعبارة أخرى: لو سُلّم أنَّ المراد ترجيح قوله (علیه السلام) منفرداً الظاهر في النجاسة فإنَّه لا ينافي ولا يمنع من الأخذ بما روي عنهما (علیهما السلام) ؛ لأنَّ قوله (علیه السلام): (خُذْ بقول أبي عبد الله) لا مفهوم له(1).

وعلى أي حال المعتبرة ليست واضحة في لزوم تقديم أو ترجيح ما دلّ على النجاسة ولو لبعض الملاحظات المتقدمة.

الوجه الثاني

الجمع العرفي من خلال حمل روايات النجاسة على رجحان التنّزه واستحباب الغسل أو كراهة الاستعمال بدونه(2)؛ إذْ إنَّ ما يستدل به على النجاسة ظاهرٌ في ذلك فيُحمل على التنّزه بصراحة الأخرى في الطهارة، ككلّ مورد اجتمع فيه الصريح والظاهر، فمع اجتماع الصريح والظاهر يؤّول العرف الظاهر بقرينة الصريح، فلاحظ

ص: 110


1- ويمكن أنْ يكون الأمر بإعادة الصلاة من ناحية كونه مانعاً من الصحة ولا يتعيّن حمله على النجاسة.
2- لا يخفى أنّ هذا الوجه إنَّما تصل النوبة إليه بناءً على بطلان وعدم تمامية الوجه الأول. هكذا تقتضي الصناعة.

أخبار الطهارة كمعتبرة بكير، ورواية أو معتبرة علي بن رئاب، ومعتبرة الحسن بن أبي سارة، ومعتبرة الحنّاط(1).

وعليه فتحمل أخبار النجاسة والأوامر الواردة في غسل ما يصيبه الخمر على التنّزه واستحباب الاجتناب والتحرز، فهو أمر وضعيّ إرشادي لذلك(2)، أو على الكراهة والحزازة الشرعية - أي فيه مبغوضية - وأنَّ الإمام (علیه السلام) بصدد بيان حكم شرعي مولوي تكليفي وليس بصدد الإرشاد إلى النجاسة.

قال صاحب المدارك (رحمة الله): (وأجاب الأولون عن هذه الأخبار بالحمل على التقيّة جمعاً بينها وبين ما تضمن الأمر بغسل الثوب منه وهو مشكل؛ لأنَّ أكثر العامّة قائلون بالنجاسة). ثم قال (رحمة الله): (نعم، يمكن الجمع بينهما بحمل ما تضمّن الأمر بالغسل على الاستحباب؛ لأنَّ استعمال الأمر في الندب مجاز شائع)(3).

وقال الآخوند (رحمة الله): (.. إلّا أنَّه لا مجال له - أي الحمل على التقيّة - بعد إمكان التوفيق عرفاً لحمل الأمر بالغسل فيها على الاستحباب لمرتبة من قذارته كما يشهد به خبر علي بن رئاب.. أو لأجل خبثه وأنَّه لا يليق أنْ يُصلّى معه، بل لا يليق أنْ يُصلّى في بيت كان فيه، كما يشهد به موثق عمار.. وذلك لوضوح أنَّ حمل الظاهر على النصّ لا محيص عنه عرفاً، وقد عرفت أنَّ الرجوع إلى الترجيح.. إنَّما يكون في ما لا يمكن الجمع عرفاً لاسيّما إذا كان هناك شاهد. اللّهم إلّا أنْ يقال: عمل المشهور مع وضوح هذا

ص: 111


1- ولا صراحة أو نصّ في أخبار النجاسة حتى في مثل: (ما يبل الميل ينجس حباً من ماء) فإنَّه يمكن حمله على النجاسة التنزيهية الاستحبابية بخلاف أخبار الطهارة، ولو قبلنا صراحتها فهي ضعيفة سنداً.
2- فلاحظ رواية أو معتبرة علي بن رئاب (صلِّ فيه إلّا أنْ تقذره فتغسل منه موضع الأثر) وفي رواية الحسين بن أبي سارة (لا بأس به إلّا أنْ تشتهي أنْ تغسله لأثره).
3- المدارك: 2/292.

الجمع والاتفاق على تقدّمه على الترجيح على المرجّحات السنديّة فضلاً عن الجهتيّة يكشف عن إعراضهم عن هذه الأخبار، وإنَّما حملها الشيخ على التقيّة تبرعاً بعد كونها محكومة بالطرح قاعدة. ولذا قال الشهيد في الذكرى: إنَّ القائل بالطهارة تمسك بأخبار لا تعارض القطعي، فتأمّل. وكيف كان فالعمل على المشهور ولو لأجل الاحتياط)(1).

وكيفما كان فالتعارض غير مستقّر، حيث يمكن الجمع العرفي الذي مقتضاه (تقديم روايات الطهارة على أخبار النجاسة لصراحتها في طهارة الخمر ونفي البأس عن الصلاة في ثوب أصابته خمر بحمل أخبار النجاسة على الاستحباب؛ لكونها ظاهرة في نجاستها كما في أمره (علیه السلام) بغسل الثوب الذي أصابته خمر أو إهراق المائع الذي قطرت فيه قطرة، فنرفع اليد عن ظهورها في الإرشاد إلى نجاسة الخمر بصراحة أخبار الطهارة في طهارتها فتحمل على الاستحباب لا محالة فلا مناصّ من الحكم بطهارة الخمر)(2).

وهذا الجمع العرفي يحافظ على وجود روايات النجاسة، غاية الأمر يصرفها عن ظهورها، ولا مانع منه بعد وجود القرينة على ذلك، وأمَّا إذا قدّمنا روايات النجاسة فهذا يستلزم إلغاء وطرح كل روايات الطهارة.

وقد تسأل: ما هو الميزان والضابط العامّ لموارد الجمع العرفي؟

والجواب: الضابط هو أنْ يُجعل الكلامان متصلاً أحدهما بالآخر فإنَّ لم يُرَّ تنافياً بينهما بل كان أحدهما مفسِّراً للآخر أو مقدماً على الآخر فعندئذ يتم الجمع العرفي كما في (أكرم

ص: 112


1- اللمعات النيّرة: 220. وقال السيد الحكيم (رحمة الله) في المستمسك: 1/401: (والجمع العرفي يقتضي حمل الأولى على الاستحباب، ولو فرض تعذره فالترجيح مع نصوص الطهارة لمخالفتها للمشهور بين العامة..). وقال المحقّق الاردبيلي (رحمة الله) في زبدة البيان: 42: (والجمع بحمل ما يدل على وجوب الغسل على الاستحباب أولى من حمل ما يدل على عدمه على التقيّة).
2- التنقيح: 3/85.

كل فقير) و(لا تكرم الفقير الفاسق) إذا جمعا وجعلا في كلام واحد، فإنّه لا تنافي بينهما ولا يتحيّر العرف، بل يمكن الجمع العرفي بينهما بالتخصيص فيلزم إعمال التخصيص.

ونوقش هذا الوجه كبروياً وصغروياً.

أمّا كبروياً فمن خلال منع هكذا جمع بين الأخبار لا في مقامنا فحسب، بل في غيره أيضاً باعتبار أنَّه لا دليل عليه من كتاب أو سُنّة، وعليه فلا يجمع عرفاً بحمل الظاهر على النصّ أو الأظهر، بل يلزم إعمال المرجّحات حتى في موارد إمكان الجمع العرفي.

قال صاحب الحدائق (رحمة الله) في المقام: (..إنَّه وإنْ اشتهر ذلك بينهم في جميع أبواب الفقه إلّا أنَّه لا مستند له من سُنّة ولا كتاب، وقد استفاضت الأخبار عنهم (علیهم السلام) بوجوه الجمع بين الأخبار والترجيح في مقام اختلاف الأخبار.. يظهر بطلان حمل أخبار النجاسة على الاستحباب ويتعيّن العمل بها في هذا الباب فتبقى أخبار القول بالطهارة ويتعيّن حملها على التقيّة التي هي في اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية)(1).

وقال (رحمة الله) في باب مسألة نجاسة الكافر: (.. فعدولهم عمّا مهّده أئمّتهم إلى ما أحدثوه بعقولهم واتخذوه قاعدة كلية في جميع أبواب الفقه بآرائهم من غير دليل عليه من سُنّة ولا كتاب جرأة واضحة لذوي الألباب..)(2).

ص: 113


1- الحدائق: 5/107 و110، وقال (رحمة الله) في: 6/142 - بعد ذكره لأخبار متعارضة في مبحث وقت نافلة الظهر والعصر -: (والأظهر عندي أنَّ منشأ هذا الاختلاف في الأخبار إنَّما هو التقيّة التي هي أصل كل محنة في الدين وبلية). ولاحظ الوجه الرابع الآتي وهو حمل الأخبار على التقيّة.
2- الحدائق: 5/173 وهكذا لاحظ كلامه في الحدائق: 16/ 236: ( قدّمنا في غير موضع أنَّه وإن اشتهر هذا الجمع بين الأصحاب إلّا أنَّه لا دليل عليه من سُنّة ولا كتاب. وفي بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/309: (أنَّ صناعة الجمع العرفي وكونه متقدماً على سائر أنحاء التصرفات الأخرى - بما فيها الحمل على التقيّة - ليست بدرجة من الوضوح في فقه جملةٍ من فقهائنا المتقدمين على النحو الذي لا يصح مع افتراض تطبيقهم للصناعة على وجه آخر وفي كلماتهم شواهد عديدة على ذلك..).

إذاً صاحب الحدائق (رحمة الله) لا يؤمن بقاعدة الجمع العرفي المتقدّمة التي ما أنزل الله بها من سلطان لا في كتاب ولا سُنّة، وإنَّما يلزم إعمال المرجّحات حتى في موارد إمكان الجمع العرفي والتعارض غير المستقر.

ويلاحظ عليه: أولاً: إنّا أساساً لا نحتاج إلى دليل من كتاب أو سُنّة في جمع مثل هذا بعد فرض عرفية المتكلم والخطاب؛ إذْ إنَّ المتكلم عرفي - وهو الإمام (علیه السلام) - وحينما يتكلّم فهو يتكلّم بما هو إنسان عرفي ولا يتجاوز الحدود العرفية، والمخاطب أيضاً عرفي فلابدَّ وأنْ يكون مقصود المتكلّم ما يفهمه العرف وما يراه العرف وما يطبّقه العرف، وما دام العرف يرى الجمع بالحمل على الاستحباب فيثبت أنَّ هذا هو المقصود كما في كل مورد يشتمل على قرينة، فإنَّ القرينة تقدّم على ذي القرينة عرفاً ويُفَسَر الكلام الأول على أساس الكلام الثاني المشتمل على القرينة.

وبالجملة: بعد فرض عرفية المتكلم والخطاب لا نحتاج إلى دليل على الجمع المذكور(1).

وثانياً: إنَّ إعمال المرجّحات - سواء المرجّح الصدوري أو الجهتي أو المضموني(2) -

ص: 114


1- التعارض غير المستقر هو ما يجمع العرف بينهما لو عرضا عليه، كما هو الحال في العامّ والخاصّ فالعرف يرى الخاصّ قرينة مفسرة للمراد من العام ولئنْ كان بينهما تعارض فهو غير مستقر. والمقصود من قاعدة الجمع العرفي هو أنّ كل ظهور حجّة ويؤخذ به ما لم يصدر من المتكلم ظهور ثانٍ أعدّه مفسراً للظهور الأول، وإلّا أخذ العقلاء بالظهور الثاني - ويسمى بالقرينة - دون الظهور الأول - ذي القمرينة -.
2- المرجّح الصدوري هو ما يوجب قوة الظن بصدور الخبر كالأوثقية والشهرة في الرواية وقلة الوسائط، وأمّا المرجح الجهتي فهو ما يوجب الظن بصدور الكلام لبيان الحكم الواقعي والمراد الجدي في مقابل صدوره لغرض آخر من تقيّة أو نحوها كمخالفة العامة على بعض الوجوه، وأما المرجّح المضموني فهو ما يوجب قوة الظن بتحقّق مضمون الخبر ممّا هو خارج عنه سواء كان معتبراً في نفسه كعموم الكتاب، أم فيه كلام كالشهرة في الفتوى.

إنَّما يكون في موارد عدم إمكان الجمع العرفي وكون التعارض مستقراً ومستحكماً، فإنَّ إجراء المرجّحات هو فرع التعارض المستقر، ولا يجري في موارد الجمع العرفي، وقد بيِّن ذلك في محلّه.

فاتضح إلى هنا أنَّ ما في الحدائق - من إنكار الجمع بين الأمر أو النهي مع الرخصة بالحمل على الاستحباب، أو الكراهة بدعوى خلو أخبار العلاج منه - مدفوع حلّاً بما تقدم في أوّلاً وثانياً.

وثالثاً: أنًّ صاحب الحدائق (رحمة الله) لعلّه ينكر الجمع المذكور، ولا ينكر كل أنحاء الجمع العرفي وإلّا يُنقض عليه بما حكي عنه من أنَّه (رحمة الله) جرى على مقتضى الجمع العرفي بوجوهه المختلفة كحمل العامّ على الخاصّ، والمطلق على المقيّد وغيرهما، بل قد جرى في كثير من الموارد على استفادة الكراهة والاستحباب من الجمع بين النصوص ككراهة الأكل أو الشرب والخضاب للجنب، واستحباب المضمضة والاستنشاق قبل الغسل، والاغتسال بصاع وغيرها، فكأنَّ مراده ممّا تقدّم ما إذا لم يمكن الجمع بما تقدّم عرفياً لخصوصيّة في المورد(1).

ص: 115


1- يمكن أن يقال، بل قيل: بأنَّ تقدّم فكرة إعمال الجمع العرفي على إعمال المرجحات لم تكن واضحة كوضوحها اليوم. (لاحظ بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/ 309). وجاء في المحكم في أصول الفقه: 6/256 (.. وإلّا فتحكيم نصوص العلاج في موارد الجمع العرفي قاضٍ بإلغائه رأساً وعدم كون قوة الدلالة مرجحاً لو بني على الاقتصار على المرجحات المنصوصة، وإنْ بني على التعدي عنها فلا وجه لتأخره عن بقية المرجحات، بل يكون في عرضها أو مقدماً عليها لتقدمه طبعاً بنظر العرف، فلاحظ).

وكيفما كان: فالرأي المعروف في الأصول، والسيرة الجارية في الفقه هي متابعة الجمع العرفي وخروج المورد به عن التعارض المستقر موضوعاً وحكماً.

وأمّا ما ذكره (رحمة الله) من الحمل على التقيّة فهو غير تام لعدة أمور ستأتي إن شاء الله تعالى في الوجه الرابع.

وأما المناقشة الصغروية فهي: أنَّ المقام ليس من موارد وصغريات الجمع العرفي فإنَّ بعض أخبار النجاسة تأبى الحمل على التنّزه والاستحباب؛ وذلك لأمور متعدّدة:

الأمر الأوَّل: إنَّ ضابطة إجراء الجمع الدلالي المقبول (الجمع العرفي بحمل الظاهر من المتقابلين على نصّهما إنَّما هو ما إذا كان المتعارضان على نحو إذا ألقيناهما على أهل العرف لم يميّزوا بينهما بل رأوا أحدهما قرينة على التصرف في الآخر، وليس الأمر كذلك في المقام، لأنَّ أمره (علیه السلام) بالإراقة والإهراق إذا انضمّ إليه نفيه (علیه السلام) البأس عن الصلاة في ثوب أصابته خمر وألقيا على أهل العرف لتحيّروا بينهما لا محالة ولا يرون أحدهما قرينة على التصرف في الآخر بوجه، فأيضاً لابدَّ من الحكم بطهارة الخمر لأنَّ الطائفتين متعارضتان ولا مرجح لإحداهما على الأخرى، ومقتضى القاعدة هو التساقط والرجوع إلى قاعدة الطهارة... ولكن هذا كله بمقتضى الصناعة العلمية مع قطع النظر عن صحيحة علي بن مهزيار...)(1).

ص: 116


1- التنقيح: 3/85-86 (ط. جديدة). وذكر (رحمة الله) كلامه هذا بعد أنْ قال: بأنَّه لا يمكننا علاج المعارضة بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة؛ لأنّ الكتاب لا يدل على النجاسة أو الطهارة، وأمّا مخالفة العامّة فلأنَّ كُلّا ً من الطائفتين موافقة للعامّة من جهة، ومخالفة لهم من جهة أخرى، فإنَّ العامّة على ما نسب إليهم - وهو الصحيح - ملتزمون بنجاستها، وعليه فروايات الطهارة متقدمة لمخالفتها مع العامّة، إلّا أنَّ ربيعة الرأي - الذي هو من أحد حكامهم وقضاتهم المعاصرين لأبي عبد الله (علیه السلام) - ممَّن يرى طهارتها... وعلى الجملة: إنَّ أخبار النجاسة مخالفة للعامّة من حيث عملهم، كما أن أخبار الطهارة مخالفة لهم من حيث حكمهم.

والحاصل: إنَّ العرف لا يرى المقام - وهو نصوص الطهارة - قرينة على هذا التصرف.

أقول: إنَّ ما ذكره (رحمة الله): كبروياً هو شيء مسلّم وبديهي فالعرف إذا كان يرى التنافي أو يتحيّر فلا جمع عرفي, وإنّما يكون الجمع وجيهاً فيما لو فرض أنّ الكلامين المنفصلين جُمعا بحيث لو وضع أحدهما إلى جنب الآخر لم يرَ العرف تنافياً بينهما، فإنّه آنذاك يصلح الجمع العرفي - وإلّا كان التعارض مستقراً - كما لو ورد (صلِّ صلاة الليل) وورد (لا بأس بترك صلاة الليل) فإنَّهما إذا جمعا في كلام واحد وقيل (صلِّ صلاة الليل ولا بأس بتركها) لم يرَ العرف تنافياً بينهما, فيحمل الأولى الظاهرة في الوجوب على الاستحباب بقرينة الثانية الصريحة في جواز الترك، وكما في (زكِّ) و (لا بأس بتركه)(1)، بخلاف ما لو كان الوارد (صلِّ صلاة الليل) و(لا تصلِّ صلاة الليل)(2).

ص: 117


1- فإذاً, يشترط في الجمع العرفي الدلالي المقبول أنْ يفرض الدليلان المنفصلان متصلين ومجتمعين في كلام واحد, فإنْ كان في نظر العرف بمثابة القرينة وذيّها فكان أحدهما مانعاً من انعقاد الظهور الحجّة في الآخر بأنْ كان شارحاً للمراد منه لم تكن معارضة, وأمّا إذا عدّا في نظر العرف متباينين وكان الصدر والذيل متهافتين فتستقر المعارضة ولا يمكن الجمع الدلالي فيصل الأمر إلى إعمال المرجّحات.
2- فهنا لو جُمعا وفرضناهما متصلين كان ذلك في نظر العرف من قبيل المتنافيين والمتناقضين والمتدافعين والمتباينين، وكذلك الحال بين (فيه زكاة) و(ليس فيه زكاة)، وبين (عفا عن الزكاة) و (أنه فيه زكاة) فالصدر ينافي ويضادّ الذيل بحسب الفهم العرفي, ولا يجمع بالحمل على الاستحباب فالتنافي والتدافع بين اللسانين موجود في نظر العرف بحيث لا قرينية لأحدهما على الآخر فلا جمع عرفي فلا يقال (فيه زكاة وليس فيه زكاة)، وبين (يجوز) و(لا يجوز) فالأوَّل صريح في الجواز والثاني صريح في عدم الجواز, فهما صريحان في الحكمين المتناقضين، وبين (إنَّ أكل الغراب ليس بحرام..) و(لا يحلّ أكل شيء من الغربان زاغٍ ولا غيره) فالتعارض بين (ليس بحرام) و (لا يحلّ) هو تعارض مستقر، وبين (إذا أنكحها - أي الأب - جاز نكاحه وإنْ كانت كارهة) و(يكون ذلك برضاها فإنَّ لها في نفسها نصيباً) فالأوَّل نصّ في استقلال الأب والثاني نص في التشريك. نعم, إنْ قلنا هو ظاهر فيه فنرفع اليد عنه لصراحة الأوَّل. كما أنَّه ينبغي ملاحظة الصياغة اللفظية فإنَّ لها مدخلية، وأيضاً ملاحظة الضمائم - ولو من الروايات الأخرى - فإنّ لها أثراً في الظهور، وأيضاً ملاحظة المساحة التي يدور عنها الكلام فهل هي واحدة، وأيضاً كون كلاهما بالمنطوق أم لا. فيمكن أنْ يقال: إنَّ فقرتي (لا بأس) و(فيه بأس) ليستا من قبيل المتناقضين عرفاً؛ إذْ إنَّ (لا بأس) صريحة في الجواز وأمّا (فيه بأس) فهي ظاهرة في عدم الجواز إذ يوجد احتمال الكراهة من كلمة (بأس). ولو سلّم التناقض فقد يرتفع بملاحظة الضمائم فلو ورد (لا بأس بتقديم الطواف) وورد (في تقديم الطواف بأس) من دون ضمائم, ولكن ورد في روايات أخرى إضافة إلى التعبير الأوَّل (سيّان قدّمت أو أخرّت), فهذا التعبير بضمّه إلى (لا بأس) يعطي أظهريّة قويّة في الجواز فيؤول الظاهر (فيه بأس) لحساب الأقوى ظهوراً.

وأما صغروياً فإنَّه يمكن أنْ يقال: إنَّ العرف لا يتحيّر بعد التنبيه وملاحظة القرائن في النصوص، ولا يشترط الالتفات المباشر من العرف في صحّة الجمع العرفي، فإنَّ التدقيق في فهم الأدلة تطوّر تدريجياً إلى أنْ وصل إلى ما نحن عليه اليوم فلا يجب في الجمع العرفي أنْ يفهمه كلّ أحد، لأنَّه بملاحظة ألسنة الروايات والقرائن فيها لا يمتنع الجمع العرفي فيها ولا يحصل التحيّر، ففي معتبرة بكير (لا بأس, إنَّما حرَّم الله أكله وشربه), وفي معتبرة الحسن بن أبي سارة (لا بأس, إنَّ الثوب لا يسكر)، وفي معتبرة ابن مهزيار (لا بأس أنْ يصلّي فيه إنّما حرّم شربها)، وفي معتبرة إسماعيل بن جابر (تتركه تتنزّه عنه)(1)، وفي رواية أو معتبرة ابن رئاب (صلِّ فيه إلّا أنْ تقذّره فتغسل منه موضع الأثر؛ إنَّ الله تعالى إنَّما حرَّم شربها)، وفي رواية الحسين بن أبي سارة (لا بأس إلّا أنْ تشتهي أنْ تغسله لأثره).

والأمر لا ينحصر برواية واحدة حتى يقال إنَّه شاهد ضعيف سنداً, بل الشواهد

ص: 118


1- وفي المستدرك: 2/584 ذكر رواية إسماعيل بن جابر من كتاب درست (.. لا تدعه تحريماً له ولكن دعه تنزهاً له وتنجساً له؛ إنّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير).

متعدّدة وفيها المعتبر فراجع، وإنْ تنزّلنا فإنَّ التعدّد بنفسه يورث الاطمئنان بصدور هذا المضمون عن المعصوم (علیه السلام)، وأنّه يمكن التوفيق عرفاً لصالح أخبار الطهارة لوضوح دلالتها وبعد التأويل فيها فيُحمل الأمر بالغسل ونحوه في أخبار النجاسة على الاستحباب - أو كراهة الاستعمال - لأجل مرتبة من القذارة كما يشهد لذلك بعض الأخبار المتقدّمة, أو لأجل الخبث وعدم لياقة الصلاة معه، بل لا يليق أنْ يصلّي في بيت كان فيه كما يشهد به موثّق عمّار، فإذا أمكن الجمع عرفاً فيلزم الأخذ به ويحمل الظاهر على النص, ولا تصل النوبة إلى باب المرجّحات(1).

الأمر الثاني: إنَّ (نفس استفاضة أحد المضمونين ووروده بكثرة قد لا يساعد عرفاً على حمل كل ذلك على مجرد التنزّه والاستحباب)(2)، وهنا السيد الشهيد (رحمة الله) بعد أنْ ذكر نفس إشكال السيد الخوئي (رحمة الله) أضاف هذه العبارة والاستبعاد.

ولكن يمكن أنْ يلاحَظ عليه أنّه لا استبعاد من حمل كثرة روايات النجاسة على التنزّه من الخمر وإراقتها واستحباب غسل ما أصابها فهذا موجود في الشريعة المقدسة في موارد أخرى ففي الوسائل - الجزء الثالث, باب استحباب غسل الجمعة - ذكر الحرّ رحمه الله 22 حديثاً, وهذا كلّه مع عدم ملاحظة ما أشار إليه في موارد وأماكن أخرى.

ص: 119


1- وفي مصباح المنهاج: 8/393 (قد يدعى أن مقتضى الجمع العرفي حمل نصوص النجاسة على استحباب الغسل المطهر أو كراهة الاستعمال لكنه لا يناسب بعض نصوص الطائفة الأولى كحديث يونس المقتضي غسل الثوب كله عند الجهل بموضع الملاقاة وإعادة الصلاة إذا وقعت معه وصحيح عبد الله بن سنان وخبر أبي بصير المتضمنين التعبير بالنجس ومعتبر ابن حنظلة الظاهر في شدة أمر الخمر، ولا بعض نصوص الطائفة الثانية كقوله (علیه السلام) في صحيح علي بن رئاب إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر لظهوره في أن الغسل لاستقذار المكلف لاستقذار الشارع له ولو بمرتبة يقتضي كراهة الاستعمال) ولكن يمكن المناقشة من خلال ملاحظة الروايات المشار إليها.
2- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/440.

مضافاً إلى أنّه يمكن أنْ يقال: إنَّ الخمر شدّدت الشريعة الإسلامية في أمره وما يتعلّق به كما هو واضح لمن لاحظ الكتاب والسُّنة, وحينئذٍ لا مانع يمنع العرف بعد ملاحظة ذلك من الحمل على التنزّه(1).

الأمر الثالث: إنَّ الجمع العرفي بالحمل على التنزّه في المقام إنمّا يتم في الأحكام المولوية التكليفية كما لو قيل (اغتسل للجمعة) و(لا بأس بترك غسل الجمعة) فإنَّ حمل الأوَّل على الاستحباب وجيه.

وأمّا في الأحكام الإرشادية كما في مقامنا فلا يتمّ، فإنَّ أخبار النجاسة ترشد إلى النجاسة, ولا يمكن حملها على التنزّه, إذ لا معنى لاستحباب النجاسة. فإذاً الحمل على الاستحباب أو الكراهة وجيه في الأحكام المولوية دون الأحكام الإرشادية؛ فإنها لا تقبل ذلك, وقد أشار السيد الخوئي (رحمة الله) لذلك بقوله: (إنَّ رفع اليد عن ظهور أحد

ص: 120


1- وعن السيد الحكيم في المستمسك 1/ 403: إنّ ما يوهن الجمع العرفي هو رجوع ابن مهزيار إلى الإمام فهو يبيّن عجزه عن الجمع العرفي, فالتعارض بين روايتي الطهارة والنجاسة مستحكم. ولكن يمكن أنْ يقال - مضافاً إلى ما تقدّم في جواب الأمر الأوّل من أنّه لا يقدح في قبول الجمع العرفي عدم الالتفات المباشر إليه - أنّ فهم الأدلة نما تدريجياً, أمَّا في عصرهم (علیهم السلام) فكانوا يعملون بالتطبيق المباشر للروايات، وأنّ رجوع الراوي إلى الإمام (علیه السلام) لا يعني بالضرورة عجزه عن الجمع العرفي بل لعله لمعرفة الوجه في صدور الروايتين. وقال السيد الخميني (رحمة الله) في كتاب الطهارة 3/188: (.. ولو حاول أحد الجمع بينهما بحمل الطائفة الأولى على الاستحباب أو حمل الرجس والنجس على غير ما هو المعهود لساغ له الجمع بين جميع الروايات المتعارضة, فإنَّه ما من مورد إلّا ويمكن حمل الروايات على ما يخرجها عن التعارض فبقيت أخبار العلاج بلا مورد..). ولكن يمكن أنْ يقال: إنَّ هذا اللازم ليس بلازم, فإنَّ الجمع لا يكون كيفما اتفق ولو تبرّعاً وبلا شاهد حتى يلزم اللازم الذي ذكره (رحمة الله)، ومَن يختار الجمع العرفي في المقام له شواهده وقرائنه.

الدليلين المتعارضين بصراحة الآخر إنَّما هو في الدليلين المتكفّلين للتكليف المولوي, كما إذا دلّ أحدهما على وجوب الدعاء حيث كذا, ودلّ الآخر على النهي عن الدعاء في ذلك الوقت فبصراحة كل منهما يُرفع اليد عن ظاهر الآخر، وأما في الدليلين الإرشادين فلا وجه لهذا الجمع بوجه, حيث إنَّهما متعارضان لإرشاد أحدهما إلى فساد الصلاة عند نسيان النجاسة ولإرشاد الآخر إلى صحتها، فحالهما حال الجملتين الخبريتين إذا أخبرت إحداهما عن فساد شيء والأخرى عن صحّته, فالإنصاف أنَّهما متعارضان..)(1).

وبالجملة: حال الدليلين الإرشاديين حال الجملتين الخبريتين ك-(الصلاة في النجس فاسدة) و(الصلاة في النجس صحيحة) فلا معنى لحمل الأولى على الكراهة أو الاستحباب؛ إذ لا معنى لقولك (يستحب الفساد) أو (تكره الصحة), فكذلك الحال في الدليلين الإرشاديين فهما بمثابة الجملتين الخبريتين، والحاصل أنَّ بعض الفقهاء يبني على عدم قبول الأحكام الإرشادية للحمل على التنزّه.

ويلاحظ عليه: أنَّه من الوجيه أنْ تكون النجاسة - التي هي مجرد اعتبار شرعي - ذات مراتب مشككة يقتضي بعضها لزوم الاجتناب بخلاف بعضها الآخر، فمن الوجيه تعدد مراتب الفساد شرعاً لمعقولية مثل ذلك في الأمر الاعتباري, واستحباب الإعادة في بعضها.

وأمَّا استهجان مثل (يستحب الفساد) ليس إلّا استهجاناً على مستوى الألفاظ, وإلّا فلو أبدلنا الفساد ب-(الإعادة) ارتفع ذلك، وأمَّا القياس على الجملتين الخبريتين فليس في محله؛ إذ لا طلب فيهما ليقبل الحمل على ذلك, بخلافه في الأوامر والنواهي الإرشادية

ص: 121


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 3/343 ط. جديدة، وأيضاً لاحظ: 18/60.

فإنَّ فيهما ذلك(1).

فيمكن القول: إنَّ الحكم الوضعي إذا كان له مراتب ووجد دليل معارض فلا مانع من ذلك.

نعم، إذا وجد ظهور واحد ولا معارض له فعند ذلك نحمله على البطلان ما دام لا يوجد له معارض، فإذاً عند التعارض تأتي فكرة المراتب.

إن قيل: إنَّ النكتة المصحّحة للحمل على ذلك في التكليفية مفقودة في الأحكام الإرشادية، فإنَّ الوجه في حمل الأمر التكليفي على الاستحباب بعد مجيء الرخصة أحد أمور:

أمَّا على مسلك حكم العقل في استفادة الوجوب والتحريم فهو: إنَّ الأمر يدلّ على الطلب الجامع فقط، فإذا جاء الترخيص حكمَ العقل بالاستحباب وذلك هو مقتضى الجمع بين الدلالة على الطلب الجامع وبين الترخيص في المخالفة، وهذه نكتة مختصّة بحالة وجود دلالة على الطلب الجامع, وفي باب الأحكام الإرشادية لا طلب رأساً.

ص: 122


1- الفقه الاستدلالي: 1/ص46، 201 - بتصرف - إنَّ العرف يفهم المراتب المشككة في الأحكام الإرشادية الوضعية عندما يقال: إنَّ البول يحتاج إلى غسل عدد كذا, وإذا لم تكن النجاسة بولاً فيحتاج إلى الغسل بعدد كذا أو يكفي كذا.

وأمَّا على مسلك الإطلاق ومقدمات الحكمة فهو: إنَّه يدّعى أنَّ الأمر يدلّ في نفسه وضعاً على الطلب الجامع, إلاّ أنَّ إطلاقه يقتضي كون الطلب وجوبياً، فإنَّ الوجوب - مثلاً- طلبٌ محضٌ فلا يحتاج في بيانه إلى دالّ آخر غير ما يدلّ على أصل الطلب، بخلاف الاستحباب فإنَّه طلب مشوب بغيره فيحتاج إلى دالّ آخر يدلّ على ذلك الغير، ومع وجود الدالّ على التقييد المنضمّ إلى الدالّ على أصل الطلب تثبت إرادة الاستحباب. وهذه النكتة خاصّة بالأحكام المولوية لنفس ما سبق.

وأمَّا على مسلك الوضع فهو: دعوى أنَّ ظاهر الأمر الطلبُ الوجوبي بسبب الوضع له إلاّ مع قيام القرينة على الخلاف, فيثبت ظهور ثانويّ في إرادة الطلب الاستحبابي. وهذه النكتة خاصة بالأحكام المولوية أيضاً لنفس ما سبق(1).

قلت: يرد عليه أنَّ في المقصود احتمالين:

أحدهما: أنَّ الاستحباب طلب غايته بدرجة ضعيفة، وحيث إنَّ الأحكام الوضعية لا طلب فيها - وإلاّ كانت تكليفيّة ولم يبقَ فارقٌ بينهما - فلا يمكن حملها على الاستحباب.

وجوابه: أنَّ الأحكام الوضعية إرشاد إلى المرتبة الضعيفة من الفساد أو الشرطية أو.. التي لازمها الطلب الضعيف, فهي لا تحمل على الاستحباب مباشرة ليقال هي لا تشتمل على الطلب فكيف تحمل عليه؟!.

والآخر: قصور الدالّ على الاستحباب إثباتاً، فإنَّ حمل الأوامر التكليفية على الاستحباب ممكن؛ لأنَّها تدلّ على الطلب الذي إذا انضمّ إلى الترخيص تحقق الدالّ على الاستحباب، وهذا بخلافه في الأحكام الوضعية؛ فإنَّه لا طلب فيها لينضمّ إلى الترخيص ويثبت الدالّ على الاستحباب.

وجوابه: إنَّا لا نحتاج إلى دالّ آخر يغاير الدالّ على تلك المرتبة الضعيفة من الفساد أو الشرطية, فإنَّ لازم تلك المرتبة الضعيفة ثبوت الطلب الاستحبابي كما في الزوجية والأربعة, فإنَّه لا حاجة لدالّ على الزوجيّة يغاير الدالّ على الأربعة(2).

الوجه الثالث

تقدّم أخبار النجاسة للمرجح العلاجيّ وهو الموافقة للكتاب, بناءً على أنَّ الرجس في الآية هو النجس لغة كما هو قول العلاّمة في المنتهى, والتذكرة,

ص: 123


1- لاحظ الفقه الاستدلالي: 1/ 202. عن اقتصادنا الملحق 4 من قسم الملاحق المذكورة في نهاية الجزء الثاني. وقال دامت بركاته: (ولعلّه روحاً يتحد مع الوجه السابق).
2- لاحظ الفقه الاستدلالي: 1/201-202 بتصرف.

وتقدّم قول الشيخ الطوسي في التهذيب من أنَّ (الرجس هو النجس بلا خلاف)(1)، وعليه بعد عدم تمام كل ما تقدّم تصل النوبة إلى باب المرجّحات والأخبار العلاجية بين المتعارضين.

ويلاحظ عليه:

أ- أنَّ إعمال المرجّحات هو فرع التعارض المستقر، فإذا أمكن الجمع عرفاً فلا تصل النوبة إلى المرجّحات، وأما بناءً على عدم إمكانه فيتم إعمال المرجّحات.

ب- - وهو المهمّ - إنَّ الرجس وإن فُسّر وأطلق لغةً على النجس إلاّ أنّه كما تقدّم بيانه لا يراد به النجس في محل الكلام, فإنَّه معنى شرعي حادث، بل المراد مطلق القذر وإنَّ كان معنوياً, ولذا يوصف به الأفعال والصفات والعذاب ونحوها كما تقدّم في ذكر الآيات القرآنية كقوله تعالى: [وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ](2)، وقوله سبحانه: [كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ](3)، ومما يناسبه في المقام عطف الميسر والأنصاب على الخمر في الآية، وهذه لا معنى لأنْ تكون نجسة، وأيضاً قوله: [مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ], فهو يتناسب مع القبيح دون النجاسة الخبثية الشرعية.

إن قيل: يحمل الرجس في الآية على النجس ولا ينافي ذلك وقوعه خبراً عن الأنصاب والأزلام؛ لإمكان أن يراد به بالنسبة إليهما المستقذر من باب عموم المجاز، على أنَّه يمكن بل هو الظاهر دعوى كونه خبراً عن الخمر خاصّة فيُقَدَّر حينئذ لهما خبر، ولا تجب مطابقة المحذوف والموجود وإنْ كان دالاً عليه، كما في عطف المندوب على

ص: 124


1- منتهى المطلب: 3/213، تذكرة الفقهاء: 1/64، التهذيب: 1/278.
2- التوبة: 125.
3- الأنعام: 125.

الواجب بصيغة واحدة، فيتعيّن حينئذ كون الرجس بمعنى النجس(1).

قلت: إنَّ هذا التقريب فيه تكلف ويحتاج إلى شاهد فهو خلاف الظاهر، بل قال الطبرسي (رحمة الله):( [رجسٌ مِن عَمَلِ الشيطان] لابد من أنَّ يكون في الكلام حذف والمعنى شرب الخمر وتناوله أو التصرف فيه، وعبادة الأصنام، والاستقسام بالأزلام، رجس أي: خبيث من عمل الشيطان)(2).

وعلى أيّ حال الاستدلال بالآية فيه إشكالات, وبالتالي لا وضوح في دلالة الآية على النجاسة حتى تصلح لترجيح النصوص(3).

الوجه الرابع

أنَّه يوجد ما يوهن ويضعّف تقديم أخبار الطهارة مع كونها حجّة، حيث إنَّ أخبار الطهارة موافقة للعامة فتحمل على التقية وبه يتمّ المطلوب، ويكون العمل بأخبار النجاسة فهي المخالفة للعامة وفيها الرشاد فتُقدّم. وممن تبنى هذا الوجه الشيخ الطوسي (رحمة الله) من المتقدمين, وصاحب الحدائق (رحمة الله) من المتأخرين بعد أنْ رفض الجمع العرفي بحمل أخبار النجاسة على الاستحباب.

قال الشيخ الطوسي (رحمة الله): (والذي يدلّ على أنَّ هذه الأخبار محمولة على التقية ما

ص: 125


1- لاحظ الجواهر: 6/4.
2- مجمع البيان: 3/410 ثم أضاف (رحمة الله) قائلاً: (وإنَّما نسبها إلى الشيطان وهي أجسام من فعل الله لما يأمر به الشيطان فيها من الفساد فيأمر بشرب المسكر ليزيل العقل، ويأمر بالقمار ليستعمل فيه الأخلاق الدنيّة، ويأمر بعبادة الأصنام لما فيها من الشرك بالله، ويأمر بالأزلام لما فيها من ضعف الرأي، والاتكال على الإنفاق، وقال الباقر (علیه السلام): يدخل في الميسر اللعب بالشطرنج، والنرد، وغير ذلك من أنواع القمار، حتى أن لعب الصبيان بالجوز من القمار..).
3- إنَّ الترجيح بالكتاب في محل الكلام يتمّ بناءً على أنَّ إطلاق الكتاب مرجّح أيضاً كعموم الكتاب, وإلاّ بناءً على أنَّ الترجيح مخصوص بما إذا كان هناك عموم للكتاب - دون الإطلاق - كما هو رأي السيد الخوئي (رحمة الله) فلا يكون الكتاب مرجّحاً حينئذ.

تقدّم ذكره من الآية, وأنَّ الله تعالى أطلق اسم الرجاسة على الخمر, ولا يجوز أنْ يرد من جهتهم (علیهم السلام) ما يُضادّ القرآن وينافيه، وأيضاً قد أوردنا من الأخبار ما يعارض هذه ولا يمكن الجمع بينهما إلاّ بأنْ نحمل هذه على التقية؛ لأنّا لو عملنا بهذه الأخبار كنا دافعين لأحكام تلك جملةً ولم نكن آخذين بها على وجه, وإذا عملنا على تلك الأخبار كنا عاملين بما يلائم ظاهر القرآن، فحملنا هذه على التقية؛ لأنَّ التقية أحد الوجوه التي يصحّ ورود الأخبار لأجلها من جهتهم, فنكون عاملين بجميعها على وجه لا تناقض فيه)(1).

هذا، ولا يخفى أنَّ الأصل الأوليّ هو صدور الرواية بداعي بيان الحكم الواقعي، ولا يرفع اليد عن ذلك إلاّ بقرينة كما إذا كانت الرواية معارضة برواية أخرى تخالف العامّة, فتحمل الموافقة على التقية، وأمَّا مع عدم المعارضة بشيء فلا موجب للحمل على التقية فإنَّه بلا مقتضٍ.

ويمكن تقريب الحمل على التقية بوجوه:

1- إنَّ أخبار الطهارة موافقة لمذهب بعض العامّة، إذْ يفتي بالطهارة ربيعةٌ وغيره.

ويلاحظ عليه:

أ- إنَّ المشهور في الفقه السُني بمختلف مذاهبه هو الحكم بالنجاسة، قال ابن قدامة: (الخمر نجسة في قول عامّة أهل العلم)(2)، ومن هنا قال السيد المرتضى (رحمة الله) في الناصريات: (إنَّه لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر..)(3).

ص: 126


1- التهذيب: 1/280 بعد ذكر ح825، ثم ذكر (رحمة الله) معتبرة ابن مهزيار وحمل قولهما (علیهما السلام) معاً على التقية.
2- المغني لعبد الله بن قدامة (ت: 630ﻫ): 10/341.
3- الناصريات: 95.

نعم, نُسب القول بالطهارة إلى بعض فقهائهم فقد قيل: إنَّ الطهارة أحد القولين للشافعيّ أو قول بعض الشافعيّة(1)، وكذا نسب القول بالطهارة إلى ليث بن سعد(2)، وإلى ابن داود، وإلى ربيعة(3).

ولكن من الواضح أنَّ ولادة الشافعيّ هي بعد وفاة الإمام الصادق (علیه السلام) فلا معنى لاتقائه منه، وليث بن سعد وإنْ كان معاصراً للإمام الصادق (علیه السلام) غير أنَّه كان يسكن مصر ولا يحتمل عادة أنَّ الإمام (علیه السلام) وهو في الحجاز أو العراق يتقي من فقيه في مصر ولا يعتني بما ذهب إليه فقهاء الحجاز والعراق، وابن داود ولد سنة 202ﻫ فهو متأخر ولادة عن وفاة الإمام الصادق (علیه السلام) فكيف يفرض الاتقاء منه، وربيعة وإنْ كان معاصراً للإمام الصادق (علیه السلام) ولكنّه كان فقيهاً منعزلاً ولم يتحقق له في حياته من المقام الرسمي أو الاجتماعي ما يناسب الاتقاء منه, خصوصاً إذا قبلنا صدور بعض النصوص السابقة في الطهارة من الإمام الباقر (علیه السلام) الذي كان ربيعة شاباً عند وفاته(4).

وبالجملة: إنَّ المدار على الفتوى التي تمثّل الشيء المعروف والطابع العام عندهم, فلا معنى لأنْ يتقي الإمام (علیه السلام) من غير ذلك كاتقائه من فتوى شخص في زاوية، كما أنَّه

ص: 127


1- عن الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ج6 في ذيل الآية 90 من سورة المائدة، وعن جامع الأحكام الفقهية للقرطبي: 1/31.
2- مغني المحتاج لمحمد الشربيني الخطيب من علماء الشافعية في القرن العاشر الهجري: 1/77، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج6 ذيل الآية 90 من سورة المائدة.
3- المجموع لمحي الدين النووي (ت: 676ﻫ): 2/563 ونص عبارته: (.. عن ربيعة شيخ مالك وداود أنَّهما قالا هي طاهرة وإنْ كانت محرّمة كالسمّ الذي هو نبات وكالحشيش المسكر..).
4- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/ 440، إذ قال (رحمة الله): (وإذا افترضنا بعض نصوص الطهارة من الإمام الباقر (علیه السلام) - المتوفى سنة 114ﻫ - كان عدم تعقل اتقائه من ليث في غاية الوضوح؛ لأنَّ ليثاً ولد سنة (93ﻫ) فيكون عمره حين وفاة الباقر (علیه السلام) حوالي عشرين عاماً).

لا بدّ أنْ تكون الفتوى التي يتقي منها الإمام (علیه السلام) معاصرة لزمانه, وأمَّا إذا كانت ثابتة في زمان سابق ولا مفعول لها الآن, أو فتوى ستأتي مستقبلاً فلا معنى للاتقاء من مثل ذلك، وفي هذه الموارد ونحوها يحتاج المستنبط إلى معرفة بالتاريخ.

فظهر ممّا تقدّم: أنَّه لا يحتمل افتراض التقية عادة من الإمام الصادق (علیه السلام) فضلاً عن الإمام الباقر (علیه السلام) على ما تقدّم بيانه, فالقول بالنجاسة هو المشهور بين العامّة.

ب- ولو سُلّم احتمال وجود موضوع للتقية فإنَّه لا يصدق عليه عنوان موافقة العامّة, ومع عدم وضوح ثبوت عنوان الموافقة للعامّة لا يصحّ إعمال هذا المرجّح.

ج- يبدو من بعض ألسنة روايات الطهارة أنَّها لا تناسب الحمل على التقية؛ إذْ إنَّ الإمام (علیه السلام) يأتي بزيادة في الكلام من تفصيل, أو تعليل, أو بلفظ (إنَّما) ونحو ذلك, فلو كان الحكم بالطهارة تقيّةً لكان المناسب عدم البيان بهذه الصورة التي تعطي أنَّ الجواب هو لبيان الحكم الواقعي, وليس صادراً تقيةً, لاحظ مثلاً معتبرة الحسن بن أبي سارة (لا بأس, إنَّ الثوب لا يسكر), وفي رواية أو معتبرة علي بن رئاب (.. إنَّ الله تعالى إنَّما حرّم شربها), وغيرهما مما لسانه التفصيل لا الإجمال والاضطراب الذي هو عادة - كما قيل - لسان التقية.

د- يمكن أنْ يقال: إنَّ كثرة روايات الطهارة مما يبعّد الصدور تقيةً, أو الحمل على التقية؛ فإنَّ احتمال التقية يأتي في الرواية أو الروايتين أو الثلاث - مثلاً-, وأمَّا في عشر روايات - مثلاً- فصدورها تقية أمرٌ بعيدٌ.

هذا, ولا يخفى أنَّه لا يصحّ إجراء المرجّحات - ومنها الترجيح بمخالفة العامّة - إذا فرض إمكان الجمع العرفي والدلالي؛ فإنَّه لا مجال لإعمال المرجّحات الخارجية بين الطائفتين إلاّ إذا فُرض استحكام التعارض واستقراره ولم يمكن الجمع العرفي الدلالي.

ص: 128

2- إنَّ فتوى غيرنا وإنْ كانت في النجاسة كما هو المشهور بينهم ولكن مع ذلك تبقى أخبار الطهارة موافقة للتقية؛ وذلك باعتبار موافقتها لعمل الحكّام والسلاطين الذين كانوا يشربون الخمر ولا يتجنبون مساورتها، فأخبار الطهارة بهذا اللحاظ موافقة للتقية فتُقدّم أخبار النجاسة إعمالاً للمرجّح العلاجي في مقام التعارض(1).

ويلاحظ عليه:

أ- يمكن أنْ يقال: إنَّ ما دلّ على ترجيح المخالف للعامّة على الموافق ناظر إلى الموافقة والمخالفة بلحاظ ما عليه تدّين العامّة وشرعهم لا ما عليه فسّاقهم وفجّارهم، وبعبارة أخرى: إنَّ المرجّح للنصوص عند التعارض هو مخالفة الفتوى دون العمل.

ب- لو تنزّلنا فقد يقال: إنَّ أخبار النجاسة أيضاً ستكون موافقة للتقية؛ وذلك باعتبار موافقتها لفتوى فقهاء العامّة، وحينئذٍ لا يمكن إعمال الترجيح بها(2) فيُتوقف لتعارض الطائفتين وتكافئهما، فإنَّ كل واحدة منهما مخالفة للعامّة من جهة وموافقة لهم من جهة، فأخبار الطهارة موافقة لهم عملاً ومخالفة لهم بحسب الحكم والفتوى, كما أنَّ روايات النجاسة موافقة معهم بحسب الحكم ومخالفة لهم عملاً, فلا ترجيح في البَين فيتساقطان، ولا بدّ من التوقف حينئذ.

ولكنَّ الإنصاف أنَّ هذه الملاحظة لا ترد؛ فتعميم التقية بلحاظ عمل الأمراء

ص: 129


1- لاحظ الحبل المتين للبهائي: 103 (ط.ق).
2- قد يقال: إنَّ نصوص النجاسة تحمل على التقية لأنَّها موافقة لمشهور فقهاء العامّة إلاّ ما شذّ منهم, أمَّا نصوص الطهارة فمخالفة لهم, وما خالف العامّة ففيه الرشاد كما في مقبولة عمر بن حنظلة. ولكن يلاحظ عليه: أنَّ أخبار النجاسة فيها نوع من التأكيد البالغ والحث الشديد على التجنب والأمر بغسل الملاقي ثلاث مرات، ولو كان الأمر كذلك لما ذهب المشهور إلى النجاسة، مضافاً إلى أنَّه قد يقال: إنَّ قول القليل من العامّة بالطهارة لا يقتضي نسبة صدق مخالفة العامة.

والسلاطين ليس بتامّ بعدما كان وعّاظ السلاطين فتواهم على خلاف عمل السلاطين, وبعدما كان الحكم بالطهارة لا يبرّر عمل السلاطين كما سيأتي.

ج- لا معنى لاتقاء الإمام (علیه السلام) من السلاطين وإفتائه بالطهارة بعدما كان فقهاء السلاطين يحكمون بالنجاسة، فلا يُشكِّل ذلك خطراً عليه، فالاتقاء لا مجال له من الأساس، وبكلمة أخرى: لا مقتضي للتقية ولا موضوع لها بعدما كان علماؤهم يفتون بالنجاسة.

د- إنَّ الحكم بالطهارة لا ينفع السلاطين والحكام بمجرّده, وإنَّما ينفعهم الإفتاء بالحلية - وهو لا يكون بعد اتفاق الفقهاء على حرمة الخمر - فأيّ فائدة لشاربي الخمر في تطهيره مع التأكيد على حرمته؟!(1).

ﻫ- ما ذكره السيد الشهيد (رحمة الله) من انَّه: (كيف يمكن أنْ نحتمل أنَّ الأئمة (علیهم السلام) أنَّهم ينزلون إلى مستوى الإفتاء بغير الواقع تبريراً لفسق الحكام؛ فإنَّ مثل هذا لم يكن يصدر من المتعفّفين من فقهاء السنة أنفسهم فكيف يصدر من أئمة أهل البيت (علیهم السلام) ؟! وما كان الأئمة يمارسونه من تقية مع الحكام إنَّما يرجع إلى التعامل معهم كحكّام وعدم

ص: 130


1- جاء في الروايات عن الإمام الباقر (علیه السلام): (لعن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في الخمر عشرة: غارسها, وحارسها, وعاصرها, وشاربها, وساقيها, وحاملها, والمحمول عليه, وبايعها, ومشتريها, وآكل ثمنها) (الوسائل ب55 أبواب ما يكتسب به). وجاء عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام) أنَّهم لا يتقون في المسكر, ففي معتبرة زرارة عن غير واحد قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام) في المسح على الخفين تقية؟ قال:(لا يتقى في ثلاثة). قلت: وما هنّ؟ قال ):شرب الخمر أو قال: (شرب) المسكر, والمسح على الخفين, ومتعة الحج). (الكافي: 6/415/ح12، ولاحظ التهذيب: 9/114/ح494 عن الكليني وليس فيه (عن غير واحد) وفيه (.. لا أتقي.. شرب المسكر)). وفي معتبرة حنان بن سدير عن الإمام الصادق (علیه السلام): (.. والله إنَّه لشيء ما اتقيت فيه سلطاناً, ولا غيره. قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): كل مسكر حرام, وما أسكر كثيره فقليله حرام). (الكافي: 6/ 410/ ح12).

التجاهر بعدم صلاحيتهم للحاكميّة لا تبرير فسقهم وفجورهم)(1).

و- ماذكره السيد الشهيد (رحمة الله) ايضاً: (إنَّ الخلفاء المعاصرين للإمام الصادق (علیه السلام) لم ينقل في التاريخ أنَّهم شربوا خمراً, بل لم ينقل ذلك إلاّ عن شواذّ من الخلفاء وأشباه الخلفاء في عصور أخرى، ولم يتفق في زمان في تلك الأزمنة أنَّ يكون قد بلغ استهتار الخليفة إلى درجة التجاهر بمساورة الخمر وشربه، والتصدي للتنكيل بمن يفتي بنجاسته..)(2).

ز- ما تقدم من أنَّه يبعد حمل أخبار الطهارة على التقية؛ كون لسان بعضها مشتملاً على زيادة في الجواب وتبرّع من الإمام (علیه السلام) بالتفصيل أو التعليل أو التأكيد, بل نفس كثرتها.

هذا، مضافاً إلى ما تقدّم من أن النوبة لا تصل إلى إعمال المرجّح العلاجي بين المتعارضين مع إمكان الجمع العرفي.

3- ما احتمله الفاضل (رحمة الله) من أنَّ المشهور عند العامّة العفو عن قليل الخمر في الصلاة, فتكون نصوص الطهارة موافقة لهم في ذلك, ويكون الترجيح لنصوص النجاسة(3).

ولكن يلاحظ عليه: أنَّ نصوص الطهارة مطلقة لا تختص بالقليل, ولاسيّما بملاحظة التعليل فيها بأنَّ الله تعالى إنَّما حرّم شربها، وبأنَّ الثوب لا يسكر، فهي ظاهرة في الطهارة التي هي مخالفة للمشهور بين العامّة كما تقدَّم.

ص: 131


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/442-443.
2- المصدر نفسه.
3- كشف اللثام: 1/394 (ط.ج)، 1/47 (ط.ق).

الوجه الخامس

إنَّ التقديم هو لأخبار النجاسة؛ لشهرة الفتوى بها, والشهرة الفتوائية من المرجّحات(1).إذْ قيل إنّه: (قد حُقّق في محلّه أنَّ ميزان الجمع هو الجمع العرفي لا العقلي وهو مفقود في المقام, وقد قلنا في محلّه: إنَّ الشهرة التي اُمرنا في مقبولة عمر بن حنظلة في باب التعارض بالأخذ بها وترك الشاذ النادر المقابل لها هي الشهرة في الفتوى لا في النقل، وتلك الشهرة ومقابلها معيار تشخيص الحجّة عن اللاحجّة، والمشهور بين الأصحاب بَيّنٌ رشده، ومقابله بَيّنٌ غيّه والمقام من هذا القبيل)(2).

ولكن يمكن أنْ يلاحظ بعد التسليم بسند المقبولة:

1- إنَّ الشهرة وإنْ ذكرت في المقبولة ولكن يحتمل أنَّها ذكرت لتمييز وتعيين الحجّة من غير الحجّة أي موجبة لسقوط الرواية غير المشهورة عن الحجيّة ذاتاً ورأساً, وليس أنَّها كمرجّح لإحدى الحجّتين على الحجّة الأخرى، ومحل كلامنا هو في المرجّح لا في المُسقط, فلا تكون من المرجّحات بين الحجّتين، والوجه في هذا الاحتمال هو: إنَّ ظاهر المقبولة أنَّ المراد من الشهرة هي شهرة الرواية والنقل يعني تداول الرواية وتسجيلها في كتبهم, لا شهرة الفتوى والعمل على طبقها أيْ ليست الشهرة العملية, وهذا الظهور للمقبولة في الشهرة الروائية باعتبار إضافة الإجماع والشهرة إليها, لا إلى الحكم الذي تضمنته, بل ظاهر المقبولة أنَّ المراد بالشهرة ما يساوق الإجماع ومع فرضها في كلا المتعارضين, وهذا يمكن في الروايتين بأن يكون كل منهما مُجمعاً على روايته معروفاً عند الأصحاب مشهوراً بينهم، ولكن هذا ممتنع في الفتويين المتعارضتين معاً.

ص: 132


1- في المسائل المستحدثة للسيد محمد صادق الروحاني: موضوع نجاسة الخمر قال: (إلّا أنَّه مع ذلك كله يتعيّن تقديم نصوص النجاسة للشهرة؛ فإنَّ أول المرجّحات هي الشهرة الفتوائية على ما حُقّق في محّله) فلاحظ ص198 وما بعدها.
2- كتاب الطهارة للسيد الخميني (رحمة الله): 3/188 بحث نجاسة الخمر.

ومعلوم أنَّ الرواية إذا كانت مشهورة - أي ينقلها كثير من الرواة - فهي التي تورث الاطمئنان, بل القطع بصدور الرواية وبالتالي يسقط مقابلها وهي الرواية غير المشهورة حيث تكون مخالفة للسنة القطعية, والمخالف للدليل القطعي يكون ساقطاً عن الحجّية رأساً.

إنْ قيل: إنَّ الشهرة الروائية لا توجب القطع - حتى يكون الثاني مخالفاً للدليل القطعي - بقرينة أنَّ ابن حنظلة قال بعد ذلك: (فإنْ كان الخبران عنكم مشهورين رواهما الثقات عنكم), وفرض الشهرة في كلا الحديثين أمر غير ممكن إذا كانت الشهرة توجب القطع إذ يلزم آنذاك القطع بمتنافيين وهو مستحيل.

كان الجواب: أنَّ الشهرة الروائية توجب القطع بالصدور لا القطع بالحقانيّة, فيمكن أنْ يكون كلا الجزئين يُقطع بصدوره لكنْ لا يكون أحدهما مراداً بالإرادة الجدية وإنَّما يكون مراداً لأجل التقية.

والحاصل: الشهرة في المقبولة ليست من مرجّحات باب التعارض, وإنَّما نحتمل أنَّها موجبة لسقوط الرواية الشاذة غير المشهورة عن الحجّية رأساً، وحينئذٍ يكون المورد من موارد تمييز الحجّة عن اللاحجّة الخارج عن محلّ الكلام من الترجيح بين الحجّتين, فالإرجاع إلى الشهرة هنا ليس إرجاعاً إليها للترجيح بين الحجّتين, لأنَّ شهرة الرواية توجب العلم بصدورها فيكون المعارض لها مخالفة للسنة القطعية ويسقط من موضوع الحجّية، والمراد بمخالفة السُّنة سُنة المعصوم لا خصوص سنة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) (1).

ص: 133


1- أشكل على ذلك السيد الحكيم في المحكم: 6/ 178 بثلاثة إشكالات وانتهى إلى أنَّ الشهرة الروائية مرجّح بين الحجّتين، وقال في ص204:(وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنَّ المرجحات المنصوصة تنحصر بالشهرة في الرواية، وموافقة الكتاب والسُّنة ومخالفة العامّة. وهي التي اقتصر عليها الكليني (رحمة الله) تقريبا في ما سبق من كلامه, وأنَّ ما عداها مما تعرضت له النصوص إمَّا لا تنهض نصوصه بإثباته لضعفها سنداً ودلالةً, أو لا يرجع للترجيح بين الحجّتين المتعارضتين, بل إلى وجوب العمل بالحجّة منهما فلاحظ).

كما أنَّ الكتاب يُسقط الرواية المخالفة له قبل الوصول إلى تعارض الحجّتين, وفي مقامنا لا شهرة روائية مميِّزة.

2- لو تنزّلنا وسلّمنا كون الشهرة في المقبولة من المرجّحات فهي ليست الفتوائية(1), بل يحتمل إنْ لم يكن ذلك هو الظاهر - فلاحظ الرواية فهي تتحدث عن اختلاف في الحديث والرواية - إرادة الروائية فحمل الشهرة على الشهرة الفتوائية بعيدٌ, فالرواية تتحدَّث عن الاختلاف في الحديث الذي كان عليه الإفتاء والمدار في كلام الأصحاب مع بعضهم، وقضية العمل به من المكلّف أو عدم العمل به قضية أخرى (.. كلاهما

ص: 134


1- هناك من ذهب إلى أنَّ المراد الشهرة الفتوائية وممّا استدل به على أنَّ الشهرة ليست شهرة روائية محضة، بل هي الشهرة الفتوائية الموافقة للرواية, هو أنَّها بيّنة الرشد فإنَّ مجرد اشتهار الرواية مجردة عن الفتوى من دون الاعتماد عليها والعمل بها لا يجعلها ممّا لا ريب فيه، بل يكون من الإعراض الذي يزيد في الريب، فما هو المرجّح للرواية عند التعارض هو الشهرة العملية، فالذي يوصف بأنَّه لاريب فيه هو الذي عليه الشهرة الفتوائية. وممَّن ذهب إلى أنَّ المراد بالمقبولة الشهرة الفتوائية العملية, وأنَّها أحد المرجّحات المنصوصة عند التعارض بين الخبرين الواجدين لشرائط الحجية الشيخ المنتظري وأستاذه السيد البروجردي (رحمهماالله). (لاحظ دراسات في المكاسب المحرمة: 1/97، 1/268) وغيره للشيخ المنتظري، وقال (رحمة الله) في البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر: 325:(وقد عرفت مراراً أنَّ الشهرة الفتوائية كانت بمرتبة من الأهمية عند الشيعة بحيث كانوا يطرحون لأجلها الأخبار المخالفة لها, ويحملونها على التقية أو محامل أخر..). لاحظ أيضاً نهاية الأصول: 541. وفي فقه الصادق (8/435 ): (إنَّه لو سُلّم التعارض فعلى ما هو الحق من الترتيب بين المرجحات وأنَّ المراد بالشهرة هي الشهرة الفتوائية لا بدّ من تقديم الصحيح لأنَّه أشهر، والشهرة مقدّمة على موافقة الكتاب) وكذا لاحظ( 22/475، 24/297).

اختلفا في حديثكم قال: ( الحكم ما حكم به أعدلهما). قال قلت.. قال: فقال: (ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المُجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك, فإنَّ المجمع عليه لاريب فيه، وإنَّما الأمور ثلاثة: أمرُ بيِّن رشده فيتبع).. فإنْ كان الخبران عنكم مشهورين..)(1).

3- لو تنزّلنا وقلنا إنَّ المراد مرجّحية الشهرة الفتوائية فلا يثبت أنَّ الشهرة تكون مرجّحة لجانب روايات النجاسة في المقام حيث:

أ- إنَّ الشهرة التي يمكن أنْ تجعل مرجّحة هي ما كان بين أصحاب الأئمة (علیهم السلام), وفي مقامنا لا يعلم أنَّ الحكم بالنجاسة مشهور فيما بينهم؛ إذ يظهر من معتبرة ابن مهزيار ورواية خيران أنَّ المسألة كانت موقع اختلاف بين الأصحاب، فلا يُعلم أنَّ النجاسة هي المشهورة بينهم, ولعل الشهرة حصلت بعدهم باعتبار استنباطهم النجاسة من ظاهر القرآن الكريم. وقد تقدّم مناقشة التمسك بالآية.

ب- لو سُلّم كون الشهرة مرجّحاً فإنَّه يمكن أنْ يقال: إنَّ هذا لا يرجّح جانب

روايات النجاسة في مقامنا؛ وذلك لوجود خبرين كالصريحين, أو قل لهما ظهور قوي، في جانب الطهارة وهما معتبرة الحسن بن أبي سارة ومعتبرة علي بن رئاب.

ج- ولو سُلّم أنَّ الشهرة تقاوم كلّ ما تقدّم من الإشكالات فإنَّه مع ذلك لا تكون مرجّحيتها تامةً لتقديم روايات النجاسة, وأيضاً لا تُقدّم أخبار الطهارة فيُرجع لأصالتي الطهارة والبراءة بلا معارض لهما.

إنْ قيل: إنَّ المراد من المقبولة الشهرة الفتوائية, لكن لا على أنَّها مرجّحة في باب التعارض لأحد الخبرين الحجّتين, بل على أنَّها مسقطة أي مميِّزة ومعيّنة للخبر الحجّة عن

ص: 135


1- الكافي باب اختلاف الحديث ح10.

غير الحجّة(1).

كان الجواب: لو سُلِّم ذلك ففي مقامنا أيضاً لا شهرة في جانب روايات النجاسة لما تقدّم من اختلاف أصحاب الأئمة (علیهم السلام).

وإنْ قيل: نرجّح روايات النجاسة بالإجماع المنقول الذي نقله الشيخ والمرتضى (رحمهماالله).

قلت: تقدّمت مناقشة أصل دعوى الإجماع في المسألة، مضافاً إلى أنَّه لا دليل على الترجيح لأحد الخبرين بالإجماع. وما روي عن الاحتجاج بلسان (ورُوي عنهم (علیهم السلام) أنَّهم قالوا: (إذا اختلفت أحاديثنا عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا فإنّه لاريب فيه))(2) هو خبرٌ مرسلٌ, ولو سُلِّم الخبر فيمكن أنْ يقال: إنَّ ظاهر الاجتماع - أو يحتمل - هو الاجتماع على العمل بالخبر والتعويل عليه الذي يصاحبه الإجماع في الفتوى دون الذي يصاحبه الهجران والمفارقة له، ولعلّه لذلك لم يُشرْ في الرواية لاحتمال الاجتماع على الخبرين معاً الذي هو ممكن في الإجماع على الرواية، وبما أنَّ الإجماع على الفتوى يوجب العلم بمطابقة مضمون الخبر للواقع دون الآخر فيخرج الآخر عن موضوع الحجّية ذاتاً مع قطع النظر عن المعارضة، فهو خارج عمّا نحن فيه من الترجيح بين

ص: 136


1- ممَّن يظهر منه ذلك السيد الخميني (رحمة الله) في كتاب الطهارة: 3/188 بحث نجاسة الخمر، وفي نفس المصدر: 1/28 و4/580. فالشهرة الفتوائية بقيامها تمتاز الحجّة عن اللاحجّة وأن المشتهر بين الأصحاب فتوىً بَيِّن رشده فيتبع والشاذ النادر بَيِّن غيّه فيجتنب، وقال (رحمة الله) في المكاسب المحرّمة: 1/41)..لا بدّ من إعمال قواعد التعارض فيها من الأخذ بما هو الموافق للكتاب أولاً، ومع فقده الأخذ بما يخالف العامّة، وهذان الترجيحان للمجوّز على ما حكي من كون المنع مذهب أكثر العامّة, لكن الرجوع إلى المرجّح إنَّما هو بعد عدم إحراز الشهرة الفتوائية - كما قُرِّر في محله من أنَّها لتميز الحجّة من غيرها-, بل ولو قلنا بأنَّها من المرجّحات أيضاً يقدّم الترجيح بها على سايرها..).
2- الوسائل: 27/122/ ب9 أبواب صفات القاضي ح43.

الحجّتين(1).

وإنْ قيل: كثرة الأحاديث في جانب النجاسة عدداً تكون مرجّحة للنجاسة.

يمكن الجواب: إنَّ الكثرة وحدها لا تنفع في الترجيح ما لم تشكّل عنوان السُّنة القطعية، مضافاً إلى أنَّه في جانب الطهارة أيضاً الأحاديث كثيرة, وإذا كانت ناقصة بقليل فهذا لا يضر، قال السيد الخوئي (رحمة الله): (.. وقد دلّت على طهارة الخمر بصراحتها وهي من حيث العدد أكثر من الأخبار الواردة في نجاستها..)(2).

وإذا كان المراد من الكثرة هو الشهرة الروائية فهي لو بني على كونها من المرجّحات لا يراد بها كثرة عدد الرواية, بل يراد اشتهار نقل رواية في كتب الأصحاب.

الوجه السادس: العمل بالاحتياط

قال صاحب الحدائق (رحمة الله) في الوجه السابع على بطلان الجمع العرفي المتقدّم: (مضافاً إلى ذلك الاحتياط في الدين الذي هو أحد المرجّحات الشرعية في مقام اختلاف الأخبار كما دلّت عليه رواية زرارة في طرق الترجيح)(3).

وذكر المحقّق (رحمة الله): (أنَّ الأخبار المشار إليها من الطرفين ضعيفة, أمَّا الأول فعن عمّار بن موسى الساباطي وهو فطحي، والثاني عن محمد بن عيسى عن يونس عن بعض رجاله, والسند طعن فيه ابنُ الوليد، وابن أبي سارة لا يقوى بانفراده حجّة، والخبر الرابع ليس بصريح في موضع النزاع، وما عدا هذه الأخبار مثلها في الضعف وما

ص: 137


1- لا يخفى أنَّ ما نحن فيه من نجاسة الخمر ليس من الإجماعات القطعية التي لا كلام فيها, بل إنَّ المسألة ليست محلّ شهرة واضحة بين أصحاب الأئمة (علیهم السلام) - كما يظهر من معتبرة ابن مهزيار ورواية خيران - وإنَّما الشهرة نشأت بين المتأخرين.
2- التنقيح: 3/83 ط. جديدة.
3- لاحظ الحدائق: 5/109.

صحّ منها غير دالّ على موضع النزاع؛ لأنَّ الخبر الدالّ على المنع ممّا يقع فيه الخمر من طبيخ أو عجين يحتمل أنْ يكون المنع منه لا لنجاسته بل لتحريمه, فإذا مازج المحلّل حرّمه، كما لو وقع في القدر دهن من حيوان محرّم، فإنَّا نمنع منه لتحريمه لا لنجاسته، والاستدلال بالآية عليه فيه إشكالات, لكن مع اختلاف الأصحاب والأحاديث يؤخذ بالأحوط في الدين)(1).

ويلاحظ عليه:

أ- إنَّ النصوص من الطرفين كثيرة ومستفيضة كما تقدَّم, وهناك جملة منها معتبرٌ سنداً.

ب- لو تنزّلنا وسلّمنا بضعفها فإنَّ المرجع حينئذ يكون الأصل العملي وهو يقتضي الطهارة بعد فرض قصور الدليل الاجتهادي عن إثبات النجاسة، ولايوجد أصل يقول إنَّ الحظر مقدّم على الإباحة. نعم, دلّ الدليل من النقل والعقل على أصالة الطهارة والبراءة.

ج- إذا كان مقصود المحقق (رحمة الله) أنَّ الاحتياط من المرجّحات - كما هو ظاهر كلام الحدائق - فيرد عليه: إنَّه مع ضعف الأخبار لا موضوع للترجيح أساساً، مضافاً إلى أنَّ

الاحتياط ليس من المرجّحات.

إنْ قيل: إنَّ العمل بالموافق للاحتياط في الدين هو أحد المرجّحات الشرعية في مقام اختلاف الأخبار، كما دلّت عليه رواية زرارة الواردة في طرق الترجيح(2)، حيث

ص: 138


1- المعتبر في شرح المختصر: 1/424.
2- لاحظ الحدائق: 5/109. وقال (رحمة الله) في: 1/109: (الذي ظهر لي من الأخبار.. أنَّه متى تعارض الخبران على وجه لا يمكن ردّ أحدهما إلى الآخر فالواجب أولاً العرض على الكتاب العزيز.. ثمّ الترجيح بالعرض على مذهب القوم والأخذ بخلافهم.. ثمّ مع عدم إمكان العرض على مذهبهم فالأخذ بالمُجمع عليه.. وكيف كان فهذه القواعد الثلاث لا يمكن الاختلاف فيها بعد إعطاء التأمل حقه في الأخبار في مقام الاختلاف، وإعطاء النظر حقه من التحقيق والإنصاف، ومع عدم إمكان الترجيح بالقواعد الثلاث فالأرجح الوقوف على ساحل الاحتياط، وإنْ كان ما اختاره شيخنا الكليني ثقة الإسلام من التخيير لا يخلو من قوة, إلاّ أنَّ أخبار الاحتياط عموماً وخصوصاً أكثر عدداً وأوضح سنداً وأظهر دلالة. وأمَّا الترجيح بالأوثقية والأعدلية فالظاهر أنَّه لا ثمرة له بعد الحكم بصحّة أخبارنا التي عليها مدار ديننا وشريعتنا).

جاء فيها (.. إذاً, فخذ ما فيه الحائطة لدينك وأترك الآخر..)(1).

قلت: إنَّ الرواية ضعيفة سنداً باعتبار أنَّ طريق ابن أبي جمهور مجهول, وإذا أمكن بشكل وآخر تحصيل طريق من هذه الناحية يبقى طريق العلاّمة إلى زرارة مجهول.

هذا, وقد قيل: إنَّ نفس ذكر ابن أبي جمهور للرواية من دون أنْ يذكرها العلاّمة في كتبه وهكذا غيره من أعلام الدين هو أمرٌ مُوهن لها.

كما قيل أيضاً إنَّ الترجيح بذلك هو مما انفردت به مرفوعة زرارة.

ولا يخفى أنَّ صاحب الحدائق (رحمة الله) قد قال عن رواية زرارة: (.. فإنَّا لم نقف عليها في غير كتاب عوالي اللئالي مع ما هي عليه من الرفع والإرسال, وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والإهمال, وخلط غثّها بسمينها, وصحيحها بسقيمها كما لا يخفى على من وقف على الكتاب المذكور)(2).

الوجه السابع

قال المحقّق النراقي (رحمة الله) في خلال استدلاله على نجاسة الخمر (.. مع أنَّ من المرجّحات المنصوصة التي عمل بها الأصحاب الأخذ بالأخير, ولاريب أنَّ صحيحة ابن مهزيار وخبر خيران قد تضمّنا ذلك. فالمسألة بحمد الله واضحة غاية

ص: 139


1- مستدرك الوسائل: 17/303/ ب9 من أبواب صفات القاضي ح2 عن عوالي اللئالي ل- محمد بن علي بن أبي جمهور الإحسائي: (روى العلامة مرفوعاً إلى زرارة بن أعين...).
2- الحدائق: 1/99 عند بحثه عن اختلاف مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة في الترتيب بين طرق الترجيح.

الوضوح)(1).

وقال صاحب الحدائق (رحمة الله) في الوجه السادس في كلامه عن الجمع العرفي وإبطال الحمل على الاستحباب في المسألة: (ورد عنهم (علیهم السلام) من القواعد أنَّه إذا جاء خبر عن أوَّلهم وخبر عن آخرهم فإنَّه يجب الأخذ بالأخير, وهذه القاعدة صرَّح بها الصدوق في الفقيه في باب (الرجل يوصي إلى الرجلين) ولو صحّ الخبران لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر الصادق (علیه السلام), ولاريب أنَّ صحيحة علي بن مهزيار ورواية خيران قد تضمّنتا ذلك فالواجب بمقتضى هذه القاعدة الرجوع إلى قول الإمام الأخير وهو الحكم بالنجاسة)(2).

ويلاحظ على ذلك: أنَّ الترجيح بالتأخّر زماناً والأحدثية وإنْ ورد في جملة من النصوص الأمر بالأخذ به كرواية الحسين بن المختار ورواية هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني(3).

ولكن - بعد وضوح أنَّ النصوص الواردة عن الأئمة (علیهم السلام) هي بصدد بيان الحكم الواقعي الشرعي الأوَّلي الثابت في أصل التشريع غير القابل للتغيير في فرض عدم النسخ، دون بيان الأحكام الفعلية الثابتة لأجل التقية ونحوها القابلة للتغيير، ومن ثمّ كان اختلافها في الموضوع الواحد موجباً لتعارضها في أنفسها ومورداً للمرجّحات

ص: 140


1- المستند: 1/191-193 ولا يخفى أنَّ الأخذ بالمتأخر زماناً - بناءً على تمامية هذا المرجّح - يكون لو كانت إحدى الروايتين صادرة من إمام والثانية من إمام آخر فنأخذ بالمتأخر وإلاّ إذا كانتا صادرتين من إمام واحد فلا يمكن إعمال هذا المرجّح إذ لا نعلم أيّهما المتأخر ولا بدّ من الأخذ بالمرجحات الأخرى.
2- الحدائق: 5/ 109.
3- الوسائل: 27/ب9 أبواب صفات القاضي ج7، ح17. وأيضاً لاحظ ح8 رواية المعلّى بن خنيس ح9، مرسل الكليني (وفي حديث آخر: خذوا بالأحدث).

الإثباتية الواردة في الأخبار العلاجية فالأخبار العلاجية راجعة إلى تعارض الحجتين إثباتاً في الحكم الواحد والترجيح بينهما بلحاظ طريقتهما إلى الواقع وقوة كاشفيته - يمكن أنْ يقال إنَّ الزمان لا دخل له في أقربية الدليل المتأخّر للواقع وقوة كاشفيته فالأحدثية لا تتضمّن أيّة مناسبة عقلائية للترجيح في باب الحجّية, وبالتالي هو ليس ناظراً إلى الترجيح إثباتاً بين الحجّتين الذي هو محل كلامنا وتجري فيه المرجّحات العلاجية، وإنّما الترجيح بالأحدثية ناظر وراجع إلى الترجيح بين الحكمين ثبوتاً(1) - ولا قصور في حجّية الحكمين المحكيين - بلحاظ جريان الأحدث على طبق الوظيفة الفعلية التي يدركها إمام الوقت سواء كانت هي الحكم الواقعي الثانوي لحدوث سبب التقية الرافع للحكم الأولي المبيَّن بالدليل الأسبق أو لتبدّل مقتضى التقية أم كانت هي الحكم الأوَّلي لارتفاع سبب التقية التي هي الحكم الأسبق جارياً على مقتضاها.

فإذاً تحمل رواية الحسين بن المختار ورواية أبي عمرو الكناني على أنَّ الأخذ بالمتأخّر هو من أجل نكتة التقية حيث يريد الإمام

(علیه السلام) أنْ توافق أعمالهم التقية, ومن ثَمَّ يكون الأخذ بالمتأخّر وجيهاً - وإلّا الأحدثية لا تتضمّن أيّة مناسبة عقلائية للترجيح في باب الحجّية - كما هو مقتضى قوله (علیه السلام) في رواية أبي عمرو الكناني (أبى الله إلّا أنْ يعبد سرّاً،

ص: 141


1- أي تعدّد الحكم ثبوتاً بلحاظ العناوين الثانوية القابلة للتبدّل، وحينئذٍ يلزم الأخذ بالأحدث والجري عليه حتى يصدر خلافه؛ لأنّ إمام الوقت أعرف بحكمه. ولا يخفى أنَّ سيرة الأئمة (علیهم السلام) التصدّي لبيان الأحكام الأوّلية بعد تشخيصها - كما هو مقتضى الوضع الطبيعي المناسب للأمر بالأخذ بخلاف العامة -، وإيكال تشخيص الوظيفة الثانوية من حيثية التقية في حق كلّ شخص إليه كما يشخّصها من سائر الجهات كالحرج والضرر لاختلافها باختلاف الأشخاص والظروف غير المنضبطة عادة، وإنّما صدر منهم تشخيص الوظيفة الثانوية في مناسبات في حق بعض الأشخاص وخطابهم على طبقها كقصة علي بن يقطين ونحوها.

أما والله لئن فعلتم ذلك إنّه لخير لي ولكم، أبى الله عزّ وجلّ لنا في دينه إلّا التقية).

وأيضاً هو مقتضى قوله في رواية المعلّى بن خنيس (إنّا والله لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم)، مضافاً لما يصلح إلى ذلك ابتداء الإمام (علیه السلام) بالسؤال (أرأيتك لو حدّثتك..), فلاحظ رواية الحسين ورواية أبي عمرو الكناني, لا أنَّ السائل سأل الإمام والإمام أجابه، وبعد إجابة الراوي أقرّه الإمام (علیه السلام)، فإذاً يكون ما دلّ على الأخذ بالمتأخّر مختصّاً بظرف التقية وهو زمان الأئمة (علیهم السلام) وأصحابهم ولا يشمل زماننا(1).

ويناسب ذلك أيضاً ما تضمّنته رواية الكناني والحسين بن المختار من معرفة الراوي للأخذ بالأخير من دون تنبيه الإمام (علیه السلام) على ذلك إذْ قال له (علیه السلام) (قد أصبت), و (رحمك الله), فالراوي لأجل الجهة الارتكازية ومعرفته بأنَّ الإمام الصادق (علیه السلام) يعيش ظرف التقية عليه أنْ يعمل بالوظيفة الفعلية وإنْ كانت ثانوية، دون ما إذا كان الخطابان واردين لبيان الحكم الأوَّلي غير القابل للتعدّد لعدم الفرق بين الأحدث وغيره في احتمال مخالفة الواقع.

وعلى أي حال فأقصى ما تدلّ عليه رواية الكناني والحسين ظرف التقية، ويتعيّن حمل نصوص الترجيح بالأحدثية على ما إذا احتفّ الكلام بما يناسب حمله على الوظيفة

ص: 142


1- إن قيل: إذا كان الأوَّل صادراً للتقية والثاني صادراً لبيان الواقع, فيتعيّن الأخذ بالثاني في جميع الأزمنة باعتبار وروده لبيان الواقع، فإذاً يبقى الأخذ بالمتأخر أمراً لازماً. كان الجواب: إنَّ لزوم الأخذ بالمتأخّر في كل زمان يكون وجيهاً لو فرض تعيّن أنَّ الأوَّل صدر للتقية والثاني صدر لبيان الواقع، ولكن لا جزم بذلك فلعلّه (علیه السلام) أحياناً يصدر الأوَّل لبيان الواقع والثاني يكون تقية تحفظاً على أصحابه ويترحم عليهم حيث عملوا بالتقية، فإذاً لا يمكن أنْ نقول بأنَّ الصدور دائماً هو بنحو كذا، فإذاً الإمام (علیه السلام) يطلب دائماً الأخذ بالمتأخّر من باب أنَّه أحياناً يكون المتأخّر لبيان الواقع وأحياناً يكون المتأخّر صادراً للتقية.

الفعلية ولو كانت ثانوية كالقطع بعدم كون مضمونه هو الحكم الأولي مع ظهور الخطاب به في الجدية المستتبعة للعمل، وحالها حال ما حدد في أمر الإمام الكاظم (علیه السلام) لعلي بن يقطين بأنْ يتوضأ بوضوء العامّة حيث أدرك علي أنّ الأمر المذكور ثانوي لما عليه إجماع العصابة في كيفية الوضوء.

ورواية نصر الخثعمي تشير إلى ظرف التقية المعاش آنذاك, والفتوى التي تدفع عن المكلَّف هي الفتوى بالحكم الثانوي القابل للتبدّل, فقد جاء فيها سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: من عرف أنّا لا نقول إلا حقاً فليكتفِ بما يعلم منّا، فإنْ سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم أنّ ذلك دفاعٌ منّا عنه(1).

وبالجملة إنّ الأخذ بالأحدث محمول على ظروف خاصّة ونكتة خاصّة وليس قاعدة عامّة يعمل عليها, فالأخذ بالمتأخّر لا يدلّ على التعبّد الشرعي وإنّه حكم شرعي عام لا بدّ من الأخذ به في كل زمان.

وقال صاحب الوسائل (رحمة الله) بعد نقله رواية الحسين بن المختار: (أقول: يظهر من الصدوق أنّه حمله على زمان الإمام خاصّة فإنّه قال في توجيهه: إنّ كلّ إمامٍ أعلم بأحكام زمانه من غيره من الناس)(2). ثمَّ علّق الحرّ (رحمة الله) على ذلك بقوله: (وهو موافق لظاهر الحديث وعلى هذا يضعف الترجيح به في زمان الغيبة وفي تطاول الأزمنة, ويأتي ما يدلّ على ذلك والله أعلم)(3).

فيظهر إذاً من الصدوق والحرّ (رحمهماالله) أنَّهما قد فهما المعنى المتقدّم.

وعن الشيخ الأنصاري (رحمة الله) عدّم التعرّض للترجيح بالأحدثية مع تعرّضه لنصوصه،

ص: 143


1- الوسائل: 27/108/ ب9 أبواب صفات القاضي ح3.
2- الوسائل: 27/109.
3- نفس المصدر السابق.

وكذا عن من جاء بعده من العلماء فيما نعلم.

فإذاً تبيّن ممّا سبق القصور في الدلالة على الترجيح بالأحدثية والأخذ بالمتأخّر زماناً، هذا مضافاً إلى أنّ رواية الحسين بن المختار ضعيفة بالإرسال إذْ رواها عن بعض أصحابنا، وكذا رواية الكناني فإنّها ضعيفة به، حيث لم يُذكر له توثيق.

وقد تسأل: بعد اتضاح ما تقدَّم من الوجوه فإنَّ فرض عدم تمامية الوجه الأوَّل وكذا الوجوه الخمسة الأخيرة من المرجّحات العلاجية الخبرية الخارجية للمتعارضين وغيرها مما ذكر بين طيّات الوجوه، فإنْ تمَّ الوجه الثاني فبها، وإلّا فما هو الموقف؟

والجواب: هو أنّ المناسب - كما هو المعروف بين الفقهاء - بعد عدم إمكان الجمع العرفي ولم يمكن أيضاً إعمال المرجّحات هو الحكم بالتساقط وعدم شمول أدلة الحجيّة لكلٍّ من الطرفين، وعندئذ إنْ وجد أصل لفظي وعموم فوقاني - كالإطلاق أو العموم - كان هو المرجع(1), وإنْ فُقد فيكون الأصل العملي هو المرجع، وفي المسألة لا يوجد عموم فوقاني فيُرجَع إلى الأصل.

ص: 144


1- العام الفوقاني الذي يُرجَع إليه بعد التساقط للمتعارضين يشترط فيه أنْ لا يصلح كونه طرفاً للمعارضة في المرتبة الأولى، وإلّا إذا كان ضمن إحدى الطائفتين فيكون طرفاً في المعارضة وبالتالي هو ساقط، وفي مقامنا إنْ فرض استحكام التعارض وعدم المرجّح تصل النوبة إلى التساقط وحيث لا يوجد مرجع عام فوقاني اجتهادي يُرجَع إليه تصل النوبة إلى الأصل الجاري في المقام، وهو أصالة الطهارة في نفس الخمر أو في ملاقيه - إن لم تكن للملاقي حالة سابقة وإلّا جرى الاستصحاب - وتكون النتيجة هي نفس نتيجة الوجه الثاني - إنْ تمَّ - الذي هو الجمع العرفي، ولكن هذا كلّه بحسب الصناعة العلمية.

فكرة التصنيف إلى الرتب

اشارة

هذا، ولكنّ السيد الشهيد (رحمة الله) ذكر في المقام(1) أنَّ الفقهاء (دأبوا.. حينما توجد طائفتان متعارضتان في مسألة بدون جمع أو مرجّح على إيقاع التعارض والتساقط بينها جميعاً دون تصنيف لروايات كلٍّ من الطائفتين من ناحية درجة دلالتها على الحكم..).

واختار (رحمة الله) أنَّ المناسب ملاحظة أنحاء الدلالة في كل من الطائفتين فنُسقط الصريح مع الصريح من الطرف الآخر، وهكذا الحال بالنسبة إلى الظهور..، فإنْ تساوت الروايات والدلالات فيصحّ كلام المشهور من الفقهاء، ويُرجَع ويُنتقَل إلى العموم الفوقاني إنْ وجد، وإلا فالأصل العملي، ولكن عند الاختلاف فالمناسب جعل ما يبقى من رتبة في الدلالة في إحدى الطائفتين هو المرجع، وإنْ لم يكن عموماً فوقانياً فلا يُشترَط في المرجع أنْ يكون عموماً فوقانياً.

ثم طَبَّق (رحمة الله) هذه الفكرة على روايات الطائفتين، فصنّف روايات النجاسة إلى مراتب أربع، وأخبار الطهارة إلى مرتبتين أو ثلاث:

فالمرتبة الأولى

ما يكون كالصريح في النجاسة، ومَثَّل له برواية عمّار (لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرّات)، ويقابلها ويماثلها ما يدل بالصراحة العرفية على الطهارة كرواية ابن رئاب وابن أبي سارة، فتسقط هذه المرتبة الأولى في كلا الطرفين.

والمرتبة الثانية

ما كان ظاهراً في النجاسة - مع إمكان الحمل على التنزّه عرفاً في مقام الجمع - كالروايات المشتملة على مجرد الأمر بالغسل، ويماثلها رواية علي بن جعفر الواردة في الصلاة في مكان رشّ بالخمر إذا لم يوجد غيره - إنْ قلنا بأنَّ دلالتها من خلال ظهور نفي البأس في نفي النجاسة فإنها عندئذ ستكون مرتبة - فيتساقطان.

ص: 145


1- لاحظ بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/352 وما بعدها، وكذلك ذكر (رحمة الله) فكرة التصنيف إلى الرتب في مسائل أخرى كمسألة انفصال الماء الراكد.

والمرتبة الثالثة

ما يدلّ على النجاسة بالإطلاق(1) ومقدّمات الحكمة، وهو أضعف من سابقيه، وذلك من قبيل ما اشتمل على التنزيل الذي يشمل إطلاقه النجاسة، ويماثلها ما دلّ على طهارة الخمر بالإطلاق كرواية علي بن جعفر الواردة في ماء المطر الذي أصابه الخمر، ورواية ابن بكير الواردة في مطلق المسكر، ورواية علي بن جعفر الواردة في الصلاة في مكان رُشّ بالخمر إذا لم يوجد غيره - إنْ قلنا بأنَّ دلالتها على الطهارة بلحاظ إطلاق الترخيص فيها لفرض سعة الوقت أو إمكان التجفيف كان حالها حال روايته في ماء المطر - فيتساقطان.

والمرتبة الرابعة

ما كان دالاً على النجاسة بالإمضاء السكوتي(2) عمّا كشف عنه سؤال السائل من ارتكاز نجاسة الخمر في ذهنه، وهذه المرتبة ينتهي الأمر إليها فتكون بمثابة العموم الفوقاني، لعدم سقوطها بالمعارضة مع أخبار الطهارة بسبب عدم صلاحيتها لمعارضة أخبار الطهارة، وبذلك تثبت نجاسة الخمر(3).

فإذاً هو (رحمة الله) بإعمال هذه الفكرة توصَّل إلى الحكم بالنجاسة بمقتضى الصناعة - نجاسة صناعية -.

وبتطبيقه (رحمة الله) لهذه الفكرة التي ذكرها انتهى إلى نجاسة الخمر على وفق الصناعة، ولم تصل النوبة إلى الأصل العملي والحكم بالطهارة عند عدم وجود المرجّح كما هو المعروف بين الفقهاء الذين لا يقولون بتصنيف دلالات الروايات إلى رتب.

والنكتة عنده (رحمة الله) أنَّ الفقهاء في مثل الدليلين الخاصّين المتعارضين يحكمون بالتساقط

ص: 146


1- كمعتبرة الحلبي، الوسائل: 25/345/ب2/ح4.
2- كمعتبرة عبد الله بن سنان، الوسائل: 3/521/ب74 من أبواب النجاسات ح1.
3- إذاً على فكرة السيد الشهيد (رحمة الله) ستتغير نتائج فقهيّة عندما تكون هناك روايات مختلفة الدلالة والرتب خلافاً لنتائج المشهور.

ويرجعون إلى العامّ الفوقاني، فالعامّ لا يدخل في المعارضة بنكتة أنَّ العامّ لا يصلح لمعارضة الخاصّ، وعدم دخول العامّ في المعارضة تجري أيضاً عندما تكون الدلالات مختلفة في الطائفتين، فبعد تساقط كل دلالة - كالصراحة ونحوها - مع ما يماثلها ويبقى نحوٌ من الدلالة لا معارض ولا مماثل له فلا يسقط فيرجع إليه، وإنْ كان ليس بعامّ وكان ضعيف الدلالة - فهو ليس صريح ولا ظاهر ولا عام ولا خاص - ولكنه على أي حال يكون مرجعاً.

فلاحظ كلامه (رحمة الله) في المقام(1) لتطّلع على ما تقدَّم.

وكذلك لاحظ كلامه (رحمة الله) في مسألة انفعال الماء الراكد القليل، وممّا قاله فيها: (.. وسوف يظهر لذلك آثار عديدة في مسائل مستقبلة من قبيل مسألة نجاسة الخمر والمسكر على ما سوف نحققّه في موضعه إنْ شاء الله تعالى، فعلى سبيل المثال: إذا ورد أنَّ الخمر طاهر، وورد أنَّ الخمر نجس، وورد الأمر بغسل الثوب الذي أصابه الخمر، فلا يقع التعارض في رتبة واحدة بين الأوَّل والأخيرين، بل بين الأوَّلين خاصّة، ويكون الثالث مرجعاً بعد تساقطهما)(2).

إذاً هو (رحمة الله) ذكر أنَّ نكتة الحكم بالتساقط في الدليلين الخاصّين المتعارضين، ثمَّ

ص: 147


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/ 352- 354. ولا يخفى أنَّه وقع كلامٌ في وجه تقديم ظهور الخاصّ على العامّ في باب الخاصّ والعامّ من أصول الفقه، فهل هو بملاك القرينية أو الأظهرية؟ وعلى الأوَّل يكون الخاصّ بنظر العرف والعقلاء معد للقرينية دون العكس، ومن المعلوم أنَّ الطريق المتّبع عند الشارع في باب الألفاظ هو الطريق والأسلوب المتّبع لدى العرف والعقلاء في هذا الباب، وليس للشارع طريق وأسلوب جديد فيه يختلف عن طريقتهم، فيُقدّم الخاصّ على هذا حتى وإنْ كان أضعف منه دلالة بلا فرق في ذلك بين أنْ يكون الخاص متّصلاً أو منفصلاً، وعلى الثاني: الخاصّ يتقدّم حيث إنَّه أظهر وأقوى من العامّ فيتقدَّم عليه لقاعدة حمل الظاهر على الأظهر.
2- بحوث في شرح العروة الوثقى: 1/ 391 - 392 في مسألة انفعال الماء الراكد القليل.

الرجوع إلى العام الفوقاني هي أنَّ الخاصّ المخالف في الحكم للعام بمثابة القرينة، والعام بمثابة ذي القرينة، فالعامّ لا يدخل في المعارضة، وهذه النكتة تجري عند وجود دلالات ورتب مختلفة، فما يبقى بعد تساقط كلّ دلالة مع ما يماثلها من الطرف الآخر المعارض يكون بمثابة ذي القرينة وإنْ كان ضعيف الدلالة ومتأخراً، ويكون الأقوى دلالة المخالف في الحكم بمثابة القرينة، وذو القرينة لا يعارض القرينة بل يكون مرجعاً بعد تساقط الأقوى من كلّ طرف مع الأقوى من الطرف الآخر، فإذاً هو (رحمة الله) بنى على تعميم فكرة الرجوع إلى العامّ الفوقاني عند تعارض الخاصّين إلى كلّ ظاهر وإنّ كان هو الأضعف دلالة وإنْ لم يكن عامّاً. أمَّا المشهور فالمعروف عندهم أنَّ المرجع يكون عاماً فوقانياً.

ويمكن أنْ يلاحظ على ما ذكره (رحمة الله) من فكرة التصنيف إلى الرتب:

أ- إنَّ ما ذكره (رحمة الله) في التساقط هو أسلوب تدقيقي في التعامل مع الألفاظ والروايات والمحاورات وليس أسلوباً عرفياً استظهارياً مراعى عند أهل العرف يتعاملون به، والرواية ذات الدلالة الضعيفة لا تكون عرفاً مرجعاً بعد أنْ سقطت الرواية الأقوى دلالة التي كانت معها في نفس الطائفة - مع الأقوى في الطائفة الأخرى - إلاّ مع الجزم بأنَّ السيرة العقلائية - التي هي العمدة لحجيّة الظهور والصدور - تسقط فقط الظهورين القوييّن المتعارضين وتعزل الظهور الضعيف المتبقي لوحده وتأخذ به وتعمل به(1).

ب- إنَّه (رحمة الله) ذكر أنَّ نكتة المشهور في الرجوع إلى العامّ وعدم إدخاله في تعارض

ص: 148


1- وأمَّا إذا كان دليل الحجيّة لفظياً فلا يشمل أيّ طرف سواء عامّاً أو خاصّاً للعلم بكذب أحدهما وهو غير معيّن. هذا بغض النظر عن وجود مناقشات صغروية أو عدم وجودها فيما استدل به (رحمة الله) من نوع دلالة للروايات وأنَّها صريحة فلعلَّه يُناقش في الصراحة أو الظهور.

الخاصّين هي أنَّ العامّ يمثّل ذا القرينة بينما الخاصّان يمثّلان القرينة، وذو القرينة لا يعارض القرينة، وهذه النكتة بنى عليها في الفكرة المذكورة، ولكن يمكن أنْ يقال لعلَّ نكتة المشهور في عدم إدخاله العامّ في المعارضة بين الخاصّين هي ليست ما ذكر وإنَّما هي ملاحظة الموضوع، وبما أنَّ موضوع العامّ أوسع فلا يدخل في المعارضة، وأمّا الخاصّان فبما أنَّ موضوعهما واحد ولا يختلف سعة وضيقاً فجميع الدلالات تدخل في المعارضة بلا استثناء ويحكم بالتساقط والرجوع إلى الأصل.

فإذاً لعلَّ النكتة هي سعة موضوع العامّ فلا يدخل في المعارضة، وبالتالي لا تتمّ فكرة التصنيف إلى الرتب.

إلى هنا اتضح عدم تماميّة ما ذكره السيد الشهيد (رحمة الله)، وكذلك عدم تماميّة الوجه الأوَّل ولا الوجوه الخمسة الأخيرة، فإنْ تمَّ الوجه الثاني فهو، وإلّا فبعد عدم وجود عموم فوقاني يصلح كمرجع تصل النوبة إلى الأصل العملي.

وكيفما كان لا يترك الاحتياط بالعمل بما هو المشهور شهرة عظيمة بين الفقهاء من الحكم بنجاسة الخمر.

والحمد لله ربّ العالمين, والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

* * *

ص: 149

أبرز المصادر

1. القرآن الكريم.

2. بحوث في شرح العروة الوثقى، السيد محمد باقر الصدر (رحمة الله)، مطبعة الآداب.

3. تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي (رحمة الله)، دار الكتب الإسلامية.

4. جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي (رحمة الله)، دار الكتب الإسلامية.

5. الحدائق الناضرة، المحدّث البحراني (رحمة الله)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

6. رجال النجاشي، الشيخ النجاشي (رحمة الله)، مؤسسة النشر الإسلامي.

7. الصحاح، الجوهري، دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة.

8. الفهرست، الشيخ الطوسي (رحمة الله)، مؤسسة نشر الفقاهة، الطبعة الثانية.

9. الفقه الاستدلالي، الشيخ الإيرواني (دامت افاداته)، الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1433ﻫ - 2012م.

10. مختلف الشيعة، العلّامة الحلّي (رحمة الله)، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى.

11. مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الحكيم (رحمة الله)، مطبعة الآداب 1391ﻫ.

12. مستند الشيعة، المولى أحمد النراقي (رحمة الله)، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث 1415ﻫ.

13. معجم رجال الحديث، السيد أبو القاسم الخوئي (رحمة الله)، الطبعة الخامسة 1992م.

14. مدارك الأحكام، السيد محمد العاملي (رحمة الله)، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث 1410ﻫ.

ص: 150

15. موسوعة الإمام الخوئي، السيد أبو القاسم الخوئي (رحمة الله)، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، الطبعة الثانية.

16. المفردات، للراغب الأصفهاني.

17. الكافي، الشيخ الكليني (رحمة الله)، دار الكتب الإسلامية، تحقيق: علي أكبر الغفاري.

18. وسائل الشيعة، الحر العاملي (رحمة الله)، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الثانية.

19. لسان العرب، لابن منظور، نشر أدب الحوزة، 1405ﻫ.

ص: 151

ص: 152

حجيَّة الاطمئنان (القسم الثاني) - الشيخ أمجد رياض (دام عزه)

اشارة

الاطمئنان لغةً واصطلاحاً، وعلاقته مع الوثوق والعلم العادي، والكلام في حجيَّته، وأقسامه، وأنواع متعلّقه، ومستوياته، وعلاقته مع بقيَّة الحجج والأمارات والأصول، وغير ذلك من المباحث هي المواضيع التي تناولها هذا البحث. مضافاً إلى بحوث أخرى كان لا بدَّ من التطرّق لها ممّا لم يستوعبها بحث آخر. وكانت الخطة التي سلكها الباحث هي استيفاء جميع الوجوه والكلمات التي تتناول الموضوع من أجل أنْ يسهل على الباحثين الوصول إلى النتيجة، فهو مصدر غني بجميع الأدوات المساعدة على الاختيار الصحيح في حجيَّة الاطمئنان وآثاره.

ص: 153

ص: 154

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيد المرسلين خير الخلق أجمعين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين, واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

انتهى الكلام في القسم الأوَّل من البحث إلى ما ذُكر من الروادع الواردة على نحو العموم، ونبتدأ في هذا القسم الثاني بإذنه تعالى بما ورد من الروايات ممّا يستفاد منه الردع عن العمل بالاطمئنان في بعض الموارد الخاصَّة، ومن ثمَّ يتمّ الكلام في بقيَّة الأدلَّة التي سيقت على حجيَّة الاطمئنان مذيَّلاً بخاتمة تشتمل على عدَّة تنبيهات نذكر فيها أقسام الاطمئنان ومستوياته والموارد التي استثناها الأعلام من حجيَّته.

أمَّا ما ورد في بعض الموارد الخاصَّة فهو جملة من الروايات يستفاد منها الردع في موارد محددة بعينها، ولكن لمّا لم يكن لهذه الموارد ما يقتضي الخصوصيَّة لها أمكن استفادة الردع عن أصل السيرة المدّعاة سواء في الموارد المحددة أو غيرها، وهو المطلوب.

وقد نبَّه أستاذنا السيد الحكيم (مدظله) على ذلك قائلاً: (النصوص الخاصَّة الظاهرة في عدم حجيَّة الاطمئنان بخصوصه كالنصوص المتضمّنة للبناء على الطهارة بالتنبيه لاحتمالات بعيدة.

مثل قوله (علیه السلام) في موثّق عمّار في مَن وجد في إنائه فأرة وقد استعمل ماءه: (وإنْ كان إنَّما رآها بعدما فرغ من ذلك وفعله فلا يمسّ من ذلك الماء شيئاً, وليس عليه شيء؛ لأنَّه لا يعلم متى سقطت فيه). ثمَّ قال: (لعلَّه أنْ يكون إنّما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها).

وقوله (علیه السلام) في صحيح زرارة في مَن رأى في ثوبه دماً أو منيّاً في أثناء الصلاة: (تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإنْ لم تشك ثم رأيته رطباً

ص: 155

قطعت وغسلته ثم بنيت على الصلاة، لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك). بل الاقتصار على التنبيه للاحتمال الضعيف مشعر أو ظاهر في المفروغية عن الاكتفاء به في الرجوع للأصل.

وفي صحيح عبد الرحمن بن الحجاج سألت أبا إبراهيم (علیه السلام) عن رجل يبول بالليل فيحسب أنَّ البول أصابه فلا يستيقن فهل يجزيه أنْ يصبَّ على ذكره الماء ولا يستنشف؟ قال: (يغسل ما استبان أنَّه قد أصابه, وينضح ما يشكّ فيه من جسده وثيابه, ويتنشف قبل أنْ يتوضأ). فإنَّ الاطمئنان داخل في الحسبان في مورد الحديث إنْ لم يكن متيقناً منه، فالحكم بعدم وجوب الغسل في غير مورد الاستبانة ظاهر في عدم حجيَّة الاطمئنان.

ومثلها ما يظهر منه التأكيد على اليقين كصحيح محمَّد بن مسلم عن أحدهما (علیه السلام) في الذي يذكر أنه لم يكبّر في أول صلاته، فقال: (إذا استيقن أنَّه لم يكبّر فليعد. ولكن كيف يستيقن؟!).

وصحيح زرارة وبكير عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (إذا استيقن أنَّه قد زاد في الصلاة المكتوبة ركعة لم يعتد بها, واستقبل الصلاة استقبالاً إذا كان قد استيقن يقيناً).

وصحيح محمَّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن رجل استيقن بعد ما صلى الظهر أنَّه صلى خمساً. قال: (وكيف استيقن؟). قلت: علم..).

بل ملاحظة النصوص الواردة في الجري على أصالة الطهارة وأصالة الحل قد توجب القطع بالعموم لصورة الاطمئنان بالخلاف.

كما أنَّه لو كان المدعى الخروج بالاطمئنان عن الأمارات كيَد المسلم التي هي أمارة على التذكية ومطلق اليد التي هي أمارة على الملكية فالنصوص الواردة فيها والسيرة قد تأبى ذلك، كما يظهر بملاحظة كثرة الابتلاء بخطئها.

وقد يُستأنس لما ذكرنا بما دلّ على لزوم الاحتياط في الشهادة مثل ما عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنَّه

ص: 156

قال: (هل ترى الشمس، على مثلها فاشهد أو دع). وما عن الصادق (علیه السلام): (لا تشهدن بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك)) (1).

وقد تصدى بعض أساتيذنا (دامت برکاته) للجواب عما ذكر بأنَّه قد يلاحظ على هذا الاستئناس الفارق بين باب الشهادة وباب الحجية، إذ المطلوب في الشهادة الاطلاع عن حسّ أو ما هو بمنزلته كما فصّل في محلّه وليس الأمر كذلك في الحجيّة.

وأما ما عدا هذا الاستئناس فقد أورد عليه..

(أوَّلاً: بأنّه يمكن الالتزام بخصوصية الموارد المذكورة من قبيل الشك في الفراغ والتجاوز، فإنّه يكتفى بالاحتمال الضعيف في البناء على الصحة، ولو كان ذلك لحكمة دفع الوسوسة، وكذلك في باب النجاسات حيث يبنى على الطهارة حتى من الاطمئنان بالنجاسة، ومثله البناء على الحلية فإن احتمالها يكفي في البناء عليها حتى مع الاطمئنان بالحرمة. ولا غرابة في ذلك بعد ما دلت عليه النصوص في هذه الأبواب الثلاثة دون غيرها، فتأمل.

وثانياً: بأنَّ في دلالة هذه الأخبار على عدم حجيَّة الاطمئنان تأمل)(2).

وقد صنّف لأجل ذلك هذه الروايات إلى طائفتين وأجاب عنها..

الطائفة الأولى: ما يظهر منه التأكيد على اليقين

اشارة

وهي على أقسام..

القسم الأوَّل

موارد الشك في الفراغ والتجاوز كصحيح محمَّد بن مسلم عن أحدهما (علیهما السلام) في الذي يذكر أنّه لم يكبّر في أوَّل صلاته. فقال: (إذا استيقن أنّه لم يكبّر فليعد، ولكن كيف يستيقن؟!)(3).

ص: 157


1- المحكم في أصول الفقه: 3/357- 359.
2- مباحث الأصول العملية: بحث الشبهة غير المحصورة (مخطوط).
3- تهذيب الأحكام: 2/143.

وصحيح زرارة وبكير عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (إذا استيقن أنَّه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتد بها, واستقبل صلاته استقبالاً إذا كان قد استيقن يقيناً)(1).

وصحيح محمَّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن رجل استيقن بعد ما صلى الظهر أنَّه صلى خمساً. قال: (وكيف استيقن؟)(2)

قلت: علم...

وغير ذلك من الروايات الكثيرة.

قال (دامت برکاته): (ولكن في تمامية هذا الكلام تأمل، فإنّه قد يكون التركيز على اليقين في المورد بلحاظ أنّه إنْ لم يحصل اليقين فيه فالمفروض أنْ لا يحصل الاطمئنان بذلك، بل المتوقع حصول الظن بالإتيان به، لأنَّ الإنسان معتاد على الصلاة، ومن ثم يكون الذهن مبرمجاً على إصدار أوامر معينة بحسب تلك العادة، فإذا لم يستيقن بعدم الإتيان بشيء فمقتضى العادة الإتيان به والمفروض حينئذٍ أنْ يحتمل أو يظن بذلك، وهذا يظهر بملاحظة الأحاديث الواردة في الشك بعد التجاوز والفراغ.

ففي معتبرة الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) أستتم قائماً فلا أدري ركعت أم لا. قال: (بلى قد ركعت فامضِ في صلاتك وإنّما ذلك من الشيطان)(3).

وفي معتبرة عبيد الله بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سألته عن رجل نسي أنْ يكبّر حتى دخل في الصلاة. قال: (أليس كان من نيّته أنْ يكبّر؟) قلت: نعم. قال: (فليمضِ في صلاته)(4).

ص: 158


1- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: 8/231.
2- تهذيب الأحكام:2/194.
3- تهذيب الأحكام: 2/151.
4- تهذيب الأحكام: 2/144.

وفي رواية الفضل بن عبد الملك أو ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: في الرجل يصلي فلم يفتتح بالتكبير هل تجزئه تكبيرة الركوع؟ قال: (لا، بل يعيد صلاته إذا حفظ أنّه لم يكبّر)(1).

وكأن الباعث إلى ذلك إبعاد المكلَّفين عن حصول الوسوسة في هذا الشأن، ففي معتبرة زرارة وأبي بصير جميعاً عنه قالا: قلنا له: الرجل يشك كثيراً في صلاته حتى لا يدري كم صلى ولا ما بقي عليه؟ قال: (يعيد). قلنا: فإنه يكثر عليه ذلك, كلما أعاد شكّ. قال: (يمضي في شكّه) ثم قال: (لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه، فإنَّ الشيطان خبيث يعتاد لما عوِّد, فليمضِ أحدكم في الوهم, ولا يكثرنّ نقض الصلاة، فإنه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك). قال زرارة: ثمَّ قال: (إنّما يريد الخبيث أنْ يطاع فإذا عصي لم يعد إلى أحدكم)(2).

وفي رواية أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إنَّ عيسى بن أعين يشك في الصلاة فيعيدها. قال: (وهل يشك في الزكاة فيعطيها مرتين)(3).

إذاً يظهر من تأمل مجموع الروايات التي أشرنا إليها أنَّ التركيز على اليقين في المورد إنّما كان بالنظر إلى أنّه في حال عدم حصول اليقين في مثل هذا المورد, فالمفروض عدم حصول الاطمئنان أيضاً، بل وجود الأمارة الغالبة وهي العادة تقتضي البناء أو احتمال لا أقل صدور العمل من الإنسان)(4).

ص: 159


1- الكافي: 3/347.
2- الكافي: 3/358.
3- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: 8/248.
4- مباحث الأصول العملية: بحث الشبهة غير المحصورة (مخطوط).

القسم الثاني: ما ورد في موارد اليقين بالوقت...

فقد روي عن عبد الله بن عجلان أنَّه قال: قال أبو جعفر (علیه السلام): (إذا كنت شاكاً في

الزوال فصلِّ ركعتين، فإذا استيقنت فابدأ بالفريضة)(1).

وقد أجاب عنها بعض أساتيذنا (دامت برکاته) قائلاً: (الظاهر أنّ هذا القسم من الروايات ناظر إلى ما كان قد يتفق من بعض الناس من الاستعجال في الصلاة والإتيان بها بمجرد الظن الذي لم يكن منشؤه إلّا العجلة دون الاطمئنان، فإنَّ مَن لم يحصل له اليقين بالوقت لا موجب لحصول الاطمئنان له.

ففي رواية إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد الله (علیه السلام) في حديث قال: (وإياك أنْ تصلي - أي الجمعة - قبل الزوال، فوالله ما أبالي بعد العصر صليتها أو قبل الزوال)(2).

وفي رواية سماعة بن مهران قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): (إياك أنْ تصلي قبل أنْ تزول, فإنّك تصلي في وقت العصر خير لك أنْ تصلي قبل أنْ تزول)(3).

والملاحظ أنّه في هذا الموضوع يجوز الاعتماد على الاطمئنان الحاصل من بعض الأمارات كما استظهره بعض الفقهاء، فعن سماعة قال: سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم ترَ الشمس ولا القمر. فقال: (تعرف هذه الطيور التي عندكم بالعراق يقال لها: الديكة؟) قال: نعم. قال: (إذا ارتفعت أصواتها وتجاوبت فقد زالت الشمس) أو قال: (فصلِّه)(4).

وفي عدَّة روايات الترغيب في الاعتماد على الأذان كما في رواية محمَّد بن خالد

ص: 160


1- الكافي: 3/428.
2- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: 7/319.
3- تهذيب الأحكام: 2/141.
4- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: 3/124.

القسري قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): أخاف أنْ نصلي يوم الجمعة قبل أنْ تزول الشمس. فقال: (إنّما ذاك على المؤذنين)(1)، حيث حمله غير واحد من الفقهاء على أنَّ أذان المؤذنين يستوجب الوثوق عادة.

والذي ينقدح من ذلك أنَّ التركيز على اليقين في هذا القسم وسابقه إنّما كان في مقابل الظنون التي تحصل للإنسان, فيميل إلى البناء عليها من جهة الاحتياط والاهتمام أو الاستعجال أو مبادئ الوسوسة والشرود الذهني أو نحو ذلك، ومن ثمّ أراد الإمام (علیه السلام) من إناطة الأمر باليقين أنْ ينهى عن الاعتماد على هذه الظنون دون الاطمئنان الناشئ من المبادئ العقلائية)(2).

القسم الثالث: ما ورد في الشك في الطهارة الحدثية..

كما في رواية بكير قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): (إذا استيقنت أنَّك قد أحدثت فتوضأ، وإياك أنْ تحدث وضوءاً أبداً حتى تستيقن أنَّك قد أحدثت)(3).

وقد علَّق بعض أساتيذنا (دامت برکاته) عليها قائلاً: (إنَّ هذه الروايات ناظرة إلى الردع عن الاعتناء بمجرد الاحتمال أو الظن أو الاطمئنان الناشئ عن الرغبة في الاحتياط أو الوسوسة كما ورد في جملة من الروايات عند الشك في خروج الريح، فالمراد بمثل هذه الروايات ترشيد إدراكات الناس وصيانتهم عن الابتلاء بالوساوس الموجبة في حال تناميها إلى حدوث أحاسيس كاذبة، توجساً ممّا يؤدي إلى حصول القطع فضلاً عن الاطمئنان)(4).

ص: 161


1- تهذيب الأحكام: 2/285.
2- مباحث الأصول العملية: بحث الشبهة غير المحصورة (مخطوط).
3- الكافي: 3/33.
4- مباحث الأصول العملية: بحث الشبهة غير المحصورة (مخطوط).

القسم الرابع: ما ورد في الطهارة الخبثية..

فقد ورد في رواية عبد الله بن سنان قال: سأل أبي أبا عبد الله (علیه السلام) وأنا حاضر: إنّي أعير الذميّ ثوبي, وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرد عليّ، فأغسله قبل أنْ أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (علیه السلام): (صلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إياه وهو طاهر, ولم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أنْ تصلّي فيه حتى تستيقن أنّه نجّسه)(1).

فيقال: إنّ المورد مظنّة لحصول الوثوق بالنجاسة من ناحية أمارة عقلائية من خلال استعمال الذمي لهذا الثوب, والمفروض عدم اجتنابه للنجاسات مثل الخمر ولحم الخنزير فلا غرو أنْ حصل الاطمئنان بطرو النجاسة عليه، ولكن مع ذلك فإنَّ الإمام (علیه السلام) جعل الغاية اليقين دون الوثوق والاطمئنان.

وفي معتبرة زرارة - المعدودة في روايات الاستصحاب - التركيز أيضاً على اليقين عن حريز عن زرارة قال: قلت: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني.. فإنْ ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أرَ شيئاً ثمّ صليت فرأيت فيه. قال: (تغسله ولا تعيد الصلاة). قلت: لِمَ ذلك؟ قال: (لأنَك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك أنْ تنقض اليقين بالشك أبداً).. قلت: فهل عليَّ إنْ شككت في أنَّه أصابه شيء أنْ أنظر فيه؟ قال: (لا, ولكنّك إنّما تريد أنْ تذهب الشك الذي وقع في نفسك)(2).

فيقال فيه أيضاً: إنّ قول زرارة: (فإنْ ظننت) يشمل الاطمئنان، إذْ المراد به ما عدا اليقين، ومورد السؤال مظنّة لحصول الاطمئنان كثيراً لوجود الأمارة الموجبة للاطمئنان

ص: 162


1- تهذيب الأحكام: 2/361.
2- تهذيب الأحكام: 1/421.

عقلاءً، من جهة شدَّة تفرّق دم الرعاف مثلاً أو رقة الثوب الملاصق الذي أجنب الرجل فيه فيسري إلى الثوب الثاني، فإنّ هذه الأمارات الموجبة للظن بنفسها قد توجب الاطمئنان بحسب اختلاف الأحوال، ومع ذلك فإنّ مقتضى الجواب في الرواية أنّ المكلَّف ما لم يحصل له اليقين كان له أنْ يبني على عدم الإصابة، ومن ثمّ لا تجب الإعادة عليه.

وفي معتبرة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا إبراهيم (علیه السلام) عن رجل يبول بالليل فيحسب أنَّ البول أصابه فلا يستيقن، فهل يجزيه أنْ يصبّ على ذكره إذا بال ولا يستنشف؟ قال: (يغسل ما استبان أنّه قد أصابه وينضح ما يشك فيه من جسده أو ثيابه ويتنشف قبل أنْ يتوضأ)(1).

والشاهد قوله في السؤال: (يحسب.. فلا يستيقن)، فإنّ مفاده أنّه يظن إصابة البول إياه ولكن لا يبلغ درجة اليقين، فالحسبان فيه ظاهرٌ ظهوراً قوياً في شمول الاطمئنان، وقد اقتصر الإمام على أمره بغسل (ما استبان أنّه قد أصابه) ممّا يقتضي عدم حجيَّة الاطمئنان.

وفي معتبرة علي بن مهزيار قال: كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره أنّه بال في ظلمة الليل, وأنّه أصاب كفه برد نقطة من البول لم يشك أنّه أصابه ولم يره، وأنّه مسحه بخرقة ثمَّ نسي أنْ يغسله، وتمسّح بدهن فمسح به كفيه ووجهه ورأسه، ثم توضّأ وضوء الصلاة فصلّى. فأجابه بجواب قرأته بخطه: (أمّا ما توهمت ممّا أصاب يدك فليس بشيء إلّا ما تحقق، فإنْ حققت ذلك كنت حقيقاً أنْ تعيد الصلاة التي كنت صليتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها، وما فات وقتها فلا إعادة عليك لها: من قبل أنَّ الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة إلّا ما كان في وقت، وإذا كان جنباً أو صلّى على غير وضوء فعليه إعادة الصلوات المكتوبات التي فاتته؛ لأنّ الثوب خلاف الجسد،

ص: 163


1- تهذيب الأحكام: 1/421.

فاعمل على ذلك إنْ شاء الله تعالى)(1).

والملاحَظ في مورد هذه الرواية أنَّ المورد مظنّة للاطمئنان عادة، لإحساسه بنقطة من البول، لا سيما أنّه لم يشك في حينه, بل وفي ما بعده أيضاً بحسب الظاهر.

قال بعض أساتيذنا (دامت برکاته) في الجواب عن هذا القسم من الروايات: (ولكن يمكن القول في ذلك بمثل ما سبق بأنّ الإمام (علیه السلام) كان في مثل ذلك في صدد التركيز على اليقين في مقام الإرشاد إلى عدم الاعتماد على الاعتقاد الحاصل على أساس غير محكم ممّا يكون من قبيل مجرد التظنّي الذي يقوى وقعه في النفس من جهة الاحتياط، ذلك أنَّ الإنسان عندما يريد أنْ يتطهّر في ظلمة الليل يحدث منه إيعاز مركز للقوة اللامسة لكي ترصد ما عسى أنْ يصيب البدن من النجاسة، وهذا الإيعاز المؤكد يوجب أحياناً دخول الإنسان في الوهم فيحس بإصابة قطرات من البول، ومثل هذا يحصل كثيراً في الاستهلال عندما يكون الهلال ضعيفاً فيعطي الإنسان إيعازاً مؤكداً للبصر لرصد الهلال وغالباً نتيجة لهذه الإيعازات المؤكدة يتوهم الإنسان رؤيته.

فالمقصود بالرواية تنبيهه على وجود مثل هذا الاحتمال لإيجاد الشك في نفسه ورفع العناء عنه، ومن المعلوم أنَّ هذا الاحتمال لو كان موجوداً فلا يحصل الاطمئنان عادة، بل قد يقال: إنَّه مع الالتفات إلى هذا الاحتمال لا سبيل إلى حصول العلم في المورد, بل أقصاه الاطمئنان، ومعه يكون قوله (علیه السلام): (إلّا ما تحقق) إشارة إلى تحقق الاطمئنان مثلاً.

ومن خلال مجموع ذلك يظهر أنَّ هذه الروايات لا تفيد إلغاء الاطمئنان, وإنّما يستفاد منها التركيز على اليقين في مقابل التظني الذي ينشأ من أسس غير محكمة وغير عقلائية ممّا إذا نبَّه عليها الإنسان تنبّه، وسيأتي ما ينبّه على هذا المعنى.

ص: 164


1- تهذيب الأحكام: 1/426-427.

وإنْ شئت قلت: إنَّ المستظهر من الطائفة الواردة في التركيز على اليقين أنَّه إنّما كان بعناية التركيز على أساس محكم يستوجب الوثوق, وليس على أساس ضميمة العوامل النفسية من قبيل المسامحة التي تؤدي إلى البناء على دخول الوقت أو من الاحتياط أو من إعطاء الإيعاز المؤكد إلى الحاسة المعيّنة الذي قد يُحدِث الإحساس الكاذب، وعليه فلو تأملنا مع الالتفات إلى الجمع بين هذه الروايات وبين الروايات السابقة التي تقدّمت في الكلام عن حجيَّة الوثوق لم يكن المستفاد من هذه الروايات إلغاء حجيَّة الاطمئنان)(1).

الطائفة الثانية: ما دل على الاعتناء بالاحتمالات البعيدة التي يحصل الاطمئنان عادة بخلافها

وهو عدّة روايات منها:

1 - معتبرة عمار الساباطي في حديث أنّه سأل أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل يجد في إنائه فأرة وقد توضأ من ذلك الإناء مراراً أو اغتسل منه أو غسل ثيابه، وقد كانت الفأرة متسلخة. فقال: (إنْ كان رآها في الإناء قبل أنْ يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثمَّ يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أنْ يغسل ثيابه, ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة، وإنْ كان إنَّما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله فلا يمس من ذلك الماء شيئاً، وليس عليه شيء؛ لأنَّه لا يعلم متى سقطت فيه). ثمَّ قال: (لعلَّه أنْ يكون إنَّما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها)(2).

قال بعض أساتيذنا (دامت برکاته): (ولا يخفى أنَّ هذه الرواية إذا تُلقيت على ما يتراءى في بادئ النظر فالظاهر حصول اليقين في المورد؛ لأنَّ التسلخ إذا كان بموجب طول البقاء في الماء فتكون له آثار مشهودة في الماء كالرائحة الكريهة، فالظاهر وجود احتمال معتدّ به - في مورد الرواية - لوقوع الفأرة المتسلخة في الماء قريباً بفعل طفل مثلاً، لعدم وضوح أثر

ص: 165


1- مباحث الأصول العملية: بحث الشبهة غير المحصورة (مخطوط).
2- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: 1/142.

التسلخ في الماء، على أنه كان يكرّ على هذا الإناء ذهاباً وإياباً وقد توضأ منه مراراً واغتسل منه وغسل ثيابه ثم رأى الفأرة، فعدم الرؤية السابقة يكون موجباً لتقوية هذا الاحتمال.

وقد جاء مثل هذا الفرع(1) فيما لو توضأ رجل من بئر ثم وجد فيها فأرة ولا يدري متى وقع فيها, أنّه إنْ كانت منتفخة أعاد صلاة ثلاثة أيام ولياليها في قول أبي حنيفة احتياطاً، وإن كانت غير منتفخة يعيد صلاة يوم وليلة. وقال أبو يوسف ومحمَّد: ليس عليه أنْ يعيد شيئاً من صلاته ما لم يعلم أنه توضأ منها وهو فيها. والقياس ما قالا؛ لأنَّه على يقين من طهارة البئر في ما مضى وفي شك من نجاسته واليقين لا يزال بالشك، كمن رأى في ثوبه نجاسة لا يدري متى أصابته لا يلزمه إعادة شيء من الصلوات لهذا. وكان أبو يوسف يقول أوَّلاً بقول أبي حنيفة حتى رأى طائراً في منقاره فأرة ميتة وألقاها في بئر فرجع إلى هذا القول وقال: لا يعيد شيئاً من الصلاة بالشك.

ويحتمل أنْ يكون سرّ عرض الراوي الموضوع على الإمام (علیه السلام) بعد جريان العقلاء على العمل بالوثوق هو أنَّه أراد أنْ يعرف أنَّه إذا بنى على احتمال سقوط الفأرة في تلك الساعة فهل هذا الاحتمال يكون من قبيل مغالطة النفس ومعلولاً للهوى أم أنَّه ممّا يعتدّ به عقلاءً، فإنَّ الإنسان قد يقوّي الاحتمال للتسهيل على نفسه)(2).

2 - معتبرة زرارة قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو شيء من مني.. إنْ رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة، قال: (تنقض الصلاة وتعيد، إذا شككت في موضع منه ثمَّ رأيته، وإنْ لم تشك ثم رأيته رطباً قطعت وغسلته ثم بنيت على الصلاة؛ لأنَّك لا تدري لعلَّه شيء أوقع عليك، فليس ينبغي أنْ تنقض اليقين بالشك أبداً).

ص: 166


1- المبسوط (السرخسي): 1/59.
2- مباحث الأصول العملية: بحث الشبهة غير المحصورة (مخطوط).

قال بعض أساتيذنا (دامت برکاته): (وجه الاستدلال بهذه الرواية أنْ يقال: إنَّ احتمالية سقوط دم من السماء على المكلَّف بعيد، خصوصاً أنَّه مسبوق بحالة من الرعاف، بل يحصل الاطمئنان في مثل هذه الحالة عادة بأنَّ الدم الذي على الإنسان إنَّما هو من الرعاف، والاستدلال بهذه الرواية قد يكون أقرب).

ثم علّق عليها قائلاً: (ولكن مع ذلك ينبغي أنْ يلاحظ المحيط الذي كان يعيش فيه الراوي فربما يكون هذا الاحتمال معتدّاً به في الزمان السابق حيث كانت الفضاءات مفتوحة بخلاف الحال في زماننا.

ولعلَّ الإمام (علیه السلام) أراد أنْ يلفت النظر إلى أنَّه ليس هناك مأخذ موضوعي لمثل هذا الوثوق؛ لأنَّه في تلك الظروف قد لا يتنبّه الإنسان لبعض الاحتمالات فإذا نُبِّه عليها ربما زال وثوقه، كما مرّ في حال أبي يوسف)(1).

يضاف إلى ذلك أنَّ بعض من ينكر حجيَّة الاطمئنان يرى أنَّ مثل هذا من قبيل الوسوسة وليس وارداً فيرد الإشكال عليه أيضاً.

3 - رواية مسعدة بن صدقة المعروفة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: سمعته يقول: (كلُّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنَّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة, والمملوك عندك لعلَّه حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة).

فيقال: إنَّ بعض الاحتمالات التي أبداها الإمام (علیه السلام) وتمسَّك على أساسها بأمارات الحلية أو بأصالة الحل ضعيف جداً بحيث يحصل الاطمئنان غالباً بخلافه.

ص: 167


1- مباحث الأصول العملية: بحث الشبهة غير المحصورة (مخطوط).

والجواب عن هذا أنَّ الإمام (علیه السلام) كان يريد أنْ ينبّه على أنَّ الوثوق لا يحصل في جميع الحالات, وليس بصدد بيان أنَّ كلَّ شخص يحتمل في امرأته ذلك، ولكن المقصود التنبيه على وجود مثل هذا الاحتمال في جملة من الحالات).

والمستفاد ممّا ذكره بعض أساتيذنا (دامت برکاته) في الجواب عن تلك الروايات هو أنَّ جميع الموارد الخاصَّة التي استشهد بها على حصول الردع عن السيرة العقلائية المدَّعاة - وبالاستعانة ببقيَّة الروايات في المورد - إنَّما هي في مقام معالجة بعض الجوانب النفسيَّة وأنَّه ينبغي أنْ يكون مستند الإدراكات أموراً عقلائية.

ولكن قد يقال: إنَّ الإنصاف أنَّ بعض المعالجات المذكورة لا يصمد أمام الظهور الذي يستفاد من نفس الرواية كما في رواية الفأرة المتسلخة، لا سيما مع استعمال عبارات من قبيل (اليقين), و(استيقن), و(يستبين) ونحوها.

بل يقال: إنَّه من البعيد جداً التركيز في هذه الروايات على مثل هذه التعابير من غير أنْ تكون مرادة حقيقة، وما ذكر من تفسير لليقين وما يقابله في ما تقدَّم لا ينفع في المقام، إذ بعض ما ورد كان في فروع فقهيَّة لا يأتي فيها التوجيه المذكور.

نعم, يمكن أنْ يقال: إنَّ بعض هذه الروايات لا يستفاد منه إلّا الردع عن العمل بغير العلم واليقين في بعض هذه الموارد بالخصوص دون غيره، وقد تقدَّم أنَّ بعضهم قد بنى على عدم حجيَّة الاطمئنان في باب النجاسات.

الوجه الخامس: سيرة المتشرعة

فإنَّه قد يقال: إنَّ سيرة المسلمين على العمل في أمورهم بما يطمئنون به, ولا يتوقف عملهم على بلوغهم مرتبة اليقين، وهذه السيرة لا تختص بزمان دون زمان, بل هكذا الحال حتى في زمن المعصومين (علیهم السلام).

ومعه قد تنتفي الحاجة إلى مؤونة عدم الردع، إذ سيرة المتشرعة تكون بنفسها كاشفة

ص: 168

عن موقف المعصومين (علیهم السلام).

ولكن من الصعوبة بمكان دعوى وجود سيرة للمتشرعة بما هم متشرعة على البناء على حجيَّة الاطمئنان، فإنَّه لا توجد شواهد كافية على ذلك، أقصى ما يمكن أنْ توجَّه به الأدلة الشرعية أنَّها إمضاء للسيرة العقلائية لا غير.

ولعلَّ هذا هو مراد الفاضل الهندي (قدس سره) عند كلامه عن طرق ثبوت العدالة بقوله: (لحصول العلم العادي بها أو الظن المتاخم له المعتبر شرعاً)(1).

وقد أرجع المحقّق الأصفهاني (قدس سره) سيرة المتشرعة إلى سيرة العقلاء منكراً وجود سيرة لهم بما هم متشرعة، قائلاً: (إلّا ما يدعى من السيرة المستمرة على ترتيب آثار الواقع على ما يوثق به, وبناء العقلاء على المعاملة مع الوثوق والاطمئنان معاملة العلم الحقيقي، والأوَّل راجع في الحقيقة إلى الثاني, حيث لم تعلم سيرة من المتشرعة بما هم كذلك, بل بما هم عقلاء)(2).

الوجه السادس

ما ذهب إليه بعض أساتيذنا (دامت برکاته)، وهو (أنَّه توجد أسباب متفق على اعتبارها وهي لا تفضي إلّا إلى الاطمئنان دون العلم لأنَّها مبنية على تجميع القرائن، وحصول العلم في مورد تجميع القرائن ليس مبنياً على قضية منطقية قبلية - وهي امتناع الصدفة كما يتراءى من المنطق الأرسطي - بل هو يبتني على قانون حساب الاحتمالات.

وتوضيح ذلك: أنَّ أمّ القضايا اليقينية ستَّة - على ما ذكر في المنطق - وهي على قسمين..

الأوَّل: قضايا بديهيّة لا تحتاج إلى قياس ومحاسبة أو قياساتها معها، كالقضايا الأوّليّة والفطريّة, مثل الكل أعظم من الجزء و(1 + 1= 2).

ص: 169


1- كشف اللثام عن قواعد الأحكام: 10/167.
2- الاجتهاد والتقليد: 145.

الثاني: قضايا مبنيّة على حساب الاحتمالات، وهي: المجربات, والمتواترات, والحدسيات.

أما الأوَّلان فابتناؤهما على حساب الاحتمالات واضح، وأما الحدسيات فالحال فيها كذلك، فإنَّها في الحقيقة تستند إلى استبعاد بعض الاحتمالات ولكن على أسس ذكيَّة لا يلتفت إليها الكل.

وكذا الحال في الحسيّات كالحس الخارجي مثل النظر واللمس وما إلى ذلك - على ما ذهب إليه بعض الأعلام في بحوثه الاستقرائية - نظراً إلى أنَّ الحس يقبل الخطأ، كما يرى البصر انكسار القلم الموضوع في إناء في نصفه ماء، ويرى الشيء البعيد صغيراً،.. وهكذا.

وعلى هذا فلا بد من استبعاد الخطأ منطقياً في موارد القضايا المحسوسة على أساس حساب الاحتمالات بمقدار الخطأ الذي يتفق وينكشف، ومن ثمَّ البناء على القضية.

وقد يعدّ من هذا القبيل قسم من قضايا الحس الباطني، فإنَّ بعضها لا يحتاج إلى حساب الاحتمالات لعدم قبول الخطأ مثل الألم واللذة ونحوها، ولكن بعضها الآخر قد يتوقف على ذلك لطرو الخطأ فيه، كما قد يعتقد الإنسان أنَّه يحب زيداً حباً جماً فإذا اختبر في حادثة معينة تبين له الخلاف.

وبناءً عليه فالحاصل في جميع هذه الموارد هو الاطمئنان دون العلم، ومن المعلوم أنه لا سبيل إلى رفع اليد عن حجيَّة الأخبار المتواترة والأمور المجربة والحدسية المبنية على تجميع القرائن)(1).

وصحة هذا الوجه تبتني على مرحلتين..

ص: 170


1- مباحث الأصول العملية: بحث الشبهة غير المحصورة (مخطوط).

الأولى: في تحديد الناتج من الأمور التي هي من قبيل المتواترات، فإنْ بني على أنَّ الناتج هو خصوص العلم لم ينفع هذا الوجه في الاستدلال على حجيَّة الاطمئنان. وكذا لو بني على أنَّ الناتج في بعضها هو العلم.

الثانية: فيما لو بني على أنَّ الناتج منها هو الاطمئنان فلا بد أنْ لا تكون لهذه الأمور خصوصية أوجبت البناء على حجيّتها، فإنَّه مع البناء على كونها حجة بدليل قام عليها بالخصوص لا ينفع ما ذكر في ذلك.

ويمكن أنْ يورد على المرحلة الأولى - كما نبَّه بعض أساتيذنا (دامت برکاته) - بما ذكره السيد الصدر (قدس سره)، حيث بنى على أنَّ الحاصل من هذه الأمور إنَّما هو العلم لا الاطمئنان، قال: (إنَّ تراكم القيم الاحتمالية في محور واحد يؤدي إلى تحوّل القيمة الاحتمالية الكبيرة الناتجة عن ذلك التراكم إلى يقين، وفناء القيمة الاحتمالية الصغيرة المضادة.. وهكذا نعرف أنَّ محوراً معيناً قد يمتص الجزء الأكبر من قيمة علم عن طريق تجمّع القيم الاحتمالية التي تمثّل ذلك الجزء فيه، وهذا يعني حصوله على قيمة احتمالية كبيرة وتتحول هذه القيمة إلى يقين. وأمَّا القيمة الاحتمالية الصغيرة المضادة التي لم يمتصها فتفنى لضآلتها أمام تلك القيمة الاحتمالية الكبيرة)(1).

وقد أورد بعض أساتيذنا (دامت برکاته) عليه بعدَّة أمور تقدَّم ذكرها في الأمر الرابع من المقدّمة ولا حاجة إلى الإعادة.

وأمَّا ما يمكن أنْ يقال في المرحلة الثانية - وهي أنَّه لا خصوصية لهذه الأمور التي هي من قبيل التواتر - فهو ما ذهب إليه جملة من الأعلام بأنَّه لا مانع من البناء على حجيَّة الاطمئنان المستند إلى بعض الأمور الحسية التي قام عليها الدليل كالوثوق بالخبر أو الشهرة ونحو ذلك.

ص: 171


1- الأسس المنطقية للاستقراء: 424 (الطبعة الثانية).

ولعلَّه سيأتي في الوجه اللاحق ما قد يصلح جواباً عن هذا الوجه.

الوجه السابع

ما ذكره بعض أساتيذنا (دامت برکاته) أيضاً من (أنَّ هناك عدة أمارات يعترف باعتبارها غالب الأصوليين تعويلاً على بناء العقلاء، وحجيتها لدى العقلاء إنَّما هو من باب الوثوق لا لخصوصية فيها، إذ ليس لدى العقلاء تعبد حتى يتعبدون بهذا السبب دون ذاك. وإنَّما الأمر عندهم تابع لمبدأ وحداني عام، وهو الاطمئنان المبني على أسس عقلائية)(1).

ثمَّ ساق أمثلة لهذه الأمارات, منها: حجيَّة خبر الثقة, وحجية قول أهل الخبرة وغيرها.

ولكن قد يستبعد استفادة موقف موحد لهذه الموارد بأنْ يكون الوجه في حجيتها هو الاطمئنان، فهناك من ذهب إلى حجيَّة بعضها بقيام الدليل عليها لا بلحاظ الاطمئنان كما نشهده في حجيَّة خبر الواحد والاستصحاب بوضوح، بل لم نطّلع على من قال بحجيَّة هذه المجموعة من الحجج اعتماداً على الاطمئنان في حدّ ذاته.

وقد تقدَّم أنَّ من لم يبنِ على حجيَّة الاطمئنان بنى على حجيته مع وجود سبب ما كخبر الواحد الثقة، بل بنى على حجيَّة الوثوق - لو قلنا بافتراقه عن الاطمئنان - مع وجود هذا السبب كما صرَّح بذلك أستاذنا السيد الحكيم (مدظله) .

الوجه الثامن

ما ذكره بعض أساتيذنا (دامت برکاته) أيضاً من (استقراء النصوص، فإنَّها في غير مورد ركزت على الوثوق والثقة، مع ظهورها في كون الحكم بحسب المناسبات منوطاً بالواقع واستبعاد خصوصية المورد، علماً أنَّ هذا المعنى - نعني الاطمئنان بالمعنى المخصوص - أكثر ما يعبر عنه في النصوص بالوثوق، وكذا الائتمان والأمن في الجملة, وأمَّا الاطمئنان فلم يتعارف استعماله في النصوص).

ص: 172


1- مباحث الأصول العملية: بحث الشبهة غير المحصورة (مخطوط).

وساق على ذلك عدَّة شواهد لا بأس بذكر بعضها..

(منها: ما في باب جواز بيع جلد غير مأكول اللحم، ففي معتبرة عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الفراء أشتريه من الرجل الذي لعلي لا أثق به، فيبيعني على أنَّها ذكية, أبيعها على ذلك؟ فقال: (إنْ كنت لا تثق به فلا تبعها على أنَّها ذكية إلّا أنْ تقول: قد قيل لي: إنَّها ذكية)(1).

فإنَّ الراوي قد انطلق من أنَّ الوثوق بالبائع كافٍ وإنَّما وقع سؤاله في حالة عدم الوثوق، وقد أقرَّه الإمام (علیه السلام) على تنزيل الوثوق منزلة العلم...

ومنها: ما ورد في باب الائتمام بإمام الجماعة إنْ وثق بدينه، وهو ربّما وقع في السؤال كما في رواية إبراهيم بن علي المرافقي وعمر بن ربيع عن جعفر بن محمَّد (علیه السلام) في حديث أنَّه سأل عن الإمام إنْ لم أكن أثق به أصلي خلفه وأقرأ؟ قال: (لا)(2).

وهذا يدل على مفروغية كون الوثوق كالعلم.

وربّما وقع في الجواب كما في رواية يزيد بن حماد عن أبي الحسن (علیه السلام) قال: قلت له: أصلي خلف من لا أعرف؟ فقال: (لا تصلِّ إلّا خلف من تثق بدينه)(3).

وقد ذكر في السؤال أنَّه لا يعرف بينما في الرواية السابقة عمَّن لا يثق به، وكأنَّه يشير إلى وحدة المعنى فيهما...

ومنها: ما ورد في باب دفع الزكاة إلى الآخرين لتقسيمها، وربما وقع الوثوق في السؤال كما في معتبرة شهاب بن عبد ربه في حديث قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إنّي إذا وجبت زكاتي أخرجتها فأدفع منها إلى من أثق به يقسّمها؟ قال: (نعم، لا بأس بذلك،

ص: 173


1- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: 17/172-173.
2- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: 8/303.
3- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: 8/319.

أما إنَّه أحد المعطين)(1).

فالظاهر أنَّ السائل لم يسأل من حيث الاكتفاء بالوثوق أو اعتبار العلم, بل سأل عن جواز إعطائها للغير ليوزعها، وكأنَّه فارغ عن أنَّه إذا جاز يكتفى بالوثوق فلا فرق بينها وبين العلم.

وفي بعضها وقع ذكر الثقة في الجواب كما في معتبرة علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عمَّن يلي صدقة العشر على من لا بأس به. فقال: (إنْ كان ثقة فمره يضعها في مواضعها، وإنْ لم يكن ثقة فخذها منه وضعها في مواضعها).. )(2).

إلى غير ذلك من الروايات والموارد التي استقصاها (دامت برکاته) .

ولكن هذا الوجه يرتكز على أنَّ المراد بالوثوق في الروايات هو الاطمئنان وهو ليس بذلك الوضوح لما تقدَّم في مقدّمة هذا البحث.

والحاصل ممّا تقدَّم كلّه: أنَّ البناء على حجيَّة الاطمئنان يستند أساساً إلى السيرة العقلائية وسعتها وضيقها، وهي غير قابلة للإنكار في أصلها، ولعلَّ تحديد هذه الحجيَّة بخصوص ما إذا كان الاطمئنان ذا منشأ عقلائي دون غيره هو الأقرب. نعم, يمكن البناء على وجود الرادع عنها في موارد محددة.

ص: 174


1- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: 9/281.
2- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: 9/280.

الخاتمة

اشارة

وفي الختام لا بأس بذكر بعض التنبيهات النافعة في المقام..

التنبيه الأوَّل: في تقسيمات الاطمئنان

اشارة

إنَّ للاطمئنان - كالقطع - عدَّة تقسيمات..

الأوَّل: تقسيمه إلى طريقي وموضوعي

فإنَّ الاطمئنان - كالقطع - قد لا يكون دخيلاً في الحكم بل هو طريق محض، كما أنَّه قد يكون دخيلاً فيه فيكون موضوعاً للحكم أو جزءاً منه، والأوَّل كما في وجوب صلاة القصر لمن اطمأن باجتيازه لحدّ الترخّص قاصداً للمسافة الشرعية، فإنَّ العبرة بنفس الخروج عن حدّ الترخّص ودور القطع أو الاطمئنان إنَّما هو طريق لإحراز هذا الخروج. والثاني كما في شروط إمام الجماعة من الاطمئنان بعدالته - لو قيل باتحاد الوثوق والاطمئنان - ففي رواية أبي علي بن راشد قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام): إنَّ مواليك قد اختلفوا فأصلّي خلفهم جميعاً. قال: (لا تصلِّ إلّا خلف من تثق بدينه)(1).

ومحلّ الكلام في ما نحن فيه حجيَّة الاطمئنان الطريقي على حدّ القطع الطريقي كسائر الأمارات والحجج التي تقوم مقامه، وأمَّا الاطمئنان الموضوعي فترتّب الآثار التي تترتّب على القطع الموضوعي عليه مرهون بعموم دليل تلك الآثار.

ولو قيل بأنَّ أدلة حجيَّة سائر الحجج تفي بقيامها مقام القطع الموضوعي كالطريقي جرى ذلك في الاطمئنان أيضاً.

كما أنَّ الاطمئنان ينقسم إلى الأقسام المذكورة للقطع في محلّه من بحث القطع.

ص: 175


1- الكافي: 3/374.
الثاني: تقسيمه إلى شخصي ونوعي

والمراد بالأوَّل هو الاطمئنان الحاصل للشخص نفسه في مورد معيّن بغض النظر عن حصوله لدى بقية العقلاء أو لا، وبالثاني الاطمئنان الحاصل لدى نوع العقلاء سواء حصل عند نفس المستدل أو لا.

والمعروف عند القائلين بحجيَّة الاطمئنان حجيَّة الشخصي منه. نعم, اشترط في حجيَّة بعض الأمارات عدم الاطمئنان النوعي بخلافه.

قال السيد الصدر (قدس سره): (يشترط في حجيَّة البيّنة عموماً أنْ لا تكون هناك قرينة توجب الاطمئنان النوعي بكذبها، ففي الموارد التي يكون المشهود به واقعة من طبيعتها أنْ يشهد بها كثير من الناس إذا اقتصر شخصان على الشهادة بها وأنكر إدراكها الآخرون لا يعوّل على البيّنة، ومن هذا القبيل ما إذا كان الجو صاحياً وكان المستهلّون كثيرين في مختلف البلاد ومتجهين نحو الجهة الملحوظة للبيّنة ومع هذا أنكروا رؤيتهم للهلال وانفرد الشاهدان بالشهادة)(1).

وقد يتراءى من كلام بعض الأعلام أنَّ الحجّة منه هو الاطمئنان النوعي إمَّا مطلقاً أو في مقام الامتثال، قال المحقّق الداماد (قدس سره) في بعض كلماته: (إنَّ مقتضى القاعدة الأوَّليَّة في الامتثال بما اشتغلت الذمَّة به كالأشواط السبعة في المقام هو الإتيان بما يقطع معه البراءة أو يطمئن اطمئناناً عقلائياً دارجاً بينهم في مقام الامتثال. ثمَّ المراد من الاطمئنان ليس هو خصوص الشخصي منه بل يكفي الاطمئنان النوعي - أي تحقق أمر يطمئن به العقلاء نوعاً - لأنَّه أيضاً حجّة لديهم ومن الطرق لتحصيل البراءة عن التكليف عندهم)(2).

ص: 176


1- منهاج الصالحين: 1/393 التعليقة: 3.
2- كتاب الحج (تقريرات المحقّق الداماد): 4/263-264.
الثالث: تقسيم الاطمئنان بحسب مناشئه إلى قسمين
القسم الأوَّل

الاطمئنان الناشئ من المناشئ العقلائية كالحاصل من مثل الاختبار وقول الخبير المطّلع وإخبار الرصدي ونحوه.

القسم الثاني

الاطمئنان الناشئ من غير ذلك كالحاصل من مثل الفأل والمنام والرمل والجفر وقول المدعي للغيب.

وقد مرَّ التفصيل بينهما في حجيَّة الاطمئنان في بعض الأقوال، ولكن ظاهر سائر الأقوال عدم التفصيل فيه.

الرابع: الاطمئنان الحاصل من الأسباب المتعارفة كخبر الثقة وقرائن الأحوال وظواهر الأقوال وغيرها

الاطمئنان الحاصل من الأسباب المتعارفة كخبر الثقة وقرائن الأحوال وظواهر الأقوال وغيرها، وذلك في مقابل الاطمئنان الحاصل من الأسباب غير المتعارفة مثل الفأل والمنام وغير ذلك.

والظاهر من كلمات القائلين بحجيَّة الاطمئنان بحسب إطلاقها حجيَّة كل من القسمين كما ذكروه في القطع. نعم, ذكروا أنَّ القطع الحاصل من الأسباب غير المتعارفة ليس حجة لغير القاطع لقصور دليل حجيَّة قول المجتهد عن شمول مثله، وهو يجري في الاطمئنان أيضاً. ولكن هذا أمر آخر غير حجيَّة الاطمئنان لصاحبه.

نعم, من لا يرى حجيَّة الاستصحاب من المناشئ غير العقلائية لا يقول بحجيَّته طبعاً إذا كان ناشئاً ممّا اندرج فيها من الأسباب غير المتعارفة.

الخامس: تقسيمه إلى الاطمئنان المعتاد للناس والاطمئنان لمن هو كثير الاطمئنان وهو على حدّ قطع القطّاع

وفي حجيَّة الاطمئنان غير المعتاد وعدمه وجهان، ويجري احتمال عدم حجيَّته حتى في فرض حجيَّة القطع لعدم امتناع الردع عنه كما يمتنع في القطع على المشهور.

ص: 177

قال السيد اليزدي (قدس سره): (إنَّه يكفي الوثوق والاطمئنان للشخص من أي وجه حصل، بشرط كونه من أهل الفهم والخبرة والبصيرة والمعرفة بالمسائل لا من الجهّال ولا ممن يحصل له الاطمئنان والوثوق بأدنى شيء كغالب الناس)(1).

وقد وافقه السيد الخوئي (قدس سره) صريحاً في عدم كفاية الاطمئنان لمن يحصل له من أدنى شيء، وقد برر ذلك بقوله: (إنَّ المستند في حجيَّة الوثوق الشخصي إنَّما هي السيرة العقلائية، وهي خاصَّة بما إذا تحصّل الوثوق من السبب العادي المتعارف الذي يراه العرف موجباً لذلك دون ما لم يكن كذلك، كما لو حصل له الوثوق بعدالة زيد أو فضله من قلَّة أكله أو كبر عمامته ونحو ذلك ممّا لا يراه العقلاء منشأ للوثوق. بل ربما يلام ويستهزأ من ادعاه مستنداً إلى هذه الأُمور)(2).

ولكن ذكر السيد الحكيم (قدس سره) أنَّ ذلك ليس من باب تقييد حجيَّة الاطمئنان، وإنَّما لانصراف النص الخاص وهو قوله (علیه السلام): (لا تصلِّ إلّا خلف من تثق بدينه وأمانته) إلى الوثوق العقلائي(3).

وقد منع السيد الشيرازي (قدس سره) (4) من اشتراط ذلك في حجيَّة الاطمئنان.

هذا وهناك تقسيمات أخرى للاطمئنان غير مهمة مثل تقسيمه(5)

إلى الحسّي وغير الحسّي، والمراد بالأوَّل هو الاطمئنان الحاصل

ص: 178


1- العروة الوثقى: 3/191.
2- مستند العروة الوثقى (كتاب الصلاة): 5/ق:2/441.
3- مستمسك العروة الوثقى: 7/342.
4- العروة الوثقى: 3/191 التعليقة: 2.
5- لاحظ في هذا التقسيم والذي بعده موسوعة الفقه الإسلامي: 14/224-225.

من منشأ حسّي كالمشاهدة أو السماع من قبيل الاطمئنان بصدور الخبر عن المعصوم لوروده عن عدَّة رواة، والثاني هو الحاصل من منشأ غير حسّي كالفأل والمنام وغير ذلك وهذا ما تعارف عند العوام من الاطمئنان بكلام من يدعي الكشف عن السارق أو السحر أو غير ذلك.

التنبيه الثاني: أنواع متعلّق الاطمئنان

إنَّ متعلّق الاطمئنان يمكن أنْ يكون أحد أمور..

أ - الدليل على الحكم الشرعي أو إحدى مقدمات الدليل، وذلك من قبيل ما تكرر في كلماتهم من الاطمئنان بكون كلام معيّن من كلام المعصوم (علیه السلام) (1)، أو الاطمئنان بأن المسؤول في الرواية هو الإمام (علیه السلام) (2)، أو الاطمئنان بأنَّ الشارع قد وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني(3)، أو الاطمئنان من خلال تحرّي مظانّ الأدلة المعارضة بعدم وجود المعارض وكذا المخصص أو المقيّد(4).

ب - الحكم الشرعي، وذلك من قبيل ما قيل من حصول الاطمئنان بحرمة ممارسة السحر(5)، أو الاطمئنان بمشروعيَّة التيمم مع ضيق الوقت عن استعمال الماء(6)، أو الاطمئنان بأنَّ الحكم بستر الوجه على نحو الاستحباب لا الوجوب(7).

ج - متعلّق الحكم الشرعي أو موضوعه أو شؤونهما، وله أمثلة كثيرة جداً، وذلك

ص: 179


1- مستمسك العروة الوثقى: 9/159.
2- كتاب الطهارة (الشيخ الأنصاري): 1/322، مصباح الفقيه: 1/308.
3- حقائق الأصول: 1/49.
4- لاحظ أجود التقريرات: 2/340، ونهاية الأفكار: 1-2/529.
5- المكاسب: 1/266.
6- مستمسك العروة الوثقى: 4/356. ولاحظ أيضاً في أحكام أخرى: 9/201، 11/270.
7- كتاب الصلاة (تقريرات المحقّق الداماد): 2/51.

من قبيل الاطمئنان بأنَّ ما بيد أحدهم من كتاب أو قرآن وقف(1) فلا يجوز شراؤه، أو الاطمئنان بكون هذا الحيوان من الحيوانات المائية(2)، أو الاطمئنان بأنَّ هذا الحكم حرجي فيكون معذوراً في تركه(3)، أو الاطمئنان بأنَّ الشارع لا يرضى بوجود النجس مع الميت فيشترط طهارة الكافور المستعمل في تغسيله(4).

د - الامتثال وشؤونه. وذلك من قبيل اطمئنان الوصي بأنَّ الأجير قد أدّى ما على ذمّة الميّت فلا يجب عليه استئجار من يأتي بالعمل(5)، أو الاطمئنان بأنَّ عين النجاسة قد زالت عن الشيء المتنجس(6) فتجوز الصلاة فيه، أو الاطمئنان بزوال الحاجب أو عدم وجوده على البشرة فيبنى على صحة الوضوء(7).

قال آقا رضا الهمداني (قدس سره): (إنَّ المدار في مقام الامتثال عند العرف والعقلاء ليس على القطع الذي لا يحتمل الخطأ، بل على الاطمئنان وسكون النفس بحيث لا يلتفت النفس إلى احتمال الخلاف)(8).

هذا ومن يبني على حجيَّة الاطمئنان وفق ما تقدَّم من وجوه يبني على حجيَّته في جميع هذه الموارد، نعم لو بني على وجود الرادع عنه في بعض الموارد لا يعدّ حجة في ذلك المورد.

ص: 180


1- العروة الوثقى: 6/404.
2- مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى: 1/352.
3- تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى:8/157.
4- التنقيح في شرح العروة الوثقى (كتاب الطهارة): 9/163.
5- تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى: 8/333.
6- الفتاوى الواضحة: 246.
7- العروة الوثقى: 1/374-375.
8- مصباح الفقيه: 3/395.

التنبيه الثالث

اشارة

تقدَّم في أوَّل هذا البحث أنَّ للاطمئنان مستويات متعدّدة، منها عليا ك-(999999999) من مليار مثلاً، ومنها أدنى من ذلك من قبيل (99%)، والمراد هنا تحديد أدنى درجات الاطمئنان.

فقد يذكر أنَّ أدنى درجات الاطمئنان هو الاحتمال البالغ (97%) وما دونه لا يعدّ اطمئناناً. وقد يتأمل فيه بعدم ثبوت الخصوصية لهذه النسبة في مقابل ما يقرب منها مثل (96%) أو (95%)، بل قد يدعى أنَّ العقلاء لا يتوقفون في أمورهم على المقدار العالي منه بل يعملون بما هو أدنى مثل (90%) أو (85%).

ولكن يمكن أنْ يقال: إنَّ المقدار المتيقن من عمل العقلاء هو ما إذا كانت نسبة الإدراك هي (97%) فما فوق ذلك، وأمَّا ما هو أدنى فلا نحرز جريان سيرة العقلاء عليه فيكون مشكوك الحجيَّة، وقد حقّق في محلِّه أنَّ الأصل عند الشك في الحجيَّة عدم الحجيَّة.

ويمكن القول: إنَّ لدينا معضلتين في تحديد الاطمئنان الحجّة..

المعضلة الأولى

من جهة تحديد درجة الاحتمال في موارد سيرة العقلاء. فإنَّ تحديد درجة الاحتمال بالأرقام ليس سهلاً، لأنَّ الاحتمال إنَّما يرتفع ارتفاعاً تدريجياً ومراتبه غير محصورة بحدٍّ معين، فكل احتمال يمكن تجزئته إلى ملايين الاحتمالات ثمَّ كذلك الحال في الاحتمالات الناتجة عنه، ومن ثمَّ قد يسهل على المرء تحديد مورد الشك عن الظن، بالنظر إلى أنَّ الشك يعني تساوي الطرفين وفقدان أي مؤشر على أحدهما وأمَّا الظن فهو يقتضي ترجيح أحد الاحتمالين، على أنَّه قد يشك المرء أحياناً في أنَّ احتماله لعدد الركعات مثلاً في حدّ الشك أو الظن.

وكذلك يمكن فرز مراتب الظن مع فاصل كبير مثل الظن الضعيف والمتوسط

ص: 181

والقوي، ولكن لا يسهل تحديد الوحدات الاحتمالية الصغيرة مثل الواحد في المائة فضلاً عن الواحد في الألف ونحو ذلك. نعم, يمكن تحديد درجة الاحتمال بالدقة في حالات نبَّه عليها بعض أساتيذنا (دامت برکاته) (1)..

منها: ما لو نشأ الاحتمال عن وجود علم إجمالي للأطراف من غير ترجيح، فإنَّ قيمة العلم تنقسم على الأطراف بنحو متساوٍ، فتتحدد قيمة الاحتمال في كل طرف بحسب عدد الأطراف، فلو كان هناك مائة إناء يعلم بنجاسة أحدها كان احتمال النجاسة في كل واحد منها بنسبة (1%).

ومنها: ما لو كان المؤشر محدداً بالاستقراء في مجموعة ثمَّ أردنا تحديد الاحتمال في فرد خارج منها مماثل لها في الظروف المعرضة لوقوع المحتمل.

مثلاً: لو كانت نسبة مَن يصاب بالمرض الكذائي من الناس هي واحد من كل مليون شخص من دون خصوصية لمنطقة محددة، فهنا يكون احتمال إصابة المولود الجديد بالمرض واحداً في المليون.

ولو كانت نسبة الإصابة بهذا المرض (1%) كان احتمال إصابة كل مولود جديد كذلك، فلو كانت الإصابة بمرض سرطان الثدي في النساء اللواتي يبلغن عشرين عاماً في العراق مثلاً هي (1%) كانت نسبة إصابة كل امرأة عراقية تبلغ الآن عشرين عاماً هي (1%).

المعضلة الثانية: في تحديد درجة الاحتمال الموجبة للاستقرار النفسي

وربما يمكن معالجة هذه المعضلة بعد حصر درجة الاحتمال في موارد العلم الإجمالي وما تقدَّم ممّا يلحق به، فيلاحظ أنَّ العقلاء إذا كانوا يحذرون من شيء ما فإذا اشتبه به

ص: 182


1- مباحث الأصول العملية: بحث الشبهة غير المحصورة (مخطوط).

بين مائة شيء فهل يحذرون عن ارتكاب أحدها أو لا، وهكذا. وبذلك يمكن استبيان آراء الأطباء والمهندسين وغيرهم في تجنّب المحاذير المستقرأة بنسب احتمالية مختلفة.

ولكن قد يشكل الاستعانة بذلك بما نبَّه عليه بعض أساتيذنا (دامت برکاته) من (أنَّ الاحتمال المدعوم بالعلم الإجمالي أقوى من الاحتمال البدوي غير المقرون به، ومن ثمَّ فإنَّ احتمال نجاسة إناء ما بنسبة (50%) احتمالاً بدوياً ممّا لا يعتدّ به ولكن احتمال نجاسة الإناء المعلوم بالإجمال بنفس النسبة ممّا يعتدّ به من جهة توزّع قيمة العلم الإجمالي عليه.

نعم, يمكن أنْ تستخلص قيمة الاحتمال بالنظر إلى موارد العلم الإجمالي إذا أضيف إلى المورد المشكوك موارد مشكوكة أخرى حتى حصل الاطمئنان بتجمّع الاحتمالات في محور واحد، وحينئذٍ يقدّر نصيب المورد المشكوك من القيمة الاحتمالية للعلم وينظر في قيمته لدى العقلاء.

ومن خلال هذا البيان ظهر أنَّ الحديث العام عن القيمة الاحتمالية التي توجب الاطمئنان بما يشمل موارد العلم الإجمالي وغيرها ليس تامّاً، لأنَّ احتمال انطباق المعلوم بالإجمال بنسبة (4%) مثلاً ممّا يجوز الاعتناء به من جهة قيمة العلم ولا يكون معتداً به في غير مورد العلم الإجمالي، بل طبيعة الحال أنْ يكون كذلك.

على أنَّه ينبغي الالتفات إلى أنَّ الحديث عن القيمة الاحتمالية للاحتمال بنحو عام ولو مقيَّداً بوجود العلم الإجمالي وعدمه إنَّما يتوجَّه على مسلك المشهور من أنَّ الاطمئنان الحجة درجة إدراكية ثابتة في جميع الأمور، وأمَّا لو قيل بأنَّه يحصل في أثر ملاحظة مجموع درجة الاحتمال ودرجة أهميّة المحتمل والمؤونة المصروفة في ذلك فلا مجال لتحديده بقيمة احتمالية على وجه الإطلاق)(1).

ص: 183


1- مباحث الأصول العملية: بحث الشبهة غير المحصورة (مخطوط).

التنبيه الرابع

في حكم قيام الاطمئنان في مورد سائر الأمارات والقواعد المعتبرة كخبر الواحد والظهور وقاعدة اليد وأصالة الطهارة وغيرها.

والكلام تارة في حال تخالف الاطمئنان معها وأخرى في حال توافقهما..

أمَّا في الحالة الأولى فيقع الكلام في الأخذ بالاطمئنان فيها أو بما يخالفها من الأمارات والأصول، فلو كان احتمال طهارة الثوب (3%) فهل يحكم بنجاسته للاطمئنان بها أو بطهارته للقاعدة؟

وكذا لو كان احتمال غصبية هذا الثوب الذي تحت يد زيد - مثلاً - هو (97%) فهل يبنى على غصبيته لحصول الاطمئنان بها أو تجري قاعدة اليد وتكون مقدّمة على الاطمئنان؟

وفي الموضوع بدواً احتمالات ثلاثة..

الأوَّل: عدم حجيَّة الاطمئنان في هذه الحالة، وذلك لأن مستند حجيَّة الاطمئنان عند المشهور هو السيرة العقلائية وهي دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن، فتتقدّم عليه سائر القواعد والأمارات.

الثاني: حصول التعارض بين حجيَّة الاطمئنان والأمارة المخالفة فيتساقطان، كما يظهر من كلامٍ للمحقق الحائري (قدس سره),حيث قال: (ولو قامت البيّنة على الفسق وحصل الاطمئنان والوثوق بالعدالة فالظاهر التعارض وسقوط كلتا الأمارتين. ولو قامت البيّنة على العدالة وحصل الاطمئنان بالفسق فقد يقال بالأخذ بالبيّنة لعدم الدليل على حجيَّة الوثوق بالفسق حتى يعارض البينة. ولكن الظاهر هو التعارض كما في الفرع السابق، إذ يكفي في حجيَّة مطلق الاطمئنان عدم الدليل على العدم ولا يحتاج إلى الدليل

ص: 184

على الثبوت، فإنَّه من الطرق العقلائية التي يكفي في حجّيتها عدم الردع من الشارع)(1).

الثالث: أنْ يقال بعدم جريان هذه الأمارات والأصول مع الاطمئنان كما لا تكون حجة مع العلم.

قال بعض أساتيذنا (دامت برکاته): (وهذا هو الظاهر..

أمَّا في ما يكون من قبيل الأصول العملية كقاعدة الطهارة فلما بُيّن في محلِّه من تقدّم مطلق الأمارات على الأصول العملية بلا فرق بين ما كان اعتباره منها بدليل لفظي أو لبّي، لإحراز شمول الدليل اللبّي لمورد قيام أصل عملي مخالف.

وأمَّا في ما كان من قبيل الأمارات كخبر الثقة فإنْ كان دليل اعتباره لبّياً أمكن أنْ يقال بعدم شموله لمورد قيام الاطمئنان على خلافه مع شمول دليل حجيَّة الاطمئنان ولو كان لبّياً لمورد قيامها، وإنْ كان دليل اعتباره لفظياً كالبيّنة أمكن أنْ يقال بانصرافه عرفاً عن مورد قيام الاطمئنان على خلافه لتنزيله بحسب ارتكاز العقلاء منزلة العلم تماماً)(2).

وأمَّا في الحالة الثانية وهي توافق الاطمئنان مع سائر الأمارات والأصول العملية فهل يبنى على حجيتهما معاً أو لا؟

وهذا بحث سيّال عن مطلق الحجج الطولية في حال مخالفتها فهل تكون حجّة معاً في حال موافقتها أو يكون الحجّة في هذه الحالة خصوص ما يتقدَّم في حال المخالفة؟

قولان، والمشهور بين المتأخرين هو الثاني وذهب إلى الأوَّل بعض الأصوليين كما عن بعض أعاظم العصر (مدظله) والسيد الصدر (قدس سره) (3).

ص: 185


1- كتاب الصلاة: 529-530.
2- مباحث الأصول العملية: بحث الشبهة غير المحصورة (مخطوط).
3- بحوث في علم الأصول: 6/352.

ويفرَّع الأمر فيها على أنَّ التقدّم هل هو بمناط التخصّص أو الورود أو الحكومة، فإنْ كان التقدّم بمناط التخصّص أو الورود لم يختلف الأمر بين حال الموافقة أو المخالفة لارتفاع موضوع الأصل المتأخر مع وجود ما يتقدَّم عليه. وإنْ كان التقدّم بمناط الحكومة اقتضى اختصاص التقدّم في حال المخالفة فقط فتجري الحجتان معاً.

وعليه فإذا كان احتمال نجاسة الإناء (3%) - مثلاً - أمكن البناء على الطهارة من جهة الاطمئنان بها ومن جهة قاعدة الطهارة جميعاً، ولو كان احتمال غصبية ما في يد الغير بهذه النسبة الاحتمالية أمكن البناء على مالكيته إياه من جهة الاطمئنان ومن جهة قاعدة اليد جميعاً.

وتحقيق القول فيه موكول إلى محلِّه.

التنبيه الخامس: قد استثنى بعض الأعلام من موارد حجيَّة الاطمئنان..

1 - ما إذا كان يعلم بوجود الحاجب في مواضع الغسل أو الوضوء فلا يكفي الظن بزواله بل لا بدَّ من اليقين بذلك كما صرح السيد اليزدي (قدس سره) (1)، ووافقه الآملي (قدس سره) وأستاذنا السيد الحكيم (مدظله) (2)، وخالفه في ذلك السيدان الخوانساري والخوئي والشيخ التبريزي (قدس سرهم) (3) وبعض أعاظم العصر (مدظله) (4) حيث صرّحوا جميعاً بكفاية الاطمئنان.

ولا وجه لعدم الاكتفاء بالاطمئنان بعد البناء على حجيَّته، إذ لا خصوصية للمورد.

ص: 186


1- العروة الوثقى: 1/458.
2- مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى: 3/535. مصباح المنهاج (كتاب الطهارة): 2/254.
3- العروة الوثقى: 1/458 التعليقة: 1،2، تنقيح مباني العروة (كتاب الطهارة): 5/159.
4- تعليقة على العروة الوثقى: 1/192.

نعم, قد يكون مراد السيد اليزدي (قدس سره) من اليقين ما يشمل الاطمئنان، فلا يكون هذا المورد من مستثنيات البناء على حجيَّة الاطمئنان.

2 - ثبوت الخسوف والكسوف بإخبار الرصدي إذا حصل الاطمئنان بصدقه، حيث استشكل السيد اليزدي (قدس سره) في ذلك، وتبعه جمع منهم السيد الحكيم (قدس سره) في حين خالفه بقية المعلِّقين على العروة(1) وبعض أعاظم العصر (مدظله) (2)، وهو موافق لكلام صاحب الجواهر والشيخ الأنصاري (قدس سرهما) (3)، وكذا غيرهم(4).

وعلَّل السيد الحكيم (قدس سره) الإشكال ب-(أنَّ الرجوع إلى أهل الخبرة مختص بالأمور الحدسيّة لا الحسيّة كالمقام. وكونه كذلك من باب الاتفاق - لبعض العوارض - غير كافٍ في جواز الرجوع إليهم)(5).

ويلاحظ عليه أنَّ هذا التعليل لا يناسب المدّعى، إذْ البناء على قيام الحجة بقول الرصدي إذا أوجب الاطمئنان إنَّما هو من باب حجيَّة الاطمئنان لا من باب حجيَّة قول أهل الخبرة حتى يتوجه فيه الإشكال بما ذكر، وإنَّما كان يحسن ما ذكره إذا كانت عبارة العروة تتضمّن الإشكال مع عدم حصول الاطمئنان.

ص: 187


1- العروة الوثقى: 3/55. ولا بأس بالتنبيه على أنَّ ما ورد في تعليقة العروة الوثقى في المورد المذكور من قول السيد الكَلبايكَاني (قدس سره): (بل الإشكال فيه مع الاطمئنان) غلطٌ، فإنه قد ذكر صريحاً في بقية المصادر أنه بنى على حجيته مع إفادته للاطمئنان. (لاحظ هداية العباد: 1/176، ووسيلة النجاة مع تعليقة السيد الكَلبايكَاني: 1/174).
2- تعليقة على العروة الوثقى: 2/218.
3- رسائل فقهية: 123، كتاب الصلاة: 2/156.
4- لاحظ وسيلة النجاة مع تعليق السيد الكَلبايكَاني: 1/174، وتحرير الوسيلة: 1/192.
5- مستمسك العروة الوثقى: 7/41.

ومن ثمَّ أفاد السيد الخوئي (قدس سره) أيضاً في التعليق على إشكال صاحب العروة (قدس سره):

(الإشكال في غير محلِّه بعد فرض حصول الاطمئنان الذي هو حجّة عقلائية كالقطع.

نعم, التعويل حينئذٍ إنَّما هو على الاطمئنان الحاصل من قوله لا على قوله بما هو كذلك.

اللّهم إلّا أنْ يكون مراده حصول الاطمئنان بصدق المخبِر لا بصدق الخبر، كما لو كان الرصدي مأموناً عن الكذب فجزمنا بكونه صادقاً في إخباره ومع ذلك لم نطمئن بصدق الخبر لاحتمال خطئه وعدم إصابته للواقع فكنّا بالنسبة إلى وقوع الكسوف خارجاً في شكٍّ وترديد، وإنْ كنّا مطمئنين في صدقه عمّا يخبر بمقتضى القواعد النجومية فإنَّه يشكل الاعتماد حينئذٍ على قوله، لعدم الدليل على حجيَّة الإخبار الحدسي في الأمر الحسي، والرجوع إلى أهل الخبرة يختص بالأمور الحدسيَّة دون الحسيَّة كما في المقام.

وعلى الجملة: إذا حصل الاطمئنان من قول الرصدي بوقوع الكسوف خارجاً كما لو كان الشخص محبوساً في مكان لا يتيسّر له استعلام الكسوف وكان عنده رصدي أخبر بذلك، أو كان الشخص بنفسه رصدياً فلا ريب في وجوب الصلاة حينئذٍ عملاً بالاطمئنان الذي هو حجّة عقلائية كما عرفت، وإلّا فمجرد الاطمئنان بصدق المخبر مع الترديد في الوقوع الخارجي لا أثر له لعدم الاكتفاء في الموضوع الحسي بإخبار مستند إلى الحدس)(1).

هذا, ويحتمل أنْ يكون منشأ إشكال السيد الحكيم (قدس سره) أنَّ الحجّة عنده هي الاطمئنان النوعي، بمعنى ما يوجب الاطمئنان لدى العقلاء نوعاً، وإخبار الرصدي ممّا أشكل جمع في كونه موجباً للوثوق غالباً.

كما يحتمل أنْ يكون منشأ قول السيد اليزدي (قدس سره) ما لا يبعد عن ذلك كأنْ تكون الحجّة هي الاطمئنان الناشئ من الأسباب المتعارفة لدى العقلاء ممّا جرت عليه السيرة

ص: 188


1- مستند العروة الوثقى (كتاب الصلاة): 5/ ق:1/66-67.

ولم يثبت ذلك في قول الرصدي.

وقد يحتمل شمول النهي عن الاعتماد على التنجيم لإخبار الرصدي، وهو محل نظر.

3 - ذكر غير واحد عدم حجيَّة الشهادة في غير العلم.

قال الشيخ (قدس سره): (لا يجوز للشاهد أنْ يشهد حتى يكون عالماً بما يشهد به حين التحمّل وحين الأداء لقوله تعالى: >وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ<، وقال تعالى: >إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ<.

وروى ابن عباس قال: سئل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عن الشهادة فقال: (هل ترى الشمس؟) قال: نعم. قال: (على مثلها فاشهد أو دع).

فإذا ثبت هذا فالكلام في ما يصير به عالماً فيشهد، يقع العلم له من وجوه ثلاثة سماعاً أو مشاهدة أو بهما)(1). ونحوه كلام ابن إدريس والعلّامة (قدس سرهما) (2).

وفرّع على ذلك بعض المتأخرين عدم كفاية الاطمئنان في الشهادة، قال السيد الخوانساري (قدس سره): (كما في باب الشهادة لا يجوز للشاهد أن يشهد بمجرد الاطمئنان بل لا بدَّ من الجزم)(3).

وقال أيضاً: (ولعل ما ورد من الأخبار على التشديد في باب الشهادة و(الشهادة كما تعرف كفك) و(على مثلها - يعني الشمس - فاشهد أو دع) ونحوهما محمولة على الشهادة من جهة الظن أو الاطمئنان بلا حجّة)(4).

ص: 189


1- المبسوط في فقه الإمامية: 8/180.
2- السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: 2/117، تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية: 5/261.
3- جامع المدارك في شرح المختصر النافع: 6/59.
4- المصدر السابق: 6/141.

والظاهر من كلماتهم أنَّهم إنَّما ذهبوا إلى عدم جواز الشهادة المبتنية على الاطمئنان لما استفادوه من رادعية الأدلة المتقدّمة في هذا المورد بالخصوص، وليس ذلك لبنائهم على عدم شمول دليل حجيّته في نفسه لمثل ذلك.

4 - موارد الدعاوى، فقد قيل: إنَّه لا بدَّ فيها من العلم الوجداني ولا يكفي الاطمئنان، والوجه في نفي الحجيَّة فيها عدم إحراز السيرة التي هي مبنى حجيَّة الاطمئنان.

قال الشيخ التبريزي (قدس سره) في كلام له بعد إثبات حجيَّة الوثوق والاطمئنان: (نعم, الفرق بين العلم والوثوق أنَّ الثاني لا يعتبر إلّا في موارد إحراز ثبوت السيرة فيها كما في غير موارد الدعاوى كقتل من اطمأن بأنَّه قاتل والده)(1).

وقال أيضاً: (الموجب للاطمئنان لا يكون موجباً للحكم والقضاء في المرافعات وموجبات الحدود أخذاً بما دلَّ على اعتبار البيِّنة في مدرك القضاء وما ورد في ثبوت موجبات الحدّ)(2).

5 - الاستناد إلى الاطمئنان في القضاء، فقد وقع الكلام في جواز اعتماد القاضي على علمه، والتزم كثير من الفقهاء بجوازه على تفصيل. إلّا أنَّ منهم من نفى كون الاطمئنان فيه على حدِّ العلم استناداً إلى قصور السيرة فيه، مضافاً إلى قيام الدليل على اختصاص الحجّة في باب القضاء بالبيّنات والأَيمان.

فقد ذكر الشيخ التبريزي (قدس سره): (أنَّه لا يكون الاطمئنان مدركاً للقضاء لما ورد من أنَّه يكون بالبيّنة، بل لا سيرة في اعتبار الوثوق وخبر الثقة بالإضافة إلى موارده لا أنَّها مردوعة بما ورد في ميزان القضاء ومدركه)(3).

ص: 190


1- تنقيح مباني العروة الوثقى: 3/425، ولاحظ تنقيح مباني العروة الوثقى: 5/390.
2- أسس القضاء والشهادة: 48.
3- تنقيح مباني العروة الوثقى (كتاب الطهارة): 2/281.

والحمد لله أولاً وآخراً، قد تمَّ البحث في يوم الجمعة الموافق للسادس من شهر رمضان المبارك من عام 1435 هجرياً بجوار حرم الإمام المرتضى (صلوات الله عليه)، وقد تمَّت مراجعته في الخامس من محرَّم الحرام من عام 1436 ﻫ.

* * *

ص: 191

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - الاجتهاد والتقليد: السيد رضا الصدر (ت 1373 ﻫ) الطبعة الثانية في مطبعة قدس (1420 ﻫ).

3 - الاجتهاد والتقليد (بحوث في الأصول): المحقّق الشيخ محمَّد حسين الأصفهاني (ت 1361 ﻫ)، الطبعة الثالثة (1418 ﻫ)، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم.

4 - أجود التقريرات: تقريرات الميرزا محمَّد حسين الغروي النائيني (ت 1355 ﻫ) في الأصول بقلم السيد أبي القاسم الخوئي (قدس سره)، الطبعة الثانية عام (1368 ش) نشر منشورات مصطفوي - إيران: قم.

5 - اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): الشيخ أبو جعفر محمَّد بن الحسن الطوسي (ت 460 ﻫ)، مطبعة بعثت - قم (1404 ﻫ)، نشر مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، تحقيق: السيد مهدي الرجائي.

6 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (تفسير أبي السعود): أبو السعود محمَّد ابن محمَّد العمادي (ت 951 ﻫ)، نشر دار إحياء التراث العربي - لبنان: بيروت.

7 - أساس البلاغة: أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 ﻫ)، دار ومطابع الشعب - القاهرة (1960 م).

8 - الأسس المنطقية للاستقراء: السيد محمَّد باقر الصدر (ت 1400 ﻫ) الطبعة الثانية.

(1426 ﻫ) نشر مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر (قدس سره)، إعداد وتحقيق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قدس سره).

9 - أوثق الوسائل في شرح الرسائل: موسى بن جعفر ابن المولى أحمد التبريزي (ت

ص: 192

1307 ﻫ)، نشر محمَّد علي التبريزي الغروي (1397 ﻫ).

10 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار: المولى محمَّد باقر المجلسي (ت 1111 ﻫ)، الطبعة الثانية (1403 ﻫ /1983 م)، طبع ونشر مؤسسة الوفاء - لبنان: بيروت.

11 - بحر الفوائد في شرح الفرائد: الميرزا محمَّد حسن الأشتياني (ت 1319 ﻫ) الموجود في مكتبة أهل البيت (علیهم السلام) الإصدار الثاني (1433 ﻫ).

12 - تفسير البحر المحيط: أبو حيان الأندلسي (ت 745 ﻫ)، الطبعة الأولى عام (1422 ﻫ/2001 م)، طباعة ونشر دار الكتب العلمية - لبنان: بيروت، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، والشيخ علي محمَّد معوض.

13 - بحوث في الفقه: المحقّق الشيخ محمَّد حسين الأصفهاني (ت 1361 ﻫ)، نشر دفتر انتشارات إسلامى (1409 ﻫ)، إيران: قم.

14 - بحوث في شرح العروة الوثقى: السيد محمَّد باقر الصدر (ت 1400 ﻫ)، الطبعة الأولى (1971 م)، مطبعة الآداب - النجف الأشرف.

15 - بحوث في شرح مناسك الحج: تقرير لبحوث السيد محمَّد رضا السيستاني بقلم أمجد رياض ونزار يوسف، نسخة محدودة التداول (1431 ﻫ).

16- بحوث في علم الأصول: تقرير لبحوث السيد محمَّد باقر الصدر (ت1400ﻫ)، بقلم السيد محمود الشاهرودي، الطبعة الثالثة (1426ﻫ/ 2005م)، مؤسسة دائرة المعارف للفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (علیهم السلام).

17 - بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمَّد (علیهم السلام): أبو جعفر محمَّد بن الحسن بن فروخ الصفار (ت 290 ﻫ)، طبع: مطبعة الأحمدي - إيران: طهران، نشر مؤسسة الأعلمي.

ص: 193

18 - تاج العروس من جواهر القاموس: محبّ الدين أبو فيض السيد محمَّد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي الحنفي. دراسة وتحقيق: علي شيري دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1994 م / 1414 ه).

19 - التبيان في تفسير القرآن: الشيخ أبو جعفر محمَّد بن الحسن الطوسي (ت 460 ﻫ)، الطبعة الأولى (1409 ﻫ)، طبع ونشر: مكتب الإعلام الإسلامي، تحقيق: أحمد حبيب قصير العاملي.

20 - تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية: جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف الحلي المعروف ب-(العلّامة الحلي) (ت 726 ﻫ)، الطبعة الأولى (1420 ﻫ)، نشر: مؤسسة الإمام الصادق (علیه السلام)، إيران - قم، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادري، إشراف: الشيخ جعفر السبحاني.

21 - تحرير الوسيلة: السيد روح الله الخميني (ت 1410 ﻫ)، الطبعة الثانية (1390 ﻫ)، مطبعة الآداب النجف الأشرف، نشر دار الكتب العلمية.

22 - تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى: الشيخ محمَّد إسحاق الفياض، معاصر، إخراج: مؤسسة المنار نشر: انتشارات محلاتي.

23 - تعليقة استدلالية على العروة الوثقى: المحقّق الشيخ أغا ضياء الدين العراقي (ت 1361 ﻫ)، الطبعة الأولى (1410 ﻫ)، طبع ونشر وتحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

24 - تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمي (ت: القرن الرابع الهجري)، الطبعة الثالثة (1404 ﻫ)، نشر مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر - إيران: قم، تصحيح وتعليق وتقديم: السيد طيب الموسوي الجزائري.

25 - تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة: الشيخ محمَّد الفاضل اللنكراني

ص: 194

(ت1428ﻫ)، الطبعة الثانية (1423 ﻫ) - إيران: قم، نشر مركز فقه الأئمة الأطهار (علیهم السلام).

26 - تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: الشيخ محمَّد بن الحسن الحر العاملي (ت 1104 ﻫ)، الطبعة الثانية (1414 ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام)

لإحياء التراث - قم المشرفة.

27 - تلخيص البيان في مجازات القرآن: الشريف الرضي (ت 406 ﻫ)، الطبعة الأولى (1374 ﻫ / 1955 م)، نشر دار إحياء الكتب العربية - مصر: القاهرة، تحقيق وتقديم: محمَّد عبد الغني حسن.

28 - التنقيح في شرح العروة الوثقى: تقرير أبحاث السيد أبو القاسم الخوئي (ت 1413 ﻫ)، بقلم الشيخ علي الغروي التبريزي، الطبعة الثانية (1426 ﻫ/ 2005م) نشر مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي (قدس سره).

29 - تنقيح مباني العروة: الميرزا جواد التبريزي (ت 1427 ﻫ)، الطبعة الثانية (1428 ﻫ)، نشر دار الصديقة الشهيدة.

30 - تهذيب الأحكام: الشيخ أبو جعفر محمَّد بن الحسن الطوسي (ت 460 ﻫ)، الطبعة الثالثة، نشر دار الكتب الإسلامية - طهران، تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان.

31 - تهذيب اللغة: محمَّد بن أحمد الأزهري (ت 370 ﻫ) الطبعة الأولى (1421 ﻫ) طبع دار إحياء التراث العربي: لبنان - بيروت.

32 - جامع المدارك في شرح المختصر النافع: السيد أحمد الخوانساري (ت 1405 ﻫ)، الطبعة الثانية، نشر مكتبة الصدوق: إيران - قم، تعليق وتحقيق: علي أكبر الغفاري.

ص: 195

33 - جمهرة اللغة: ابن دريد محمَّد بن حسن (ت 321 ﻫ)، الطبعة الأولى، نشر دار العلم للملايين عام (1988 م)، لبنان: بيروت.

34 - جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: الشيخ محمَّد حسن النجفي (ت 1266 ﻫ)، الطبعة الثانية (1365 ش) مطبعة خورشيد، نشر دار الكتب الإسلامية - طهران، تحقيق وتعليق: الشيخ عباس القوجاني.

35 - كتاب الحج: تقرير السيد محمود الحسيني الشاهرودي بقلم محمَّد إبراهيم الجناتي الشاهرودي، الطبعة الأولى (1962 م)، مطبعة القضاء في النجف الأشرف.

36 - كتاب الحج: تقرير لبحث المحقّق السيد محمَّد الداماد (ت 1388 ﻫ) بقلم عبد الله الجوادي الطبري الآملي، مطبعة مهر - إيران: قم.

37 - حقائق الأصول: السيد محسن الطباطبائي الحكيم (ت 1390 ﻫ) الطبعة الخامسة (1408 ﻫ)، مطبعة الغدير، نشر: مكتبة بصيرتي - قم.

38 - درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: محمَّد كاظم الخراساني (ت 1329 ﻫ)، الطبعة الأولى (1410ﻫ/1990م)، نشر مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي: إيران - طهران.

39 - دروس في علم الأصول: السيد محمَّد باقر الصدر (ت 1400 ﻫ) الطبعة الثانية (1406 ﻫ/ 1986 م)، نشر دار الكتاب اللبناني، لبنان: بيروت.

40 - رسائل فقهية: الشيخ محمَّد حسن النجفي (ت 1266 ﻫ)، نسخة مخطوطة موجودة في مكتبة أهل البيت (علیهم السلام) الإصدار الثاني.

41 - رسالة الصلاة في المشكوك: الميرزا محمَّد حسين الغروي النائيني (ت 1355 ﻫ) الطبعة الأولى (1418 ﻫ)، نشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم، شرح الشيخ جعفر الغروي النائيني.

ص: 196

42 - رسالة في العدالة: السيد علي الموسوي القزويني (ت 1298 ﻫ)، الطبعة الأولى (1419 ﻫ)، طبع ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين: إيران - قم.

43 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (تفسير الآلوسي): شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي (ت 1270 ﻫ)، الموجود في مكتبة أهل البيت (علیهم السلام) الإصدار الثاني (1433 ﻫ).

44 - رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين (صلوات الله عليه): السيد علي خان الحسيني المدني الشيرازي (ت 1120 ﻫ)، الطبعة الرابعة (1415 ﻫ) طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي.

45 - السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: أبو جعفر محمَّد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي (ت 598 ﻫ)، الطبعة الثانية (1410 ﻫ)، طبع ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، إيران - قم.

46 - شرح المقاصد في علم الكلام: سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله الهروي التفتازاني (ت 792 ﻫ)، الطبعة الأولى (1401 ﻫ/ 1981 م) طبع ونشر: دار المعارف النعمانية.

47 - شرح المواقف: الشريف علي بن محمَّد الجرجاني (ت 816 ﻫ)، الطبعة الأولى (1325 ﻫ/ 1907 م) مطبعة السعادة - مصر.

48 - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393 ﻫ)، الطبعة الرابعة، (1407ﻫ/1987م) نشر دار العلم للملايين، تحقيق: أحمد عبد

الغفور العطار، لبنان - بيروت.

49 - كتاب الصلاة: الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري (ت 1281 ﻫ)، الطبعة الأولى

ص: 197

(1415 ﻫ) إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم.

50 - كتاب الصلاة: الشيخ عبد الكريم الحائري (ت 1355 ﻫ) طبع ونشر: دفتر تبليغات إسلامي، إيران: قم.

51 - كتاب الصلاة: تقرير لبحث المحقّق السيد محمَّد الداماد (ت 1388 ﻫ) بقلم عبد الله الجوادي الطبري الآملي، الطبعة الثانية (1416 ﻫ).

52 - كتاب الطهارة: الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري (ت 1281 ﻫ)، الطبعة الأولى (1415 ﻫ) إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم.

53 - عدم سهو النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): الشيخ أبو عبد الله محمَّد بن محمَّد النعمان التلعكبري (ت 413 ﻫ)، الطبعة الثانية (1414 ﻫ/1993 م)، نشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - لبنان: بيروت.

54 - العروة الوثقى مع تعليقات عدة من الفقهاء العظام: السيد محمَّد كاظم الطباطبائي اليزدي (ت 1337 ﻫ)، الطبعة الأولى (1417 ﻫ)، تحقيق وطبع: مؤسسة النشر الإسلامي.

55 - العناوين: السيد مير عبد الفتاح الحسيني المراغي (ت 1250 ﻫ)، الطبعة الأولى (1417 ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

56 - عوائد الأيام: الفاضل المحقّق أحمد النراقي (ت 1245 ﻫ)، الطبعة الأولى (1417 ﻫ) تحقيق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، نشر: مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي.

57 - العين: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 ﻫ)، الطبعة الثانية - إيران (1409 ﻫ)، نشر مؤسسة دار الهجرة، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي

ص: 198

والدكتور إبراهيم السامرائي.

58 - الفتاوى الواضحة: السيد محمَّد باقر الصدر (ت 1400 ﻫ)، مطبعة الآداب: النجف الأشرف.

59 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير: محمَّد بن علي بن محمَّد الشوكاني (ت 1250 ﻫ) طبع ونشر: عالم الكتب.

60 - فرائد الأصول: الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري (ت 1281 ﻫ)، الطبعة الأولى (1415 ﻫ)، إعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم.

61 - الفروق اللغوية: أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري (ت 395 ﻫ)، الطبعة الأولى (1413 ﻫ)، نشر وتحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، إيران - قم.

62 - الفصول الغروية في الأصول الفقهية: الشيخ محمَّد حسين الطهراني الحائري (ت 1250 ﻫ) طبع ونشر: دار إحياء العلوم الإسلامية - قم (1404 ﻫ).

63 - الفصول المهمة في أصول الأئمة: الشيخ محمَّد بن الحسن الحر العاملي (ت 1104 ﻫ)، الطبعة الأولى (1418 ﻫ)، نشر: مؤسسة معارف إسلامي إمام رضا (علیه السلام)، تحقيق وإشراف: محمَّد بن محمَّد الحسين القائيني.

64 - فقه الصادق (علیه السلام): السيد محمَّد صادق الحسيني الروحاني، الطبعة الثالثة (1412 ﻫ)، طبع: المطبعة العلمية، نشر: مؤسسة دار الكتاب - قم.

65 - فوائد الأصول: الميرزا محمَّد حسين الغروي النائيني (ت 1355 ﻫ) بقلم الشيخ محمَّد علي الكاظمي الخراساني (ت 1365 ﻫ)، طبع في (1404 ﻫ)، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، إيران - قم، تعليق: الشيخ آغا ضياء الدين العراقي.

ص: 199

66 - قاموس الرجال: الشيخ محمَّد تقي التستري (ت 1415 ﻫ)، الطبعة الأولى (1419 ﻫ)، طبع ونشر وتحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، إيران - قم.

67 - قرب الإسناد: الشيخ أبو العباس عبد الله بن جعفر الحميري (ت 304 ﻫ)، الطبعة الأولى (1413 ﻫ) طبع ونشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم.

68 - كتاب القضاء: الحاج ميرزا حبيب الله الرشتي (ت 1312 ﻫ)، نشر منشورات دار القرآن الكريم - إيران: قم، تحقيق: السيد أحمد الحسيني.

69 - كتاب القضاء والشهادات: الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري (ت 1281 ﻫ)، الطبعة الأولى (1415 ﻫ)، إعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم.

70 - قواعد الحديث: محي الدين الموسوي الغريفي (ت 1412 ﻫ) الطبعة الثانية (1406ﻫ/ 1986م) نشر: دار الأضواء - لبنان: بيروت.

71 - الكافي: ثقة الإسلام أبو جعفر محمَّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت 328/329 ﻫ)، الطبعة الثالثة (1388 ﻫ)، نشر دار الكتب الإسلامية.

72 - الكافي في أصول الفقه: السيد محمَّد سعيد الحكيم، الطبعة الثانية (1422 ﻫ/2001م)، نشر مكتب السيد محمَّد سعيد الحكيم.

73 - كامل الزيارات: أبو القاسم جعفر بن محمَّد بن قولويه القمي (ت 367 ﻫ)، الطبعة الأولى (1417 ﻫ)، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، إيران - قم، تحقيق: الشيخ جواد القيومي.

74 - كشف اللثام عن قواعد الأحكام: الشيخ بهاء الدين محمَّد بن الحسن الأصفهاني المعروف ب-(الفاضل الهندي) (ت 1137 ﻫ)، الطبعة الأولى (1416 ﻫ)،

ص: 200

مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

75 - الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية): أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكوفي الحنفي (ت 1094ﻫ/1683م)، الطبعة الثانية (1419ﻫ/ 1998م) نشر: مؤسسة الرسالة لبنان بيروت، المقابلة والإعداد: د.عدنان درويش، محمَّد المصري.

76 - مباحث الاشتغال: السيد محمَّد باقر السيستاني، نسخة أولية محدودة التداول.

77 - مباحث الأصول: تقرير أبحاث السيد محمَّد باقر الصدر (ت 1400 ﻫ) بقلم السيد كاظم الحائري، الطبعة الأولى (1407 ﻫ)، مطبعة مركز النشر - مكتب الإعلام الإسلامي، إيران: قم.

78 - مباحث الأصول العملية: تقرير لبحوث السيد محمَّد باقر السيستاني يتضمن أبواباً عديدة من الأصول منها أصالة البراءة والاشتغال والتخيير، بقلم أمجد رياض، مخطوط. وقد تمَّ التصرّف في ما ورد في التقرير بناءً على مذاكرة معه (دامت افاداته) .

79 - المبسوط: أبو بكر محمَّد بن أبي سهل السرخسي (ت 483 ﻫ) طبع (1406ﻫ/ 1986م) نشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع: لبنان - بيروت.

80 - المبسوط في فقه الإمامية: الشيخ أبو جعفر محمَّد بن الحسن الطوسي (ت 460 ﻫ)، طبع المطبعة الحيدرية (1387 ﻫ)، نشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، إيران - طهران، تصحيح وتعليق: السيد محمَّد تقي الكشفي.

81 - مجمع البيان في تفسير القرآن: أمين الإسلام أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548 ﻫ)، الطبعة الأولى (1415 ﻫ/1995م)، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - لبنان: بيروت.

82 - مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان: المولى أحمد الأردبيلي (ت 993

ص: 201

ﻫ)، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، تحقيق: الحاج أغا مجتبى العراقي، الشيخ علي بناه الإشتهاردي، الحاج أغا حسين اليزدي الأصفهاني.

83 - المحاسن: أبو جعفر أحمد بن محمَّد بن خالد البرقي (ت 274 ﻫ) طبع (1370ﻫ), تصحيح وتعليق: السيد جلال الدين الحسيني، نشر: دار الكتب الإسلامية - طهران.

84 - محاضرات في أصول الفقه: تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي (ت 1413 ﻫ) بقلم الشيخ محمَّد إسحاق الفياض، الطبعة الثانية (1426 ﻫ/ 2005م), نشر مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي (قدس سره).

85 - المحكم في أصول الفقه: السيد محمَّد سعيد الحكيم، الطبعة الثانية (1418 ﻫ/ 1997 م) نشر: مؤسسة المنار.

86 - المحيط في اللغة: الصاحب بن عباد (إسماعيل بن عباد) (ت 385 ﻫ), الطبعة الأولى (1414 ﻫ) نشر: عالم الكتب، لبنان - بيروت.

87 - المخصّص: أبو الحسن علي بن إسماعيل النحوي اللغوي الأندلسي المعروف ب-(ابن سيده) (ت 458 ﻫ)، تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي، نشر: دار إحياء التراث العربي - لبنان: بيروت.

88 - مسائل علي بن جعفر ومستدركاتها (الجعفريات): الطبعة الأولى (1409 ﻫ) إيران - قم، تحقيق وجمع: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.

89 - مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام: زين الدين بن علي العاملي المعروف ب-(الشهيد الثاني) (ت965 ﻫ)، الطبعة الأولى (1413ﻫ)، تحقيق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامية.

ص: 202

90 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي (ت 1320 ﻫ) الطبعة المحقّقة الأولى (1408 ﻫ/1987 م)، تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - بيروت.

91 - مستمسك العروة الوثقى: السيد محسن الطباطبائي الحكيم (ت 1390 ﻫ)، الطبعة الرابعة (1391 ﻫ)، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي, إيران: قم (1404 ﻫ).

92 - مستند العروة الوثقى: تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي (ت 1413 ﻫ) بقلم الشيخ مرتضى البروجردي (ت 1418 ﻫ)، الطبعة الأولى، المطبعة العلمية إيران - قم، نشر: لطفي.

93 - مشارق الشموس في شرح الدروس: المولى حسين بن جمال الدين محمَّد الخوانساري (ت 1099 ﻫ)، نشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.

94 - مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع: محمَّد باقر الوحيد البهبهاني (ت 1205 ﻫ)، طبع (1424 ﻫ)، نشر وتحقيق: مؤسسة العلّامة المجدد الوحيد البهبهاني.

95 - مصباح الأصول: تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي (ت 1413 ﻫ) بقلم السيد محمَّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي، الطبعة الثانية (1426 ﻫ/ 2005م), نشر مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي (قدس سره).

96 - مصباح الفقيه: الشيخ أغا رضا بن محمَّد هادي الهمداني (ت 1322 ﻫ)، الطبعة الأولى (1417 ﻫ)، نشر: المؤسسة الجعفرية لإحياء التراث - قم المقدسة، تحقيق: محمَّد الباقري، نور علي النوري، محمَّد الميرزائي.

97 - مصباح المنهاج: السيد محمَّد سعيد الحكيم، الطبعة الأولى (1415 ﻫ/1994 م)، إخراج مؤسسة المنار.

ص: 203

98 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي: أحمد بن محمَّد بن علي المقري الفيومي (ت 770 ﻫ)، طبع دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

99 - مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى: الشيخ محمَّد تقي الآملي (ت 1391 ﻫ)، الطبعة الأولى (1377 ﻫ)، مطبعة فردوسي.

100 - معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة: السيد أبو القاسم الخوئي (ت 1413 ﻫ)، الطبعة الخامسة (1413 ﻫ/ 1992م).

101 - معجم مقاييس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395 ﻫ)، طبع ونشر مكتبة الإعلام الإسلامي (1404 ﻫ)، تحقيق: عبد السلام محمَّد هارون.

102 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: أبو محمَّد بن هشام الأنصاري (ت 761 ﻫ) نشر المكتبة التجارية الكبرى - مصر، تحقيق: محيي الدين عبد الحميد.

103 - كتاب المكاسب: الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري (ت 1281 ﻫ)، الطبعة الأولى (1415 ﻫ)، إعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم.

104 - مفاتيح الأصول: السيد محمَّد الطباطبائي الكربلائي (ت حوالي 1229 ﻫ)، طبع: حجري.

105 - المفردات في غريب القرآن: أبو القاسم الحسين بن محمَّد المعروف ب-(الراغب الأصفهاني) (ت 425 ﻫ)، الطبعة الثانية (1404 ﻫ)، نشر: دفتر نشر الكتاب.

106 - منتقى الأصول: تقرير بحث السيد محمَّد الحسيني الروحاني (ت 1418 ﻫ) بقلم السيد عبد الصاحب الحكيم (ت 1403 ﻫ)، الطبعة الثانية (1416 ﻫ).

107 - منتهى الأصول: السيد حسن بن علي أصغر الموسوي البجنوردي (ت 1396ﻫ)، موجود في مكتبة أهل البيت (علیهم السلام) الإصدار الثاني.

108 - من لا يحضره الفقيه: أبو جعفر محمَّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت

ص: 204

381 ﻫ)، الطبعة الثانية، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة، صحّحه وعلّق عليه: علي أكبر الغفاري.

109 - منهاج الصالحين: تعليق السيد محمَّد باقر الصدر (ت 1400 ﻫ)، طبع (1410 ﻫ/ 1990 م)، دار التعارف للمطبوعات - لبنان: بيروت.

110 - موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (علیهم السلام): تأليف وتحقيق ونشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، الطبعة الأولى (1433 ﻫ/2012 م).

111 - الموسوعة الرجالية: السيد حسين الطباطبائي البروجردي (ت 1380 ﻫ)، طبع ونشر: مجمع البحوث الإسلامية في الأستانة الرضوية المقدسة (1414 ﻫ/ 1993 م).

112 - نهاية الأفكار: تقرير أبحاث الشيخ آغا ضياء الدين العراقي (ت 1361 ﻫ) بقلم الشيخ محمَّد تقي البروجردي النجفي (ت 1391 ﻫ)، طبع عام (1405 ﻫ)، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، إيران - قم.

113 - نهاية الدراية في شرح الكفاية: المحقّق الشيخ محمَّد حسين الأصفهاني (ت 1361 ﻫ)، نشر: انتشارات سيد الشهداء (علیه السلام) عام (1374 ش)، إيران: قم، تحقيق: رمضان قلى زاده المازندراني.

114 - نهاية النهاية في شرح الكفاية: الميرزا علي الإيرواني النجفي (ت 1354ﻫ) نشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين (1370 ﻫ)، إيران - قم.

115 - نهج البلاغة: جمع وترتيب الشريف الرضي (ت 406 ﻫ) من كلام سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)، الطبعة الأولى (1412 ﻫ)، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر - لبنان: بيروت، شرح الشيخ محمَّد عبده.

116 - النوادر: ينسب إلى أبي جعفر أحمد بن محمَّد بن عيسى الأشعري القمي توفي في

ص: 205

القرن الثالث الهجري، الطبعة الأولى، مطبعة أمير - قم (1408 ﻫ).

117 - وسائل الإنجاب الصناعية: السيد محمَّد رضا السيستاني، الطبعة الأولى 1425 ﻫ/2004 م، طبع: دار المؤرخ العربي - لبنان: بيروت.

118 - وسيلة النجاة: السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني (ت: 1365 ﻫ)، مع تعاليق السيد محمَّد رضا الموسوي الكَلبايكَاني (ت: 1414 ﻫ)، الطبعة الأولى 1393 طبع مهراستوار: إيران - قم.

119 - وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول: تقرير أبحاث السيد أبو الحسن الأصفهاني (ت 1361 ﻫ) بقلم الميرزا حسن السيادتي السبزواري (ت 1385 ﻫ)، الطبعة الأولى (1419 ﻫ)، نشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، إيران - قم.

ص: 206

رواية السراد عن ثابت بن دينار - السيد غيث شبر (دام عزه)

اشارة

لا تخفى أهمية البحث الرجالي في مضمار التحقيق الفقهي، ولا يخفى مدى تأثيره على مجريات الفتوى في ما بعد، والبحوث الرجالية على أصناف متعددة، والصنف الذي سنقوم بمعالجة واحدة من مسائله يتعلق بالترابط الطبقي في داخل سلسلة الرواة، ومن ضمن مسائل هذا الصنف مسألة ملاقاة الحسن بن محبوب السراد لأبي حمزة الثمالي، التي توثر نتيجتها على عدد غير قليل من الروايات، ولذا ذكر فيها العديد من الحلول والمقالات فهذه المسألة العتيدة وإن كانت قد أشبعت بحثاً وتدقيقاً إلا أننا نسعى إلى لملمة شتات

الأقوال فيها، ونحاول أن نقدّم سرداً وحلاً موضوعياً لها، وعلى الله التوكل، ومنه نستمد العون.

ص: 207

ص: 208

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين خير الخلق أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد، فقد روى الحسن بن محبوب عن أبي حمزة الثمالي - كما يظهر من الأسناد - في موارد عديدة، حتى أحصينا منها (25) مورداً في الكافي وحده، فضلاً عن الموارد الأخرى في بقية كتب أصحابنا، ولا تنحصر أهمية القضية في عدد هذه الموارد فقط، بل في مواضيعها المختلفة والمتنوعة، فترى أنه قد روي بهذا التسلسل السندي ما يخص التوحيد والإمامة، والظهور، والأخلاق والسنن والتوكل، والرضا بالقضاء، وقصص الأنبياء، وتصنيف أي القران المجيد، وتفسير بعض آيات الأحكام، وكذلك الفقه، والفتوى، حيث دخلت تلك الروايات بهذا التسلسل السندي في أبواب متعددة من العبادات كالطهارة والصلاة وصلاة المريض والطواف، وكذلك في المعاملات، في أبواب الرهن، والطلاق والعتق والكفارات والظهار، وكذلك في القضاء. ومن هنا كان البحث في هذه الإشكالية وأصلها وحلّها من الأمور المهمة للعاملين في هذا المجال، ولنبدأ أولاً بمنشئها.

منشأ الإشكالية:

نجد في كثير من الأخبار رواية الحسن بن محبوب السراد عن أبي حمزة الثمالي من غير واسطة، والحال أن أبا حمزة الثمالي توفي على ما هو المسطور في كتب الرجال سنة

ص: 209

(148ﻫ) أو (149ﻫ) وعلى أبعد الأقوال سنة (150ﻫ ) (1)، وهو مساند بلحاظ موقعه السندي، وما يُعرف من سيرة الرجل، في حين أشار الكشي إلى أن وفاة الحسن بن محبوب كانت سنة (224ﻫ) عن خمسة وسبعين عاماً(2)، أي أنه ولد - على هذا - سنة (149ﻫ)، وهو أيضاً مؤيَّد بلحاظ المتيقن والمعروف من موقعه السندي، فيكون على هذا قد ولد بعد وفاة أبي حمزة الثمالي أو قبلها بسنتين على أفضل تقدير، فكيف تسنّى له أن يروي عن أبي حمزة ثابت بن دينار الثمالي على هذا الجدول الزمني؟ وما الذي يمكن أن يقال، أو قد قيل في تلك المسألة القديمة؟

وجود الإشكالية في زمن ابن محبوب وهذه الإشكالية ليست وليدة النظر والاستنتاج من مقارنة السنين فحسب، بل هي أمر تحدث عنه معاصر و الحسن بن محبوب وقد عاشها هو نفسه، ولعل اتهام الحسن ابن محبوب بتلك الرواية كان معروفاً بينهم، ويشير إلى هذا المعنى ما روي في الاختيار من أنَّ الكشي قال: (قال) نصر بن الصباح: أحمد بن محمد بن عيسى لا يروي عن ابن

ص: 210


1- حيث ورد في اختيار معرفة الرجال (1/ 339) (وبقي أبو حمزة إلى أيام أبي الحسن موسى بن جعفر (علیهما السلام) مما يعني بقاءه بعد 148ﻫ. وفي اختيار معرفة الرجال (2/ 458) عن علي ابن فضال: (أن أبا حمزة وزرارة ومحمد بن مسلم ماتوا سنة واحدة بعد أبي عبد الله (علیه السلام) له بسنة أو بنحو منه) مما يعني أنه توفّي بعد وفاة الصادق (علیه السلام) سنة 148 بسنة أو نحوه، وفي اختيار معرفة الرجال أنه توفي قبل وفاة الصادق بإخباره (علیه السلام) بذلك أي أنه توفي قبل 148 ﻫ وهذا خطأ وسيأتي بيانه. وذكر الشيخ أنه توفي سنة 150ﻫ، في موضعين من رجاله رجال الشيخ، ص 110، ت 1083، وص 174، ت2047، وهو القوي والمناسب لقول ابن فضال، وهو أيضاً ما اعتمده النجاشي في رجاله ص 115، ت296 .
2- اختيار معرفة الرجال: 2/ 851.

محبوب؛ من أجل أن أصحابنا يتهمون ابن محبوب في روايته عن أبي حمزة، ثم تاب أحمد ابن محمد فرجع قبل ما مات) (1) .

ونقل النجاشي عبارة الكنّي أيضاً، فقال: (قال الكشي عن نصر بن الصباح: ما كان أحمد بن محمد بن عيسى يروي عن ابن محبوب، من أجل أن أصحابنا يتهمون ابن محبوب في أبي حمزة الثمالي) (2) .

وذكر في الاختيار عن نصر أيضاً: (وأصحابنا يتهمون ابن محبوب في روايته عن ابن أبي حمزة) (3).

ولا يقال: إنَّ نصر بن الصباح ممن لا يعتمد عليه لعدة أمور:

الأول: إنَّ المقارنة الطبقية والزمنية تؤيد بشكل كبير كلام نصر .

الثاني: إنَّ تلك الأحداث في ذلك الوقت القريب نسبياً مما يستبعد فيها سهولة الكذب؛ فإنها من الوقائع الاجتماعية في مجتمع الرواة، إضافة إلى قلة دواعي الكذب في مثلها، وتطرّق نصر بن الصباح في كلامه إلى هذه الإشكالية يشير إلى كونها قديمة، إن لم تكن بقدم جيل تلامذة الحسن الذين هم من السابعة فهي لا أقل موجودة في جيل مَنْ بعدهم بلا أي ريب، لأنَّ نصراً منهم، وعلى كل حال فإنَّ نصراً روى أيضاً في عثمان بن عيسى الرؤاسي الكوفي أنه (كان يروي عن أبي حمزة الثمالي ولا يتهمون عثمان بن عيسى) (4)، للإشارة إلى اتهام الحسن بن محبوب في قباله في روايته عن أبي حمزة الثمالي، مع وضوح الخلل في الاستظهار الذي وقع فيه بعض من وثق عثمان بن عيسى بهذه

ص: 211


1- اختیار معرفة الرجال: 2/ 799.
2- رجال النجاشي: 81.
3- اختیار معرفة الرجال: 2/ 851.
4- اختيار معرفة الرجال: 2/ 860.

العبارة؛ فإنهم لم يربطوها بالعبارة السابقة لها، وهي روايته عن أبي حمزة الثمالي، ولم يحضر لهم نقل نصر اتهام الأصحاب للحسن لروايته عن أبي حمزة؛ فتصوّروها جملة منفردة في إفادة المدح والتوثيق من أنَّ عثمان بن عيسى ممن لا يتهمه الأصحاب. نعم، عثمان بن عيسى ممن يوثق به، ولكن ما نقله نصر لا يصلح مدركاً البتة، حتى بعد فرض إمكان الاعتماد على قول نصر في التوثيق.

الثالث: إنَّ الكفّي نقل هذه التهمة عند سرده لقول نصر ناسباً إياها إلى أصحابنا، مما يعني نحواً من الإشارة إلى اجتماعية تلك القصة في السابعة، فلا يحصل القطع بانحصار تردد التهمة من طريق نصر، بل الأظهر أنها كانت مما يعرف بينهم حينئذ. الرابع: إنَّ لنصر أقوالاً في تحديد الرجال والطبقات يظهر بعد التدقيق فيها صحتها و دقتها وإن كان يظهر منها بدواً غرابتها، منها على سبيل المثال وصفه علي بن السندي أنه هو نفسه علي بن إسماعيل، وبعد التدقيق والتمحيص تبيَّن أن قول نصر حق، وإن لم يثبت عند السيد الخوئي (رضوان الله علیه) اتحاده.

فقد ظهر أن روايات الشيخ المبتدئة به إلى حريز وحماد رواها الصدوق في الفقيه عن حريز أو عن حماد، ومن الرواة فيها عن حماد هو علي بن إسماعيل بن عيسى، مما يؤكد أن اسم الموماً إليه (علي بن السندي)، وسبق أن فصَّلنا ذلك في محل آخر (1)، مما يشير إلى إمكانيات وقابليات نصر في هذا المجال، ولعل هذا ما دعا الكثي وابن مسعود إلى سؤاله عن كثير من خفايا الرجال والطبقات، فليس من المناسب إهمال قول نصر في مثل هذا بتلك السهولة، بل اللازم إجراء مزيد من البحث والتدقيق في ما ينقله الكشي عنه.

وعلى كل تقدير فإنَّ الجدول الطبقي والزمني للرجلين مما يساند قبول رواية نصر هذه، ولا يبعد الوثوق بمضمونها عندها. وهنا مسالك ثلاثة:

ص: 212


1- معجم طبقات المكثرين: 121 / 306.

المسلك الأول: قبول الإشكال والتسليم بسقوط الواسطة

اشارة

وفيه اتجاهان:

الاتجاه الأول: التسليم بالضعف نتيجة للإرسال

قد ينسب ذلك إلى السيد البروجردي (رضوان الله علیه) وأنه ممن يذهب إلى هذا، كما يظهر ذلك من قوله في الترتيب: إن رواية ابن محبوب عن أبي حمزة مرسلة بلا ريب(1)، بل ومع ما نقل عنه طلبته بقوله بالإرسال، يتحكم أنه (رحمة الله) من القائلين بالإرسال، ومن ثم التسليم بضعف السند، بالنظر إلى ما يظهر مما قرر في بحث السيد الخوئي (رضوان الله علیه) من ذهاب بعضهم إلى الضعف؛ بسبب الإرسال (2) .

لكن تتمة كلام السيد البروجردي (قدس سره) تُظهر أنه يقول بالإرسال لا بمجرده، بل بعدم بعد تحقق الإجازة - كما سيأتي - مما لا ينفي عنده (قدس سره) كلل اعتبار السند بضرس قاطع. وكان السيد الخوئي (قدس سره) كل قدراً على القائل بالإرسال أو القائل بعدم الملاقاة مطلقاً بين السراد والثمالي بما حاصله: إنَّ مستند القول بعدم الملاقاة إنما هو قول نصر، وهو لا يُتابع في هذا، وإنَّ المقارنة الزمنية إنما تعتمد على رواية تاريخ وفاة الرجلين وأعمارهما، ورواية تواريخ الحسن بن محبوب ضعيفة السند بالقتيبي، وجعفر بن محمد بن الحسن بن محبوب (3).

ولا يمكن الالتزام بما التزمه (قدس سره) كلل في هذا، بل قد يرد عليه: إننا حتى لو لم نحظ من القتيبي بتحديد عمر الحسن ووفاته - مع أن نسبة هذا إلى القتيبي وجعفر ليست بذلك

ص: 213


1- ترتيب أسانيد الكافي: 1/ 200.
2- معتمد العروة الوثقى: 1/ 206.
3- معجم رجال الحديث: 4 / 298.

الأمر المتيقن - فإنَّ الإشكال قائم، قال نصر أو لم يقل، ذكر القتيبي أو الكنّي عُمر الحسن أو لم يذكرا.

وتقريب ذلك: إنَّ المشتغل بتحديد أزمان الرواة والطبقات يدرك بعد تتبع أسناد الحسن بن محبوب عدم إمكان ملاقاته مع أبي حمزة الثمالي في الحالات العادية؛ إذ الحسن ابن محبوب ممن روت عنه السابعة التي هي طبقة تلامذته.

فمن هؤلاء علي بن الحسن ابن فضال الذي كان له من العمر (18) عاماً) عند وفاة أبيه الحسن ابن فضال سنة (224ﻫ) أو (221ﻫ) على الصحيح، مما يعني أنه ولد في حدود (203ﻫ)، وليس من الصحيح وفق النظام الطبقي أن يروي عن أبي حمزة الثمالي الذي هو من الرابعة بواسطة واحدة وهي الحسن بن محبوب السراد، إلا أن يكون الحسن معمّراً، وإذا كان معمّراً كان عليه (قدس سره) ثل أن يشير إلى أنَّ المصحح للملاقاة هو طول العمر.

ومنهم أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري - وهو راوي كتبه كما في النجاشي - وأحمد بن محمد بن خالد البرقي، وهما ممن توفّي بعد (274ﻫ)، بل قيل: إنَّ البرقي توفي سنة (280 ﻫ) كما هو المنقول عن زوج ابنته شيخ الكليني، وأنَّ الأشعري كان من حضار جنازته، مما يعني أن تحديد وفاة الحسن بن محبوب بسنة (224 ﻫ) مناسب جداً لحالها، هذا إن لم تكن وفاته بعد العقد الثالث بعد المائتين، حتى يمكن أن يتلمذا لديه، وهنا فلو كان عمره طبيعياً فلا بُدَّ أن تكون ولادته بعد وفاة أبي حمزة الثمالي سنة (148ﻫ) بهذا التقريب، مطابقاً لوصف نصر.

وأما ما قيل في حق أحمد بن محمد بن عيسى - من أنه كان لقي الرضا (علیه السلام)، حيث نقل النجاشي ذلك عن ابن نوح وكذا فعل الشيخ قبله - فهو مما لا يمكن متابعته إلا إذا كان بمعنى ملاقاته له أيام صباه؛ فإنَّه يُحدس من أسناد أحمد الأشعري أنه ممن ولد قبل

ص: 214

بداية المائة الثانية بأقل من عقد أو نحوه، وقد توفي الإمام الرضا منه في بداية المائة الثانية سنة (203ﻫ) على المعروف.

ولما كان الحسن بن محبوب لم يُذكر في المعمرين، وأنه روى عن أستاذه المعروف علي ابن رئاب عن أبي حمزة الثمالي في موارد كثيرة، وكذا عن مالك بن عطية ونحوه من أهل الخامسة - من تلاميذ أبي حمزة - عن أبي حمزة، فالرجل ممن يُعلم من أسناده أنه من السادسة، وقد روى عن الخامسة، وروت عنه السابعة.

فالسراد قد روى وتلمذ بشكل متيقن ومكثر عند علي بن رئاب، ومالك بن عطية، والعلاء بن رزين وعبد الله . بن سنان والجميلين، وهشام بن سالم، وهؤلاء كلهم من الخامسة من تلاميذ أبي حمزة الثمالي ولا يقال إنه قد يكون روى عنهم وهو بعمرهم فإضافة إلى عدم إمكان المصير إلى ذلك إلَّا بالعلم به؛ فإنَّه خلاف عادة التلمّذ - لما يظهر بوضوح كونه أصغر بكثير منهم، خاصة مع ما ورد من أنَّ محبوباً كان يعطي ابنه الحسن در هماً في كل حديث يتعلمه من علي بن رئاب، مما يعني أنه كان صغيراً في العمر شاباً حَدَثاً حين تلمّذ عند ابن رئاب، وإلا فمن غير المناسب إذا كان: بعمر علي بن رئاب، وأن ابن رئاب هو بعمر الشيخ - أي زاد على الأربعين ؛ فإنَّ ابن رئاب كان شيخاً للحديث أيامها - أن يعطيه أبوه الدرهم تشجيعا للحفظ !! فهو لا بد أن يكون بعمر تلاميذ ابن رئاب، والحال أنَّ ابن رئاب بالكاد أدرك أبا حمزة.

ومما يشير إلى عدم كونه ممن أدرك أبا حمزة هو ما رواه الكشي عن (محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا الفضل، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فقال: (ما فعل أبو حمزة الثمالي؟) قلت: خلفته عليلاً، قال: (إذا رجعت إليه فاقرأه مني السلام، وأعلمه أنه يموت في شهر كذا في يوم كذا). قال أبو بصير: قلت: جعلت فداك، والله لقد كان فيه أنس، وكان لكم شيعة.

ص: 215

قال: (صَدَقت، ما عندنا خير لكم من شيعتكم معكم)(1)، قال: (إن هو خاف الله وراقب نبيه وتوقى الذنوب، فإذا هو فعل كان معنا في درجتنا)، قال علي: فرجعنا تلك السنة فما لبث أبو حمزة إلا يسيراً حتى توفّي) (2).

حيث إن محمد بن إسماعيل في هذه الرواية هو النيشابوري الذي وثقنا بروايته كما فصلناه في بعض ما كتبناه (3) تبعاً لاعتماد روايته من السيد الخوئي (قدس سره) وكذا أستاذنا السيد محمد باقر السيستاني (دامت افاداته)

والفضل هو ابن شاذان، وهو الثقة الجليل المتوفى سنة (260ﻫ)، تلميذ الحسن بن محبوب، وفي هذه الرواية يروي ابن محبوب قصة موت أستاذه - حسب الفرض - بواسطتين!! وليس هذا فحسب، بل وينقلها غلطاً؛ فإنَّ أبا حمزة كما سيأتي - في هذا البحث - توفي بعد الصادق (علیه السلام)، وليس قبله (علیه السلام)!!

وعلى كل تقدير إذا لم يكن الحسن بن محبوب معمّراً فلا بد من سقوط الواسطة، وكونه من السادسة مما لا خلاف عليه وفق المتداول من أنظمة الطبقات، بينما الثمالي مردد بين الثالثة والرابعة، وتوفّي مع الرابعة بلا أدنى ريب، فالقول بالإرسال هو الأصل، ولا يحتاج إلى إثباته بقول القتيبي أو نصر، ومدعي المباشرة هو المطالب بالدليل.

ص: 216


1- العبارة في المتن كما في المطبوع، وهي مربكة، ولكن في نسخة السيد العلامة الكركي المخطوطة في الهامش زيادة فقلت له، فتنسجم هذه الزيادة مع الرواية؛ فتكون العبارة: (فقلت له: من شيعتكم؟ معكم ؟ قال: إن هو خاف الله.. إلى آخر الرواية).
2- اختیار معرفة الرجال: 2/ 458.
3- الوافي في تحقيق أسناد الكافي: 2/ 84.

الاتجاه الآخر: تصحيح السند بالبناء على اعتبار الواسطة

اشارة

ونتعرض هنا لأمرين:

الأمر الأول: سبب سقوط الواسطة
الإجابة الأولى

سقوط الواسطة من كتاب المشيخة:

قد يقال: إن روايات الحسن بن محبوب إنَّما كانت بواسطة، وأنَّ هذه الواسطة قد سقطت عند انتزاع رواياته من كتاب المشيخة الذي كان ترتيبه أولاً وفق المشايخ، فيُفرد لكل شيخ من مشايخه كتاباً أو باباً ثم يسرد ما رواه عنه فيه، ويحدث كثيراً، بل بشكل شبه دائم أن يعلق الراوي في سرد الرواية فيهمل ذكر الشيخ. والتعليق من أهم مميزات الرواية واختصار السند في ذلك الزمن الذي تكون فيه تلك الاختصارات ضرورة ملحة لسرعة إنجاز الكتب وقلة تكلفتها.

وحصول هذا السقط لا بُدَّ أن يكون بعد انتزاع روايات الحسن من كتاب المشيخة وإهمال التعليق - كما يعرفه المطالع للمخطوطات القديمة وطريقة كتابتهم الروايات، وأنَّ إهمال المنتزع للتعليق يوقع في الكبس حتى الملتفت إليه أحياناً - فإنهم قد بوبوا كتاب الحسن فيما بعد باعتبار أبواب الفقه، فأصبح كتاباً فقهياً بتبويب موضوعات الفقه، بعد أن كان كتاباً فقهياً مرتباً وفق روايات المشايخ.

لكن هذا التقريب لسقوط الواسطة لا ينهض بشكل قوي لحل الإشكال؛ لسبب أنَّ الإشكال إنَّما كان في زمن أحمد بن محمد بن عيسى وهو تلميذه، أو على أقل تقدير في زمن تلاميذه الذين هم من جيل نصر، فلا يحتمل أن يكون أحمد قد غفل عن هذا أو غفل تلاميذه عنه، بل يمتنع القول بحصول السقط في زمن الحسن وأحمد وكلاهما حي يرزق!! وتوهم السقط من تلاميذ أحمد أيضاً مستبعد جداً، فإنَّ السقط إنَّما يحدث في روايات الشيخ بعد أخذ كتبه وتدريسها وروايتها بعد مدة مديدة، حيث يخفي التعليق

ص: 217

وتبعد الطبقة فيحصل الوهم، لا أنه يرويها مسقطاً للواسطة إلا أن يكون مدلساً.

الإجابة الأخرى

إنَّ ابن محبوب كان يظهر منه التدليس؛ ولهذا اتهمه أحمد، وهذه التهمة مع أنها لا تنافي الوثاقة إلا أنها لا تتناسب ومقام الحسن بن محبوب - الذي هو أحد الأركان الأربعة -، وأنها لو كانت هي العلة لما تاب أحمد ورجع وروى عنه، فقبول هذه الدعوى غير متجه.

الأمر الآخر: معرفة الواسط
اشارة

وعلى فرض سقوط الواسطة من كتاب المشيخة، فالأقوال في تحديد الوثوق بالواسطة الساقطة تدليساً أو لخلل ما لا نعرفه هي:

الأول: الواسطة هو ابن رئاب شيخه الأشهر وتلميذ الثمالي الأشهر

وهذا الاحتمال وإن كان يعضده اشتهار كون علي بن رئاب ممن يتوسط بين السراد والثمالي، حتى أن العامة ذكروا وصف ابن رئاب في كتبهم بذا، فقال: في إكمال الإكمال: (علي بن رئاب: من الشيعة، أحسبه كوفياً. روى عن أبي حمزة الثمالي، روى عنه الحسن ابن محبوب)(1). وكذا قصة أنَّ محبوباً أبا الحسن كان يعطي ولده الحسن درهما عن كل حديث يحفظه عن علي بن رئاب والتي مرَّ ذكرها.

إلا أنَّ هذا لا يستقيم؛ فإنَّ هناك أسماء أخرى تتوسط بين أبي حمزة الثمالي والسراد، فكثيراً ما يروي الحسن بن محبوب عن أبي حمزة بواسطة مالك بن عطية، وهشام بن سالم، ومحمد بن الفضيل، ولعلَّ علي بن رئاب ليس أكثرهم توسطاً، ولا يغني في المقام حتى لو كان الأكثر، فإنَّ من المقطوع به أنَّ مجموع ما توسط به الثلاثة أكثر مما توسطه هو فليلاحظ.

ص: 218


1- إكمال الإكمال: 4 / 5 .

وكذا الكلام لو احتمل أن يكون الواسطة هشام بن سالم، ولعله هو أكثر مَنْ توسط بين السراد والثمالي خاصة في روايات العقائد، وأيضاً هو عين الكلام الجاري في احتمال كونه مالك بن عطية، فتعين الواسطة بأحد مشايخ الحسن بن محبوب ترجيح بلا مرجّح.

الآخر: حسن الواسطة بحساب الاحتمال

وهذا الاحتمال أيضاً لا يصار إليه، خاصة مع توسط محمد بن الفضيل الموصوف بالضعف والغلو بقدر معتد به في الأسناد نسبة إلى توسط غيره من الثقات، فلا يمكن جريانها في المقام صغروياً.

ص: 219

المسلك الثاني: القول بعدم الملاقاة وعدم الواسطة

اشارة

وفيه طريقان

الطريق الأول: أنها بالوصية

والوصية هي الإجازة للمواليد والصبيان ولمن لم يولدوا بعد، ويظهر من السيد البروجردي (رحمة الله) إقراره بعدم إمكان الملاقاة بين الحسن بن محبوب وأبي حمزة الثمالي، لكنه يذهب إلى أنَّ منشأ المباشرة في أسناد الحسن إلى أبي حمزة كان عن طريق الإجازة، بنحو إجازة المواليد، فقال (قدس سره) بحسب ما يظهر مما قرّر عنه: (ولا يبعد أن تكون رواياته عنه مرسلة؛ لكون وفاة ابن محبوب قد وقعت قريباً من (220 ﻫ) ووفاة أبي حمزة قد وقعت قريباً من سنة (150) وعمر ابن محبوب سبعين سنة على ما ذكره الكشي وعن النجاشي، فيصير ابن محبوب قد أدرك أبا حمزة في أوائل تولّده، ولا يمكن بمقتضى العادة والمتعارف روايته عنه إلا أن يكون أبوه قد استجاز من أبي حمزة لولده في رواية الحديث كما كان مرسوماً عند أ عند أصحابنا الرواة فكانوا يستجيزون الصغار أولادهم) (1).

وكذا يظهر من تقريرات طلبته أيضاً أنه قال: (الأجل أنَّ الأصحاب كانوا يتهمونه - الحسن - في روايته عن أبي حمزة الثمالي، أما وجه الاتهام فهو: أنَّ الثمالي كانت سنة وفاته (150) وكان ابن محبوب متولدا في هذه السنة، و، وعليه فكيف يعقل أن يروي هو عن الثمالي بلا واسطة ؟ فروايته عنه كذلك كانت تنافي وثاقته عندهم وا . وأما وجه رجوع أحمد ابن محمد بن عيسى عن ترك روايته عنه وتوبته عن ذلك؛ أنَّه كان نقل الحديث من أهم ما يُعتنى به عند الأصحاب، ومن شدة عنايتهم به أنهم كانوا يريدون إبقاءه في أعقابهم

ص: 220


1- تقرير بحث السيد البروجردي في القبلة والستر ومكان المصلي: 151.

فجوزوا الاستجازة من شيوخهم للأطفال حتى يرووا عن مشايخهم بلا واسطة بعد بلوغهم؛ فمن القريب أن يكون أبو حمزة كان قد أجاز لابن محبوب روايته عنه وهو ابن سنة باستجازة أبيه محبوب بن وهب؛ فتصح إذن رواية ابن محبوب عن أبي حمزة بلا واسطة، ويؤيد ذلك أن أباه كان يعطى ابنه هذا حسناً بكل حديث يكتبه عن علي بن رئاب درهماً، وهذا يكشف عن شدَّة عناية أبيه بروايته للأخبار ونشره لأحاديث الأئمة الأطهار سلام الله عليهم فصار بحمد الله كما أراد من أكابر المحدثين، بل من أركانهم) (1).

وقد كان قبله في الاستقصاء ممن قد احتمل كون ذلك بالإجازة ولم يذكر كونها من إجازة المواليد فقال: (لا يخفى أنَّ ذكر اتهام الأصحاب لا وجه له، بل هو على سبيل التحقيق، ولعل المراد بالتهمة أن روايته عنه حينئذ إنما تكون بالإجازة، وعدم التصريح بذكر الإجازة في الرواية أوجب التهمة بالكذب؛ لأن ظاهر الرواية إذا لم تُقيّد بالإجازة أنها بغيرها من طرق التحمّل. ثمَّ إنَّ رجوع أحمد بن محمد . عن ذلك لعله لترجيح جواز إطلاق الرواية من غير ذكر الإجازة، كما هو مذهب بعض العلماء على ما قرروه في علم الدراية، على أن أحمد وإن لم يرجّح هذا، لكن إذا حصل الوجه المسوغ للرواية جاز أن يكون الحسن بن محبوب اختاره، غير أن النجاشي كان عليه بيان حقيقة الحال) (2).

ولم يرتض السيد الأستاذ (دامت افاداته) هذا كله، وقال: (إنَّ هذا الوجه لا يخلو من بُعد، فإنَّ الرواية بالإجازة التي كانت متداولة في ذلك العصر، إنَّما كان موردها البالغ المؤهل لتحمل الحديث كما ورد فيهما حكي عن أحمد بن محمد بن عيسى، من أنه قال: خرجت إلى الكوفة في طلب الحديث فلقيت بها الحسن بن علي الوشاء فسألته أن يخرج لي [إلي]

ص: 221


1- زبدة المقال في خمس الرسول والآل 57
2- استقصاء الاعتبار: 2/ 147

كتاب العلاء بن رزين القلاء، وأبان بن عثمان الأحمر، فأخرجها إلي، فقلت له: أحب أن تجيزهما لي، فقال لي: يا رحمك الله، وما عجلتك؟ اذهب فاكتبها واسمع من بعد، فقلت: لا آمن الحدثان، فقال: لو علمت أنَّ هذا الحديث يكون له هذا الطلب؛ لاستكثرت

منه) (1).

وثبوت هذا على كل تقدير غير نافٍ لوجود حالات الإجازة للمواليد، وإن لم تكن تمثل ظاهرة في المجتمع الروائي، فإن تطوّر أساليب نقل الرواية من جيل إلى آخر إنَّما نشأ بشكل عرفي بسيط حتى تطوّر تدريجياً إلى أصول وسلوكيات خاصة تمثل آداب نقل الحديث، وقواعده.

وعلق (دامت افاداته) أيضاً على إجازة الصغير قائلاً: (وأما إجازة الصغير في رواية الكتب و اعتماد الصغير بعد بلوغه على تلك الإجازة في النقل عنها فلم يعهد له مورد فيما نعلم إلا ما تقدم بشأن حفيد أبي غالب الزراري، ولكن كان ذلك حالة خاصة شرح الزراري ملابساتها في كتابه فليراجع) (2).

وليس كلامه (دامت افاداته) مما يمكن المصير إليه في هذا المورد، فقد اختلفوا - منذ العصر الأول - في تحمّل الصبيان وجوازه وعدمه، واختلف المجوّزون بعد ذلك في أقل سن يمكن للصبي أن يتلقى فيه،، واختلافهم في المسألة فرع معروفيتها وتحققها في الخارج،

كما لا يخفى.

قال في نهاية الدراية: نقل القاضي عياض (476ﻫ - 544ﻫ)، أنَّ أهل هذه الصنعة حدّدوا أوَّل زمن يصح فيه السماع بخمس سنين. وقال بعضهم: (وعلى هذا استقر العمل). والصواب اعتبار التمييز، فإن فهم الخطاب ورد الجواب كان مميزاً

ص: 222


1- قبسات من علم الرجال: 2/ 323.
2- نفس المصدر: 2/ 324.

صحيح السماع، وإلا فلا. وقال بعض فضلائهم والذي استقر عليه عمل أصحابنا المتأخرين أن يكتبوا لابن خمس: (سمع)، ولمن دونه (حضر) و (أُحضر). ولا متحاشون من كتابة الحضور لمن حضر من الصغار، ولو كان ابن يوم أو ابن سنة أو أكثر حتى يبلغ من السماع). وقال بعضهم: (يعتبر كل صغير بحاله، فمتى كان فهيماً للخطاب وردّ الجواب صححنا سماعه وإن كان له دون خمس، وإن لم يكن كذلك لم يصح سماعه وإن كان ابن خمسين). وهذا هو الأصح. وقد ذكر بعض المؤرخين أنَّ صبياً ابن أربع سنين حمل إلى المأمون وقد قرأ القرآن ونظر في الرأي غير [أنه] إذا جاع يبكي) (1).

بل يظهر من الخطيب البغدادي (ت 463ﻫ) عمق هذه المسألة، وأنَّ هناك خلافاً قبل زمنه بأكثر من جيل فيها، حيث قال: سألت القاضي أبا الطيب طاهر بن عبد الله الطبري عن الإجازة للطفل الصغير، هل يعتبر في صحتها سنه أو تميزه كما يعتبر ذلك في صحة سماعه؟ فقال: لا يعتبر ذلك، والقياس يقتضي على هذا صحة الإجازة لمن لم يكن مولوداً في الحال، مثل أن يقول الراوي للطالب أجزت لك ولمن يولد لك، فقلت له: إنَّ بعض أصحابنا قال: لا تصح الإجازة لمن لا يصح سماعه، فقال: قد يصح أن يجيز للغائب عنه ولا يصح السماع منه لمن غاب عنه أو كلاماً هذا معناه. قلت: والإجازة إنَّما هي إباحة المجيز للمجاز له رواية ما يصح عنده أنه حديثه، والإباحة تصح للعاقل وغير العاقل، وليس تريد بقولك الإباحة الإعلام، وإنما تريد به ما يضاد الحظر والمنع، وعلى هذا رأينا كافة شيوخنا يجيزون للأطفال الغيب عنهم من غير أن يسألوا عن مبلغ أسنانهم وحال تمييزهم، ولم ترهم أجازوا لمن لم يكن مولوداً في الحال؟ ) (2).

فترى أستاذ الخطيب البغدادي والذي هو من الحادية عشر بحسب الفرض يحدث

ص: 223


1- نهاية الدراية: 473 .
2- الكفاية في علم الرواية: 363.

عن أشياخه أنهم كانوا يجيزون الأطفال، وأنها كانت حالة سائغة منتشرة بينهم.

وكذا أيضاً في ذيل تاريخ بغداد أن علي بن يحيى بن علي بن علي بن إسماعيل، أبو المكارم الكاتب المعروف بالزينب من أولاد الكتبة وأرباب الولايات، (أُخِذَتْ) له إجازة وهو طفل من مشايخ أصبهان) (1)، وهو قد ولد سنة (500 ﻫ) وتوفي سنة ( 590ﻫ).

ووجود الخلاف في تحمّل الصبي غير البالغ في مطاوي الأصول، واستدلال أصحاب قبول إجازة الصبي إذا كان تلقيه قبل بلوغه وتحديثه بعده بالإجماع على قبول روايات غير البالغين قاضي بانتشار أو معروفيَّة الوصية للأطفال، سواء صح رأيهم أو فسد، فالمقام في وجود الظاهرة وليس في شرعيتها، وقد ذكر الزركشي في سرد أدلة المجوّزين أنه: (روی محمود بن الربيع حديث المجة التي مجها النبي صلى الله عليه وسلّم وهو ابن خمس سنين، واعتمد العلماء روايته ذلك بعد بلوغه وجعلوه أصلاً في سماع الصغير، والإجماع على إحضار الصبيان مجالس الروايات)(2).

فإن وجود ظاهرة خلافية في المجتمع الروائي في الطبقة العاشرة يشير وبقوة إلى نشأة هذه الظاهرة كحالات فردية في أجيال،سابقة، وتطورت شيئاً فشيئاً حتى أصبحت ظاهرة تناقش في المجامع العلميَّة؛ فإنَّ أغلب آداب الحديث إنَّما تطورت بهذا البطء الزمني، ولك شاهد في تطور أشدّ الظواهر الحديثية المتكرّرة كالعنعنة وإفادتها الملاقاة وهي ينبغي أن تكون أسرع في انضمامها إلى الآداب الخاصة بالعلم من غيرها. ولكن حتى مع القول بانتشار أو معروفيَّة الإجازة للمواليد والخلاف في قبولها وعدمه إلا أن القول بتعين هذا الاحتمال في مورد روايات الحسن بن محبوب عن أبي حمزة الثمالي - وإن كان له ما يؤيده مما روي أنَّ أبا حسن محبوباً كان يهتم بأخذ الرواية

ص: 224


1- ذیل تاریخ بغداد: 4 / 195.
2- البحر المحيط: 3/ 328.

لولده - إلا أن هناك قصوراً في المقتضي بثبوت تحقق هذا، فيبقى احتمالاً صرفاً وإن كان مناسباً، إلا أنه غير واف بإثبات حلّ موثوق به للمسألة.

الطريق الآخر: أنها بالوجادة

بتقريب: أن ابن محبوب كان يحدث عن كتاب أبي حمزة الذي وجده. وعليه جمع، فبعد أن ذكر الوحيد البهبهاني أنَّ منشأ الشبهة هو من ملاحظة سني الوفاة، قال: (الظاهر أنَّ روايته [ الحسن] عن كتابه [الثمالي]. وغير خفي أنَّ هذا ليس بفسق ولا منشأ للتهمة، بل لا يجوز الاتهام بأمثال - سيما - مثل الحسن الثقة) (1).

وعن بعضهم: (: (أما في رواية الحسن بن محبوب عن أبي حمزة فالأصل فيه نصر بن الصباح، وأما أحمد بن محمد بن عيسى فإن كان قد سبقه في ذلك إلَّا أنَّه تاب ورجع عنه. وكيف كان)، فالظاهر أنَّ منشأ التوقف عدم درك الحسن علياً، كما يظهر من تاريخ ولادة الأول ووفاة الثاني، لكن بعد الإقرار بوثاقة الرجل وعده من الأركان الأربعة في زمانه، لا ينبغي الإسراع إلى اتهامه، بل يجب أن نحمل ذلك على أحسن محمل، وهو أخذ الحسن الرواية من كتاب علي، ومثله غير عزيز، بل هو أكثر كثير، ولا ينبغي الحمل على الإرسال، إذ لا يخلو من نوع تدليس وتغرير ) (2).

وقوله: عدم درك الحسن علياً كما يظهر من تاريخ ولادة الأول ووفاة الثاني. سهو واضح، والظاهر أنه يقصد لم يدرك،ثابتاً)، وقوله: (أخذ الرواية من علي، ومثله غير عزيز، بل هو أكثر كثير). أيضا سهو وهو يقصد (ثابت)، وهذا من باب حسن الظن وإلا فإن كان يقصد البطائني فهو غلط.

ص: 225


1- تعليقة على منهج المقال: 130.
2- منتهى المقال: 2/ 48

ولم يرتض السيد الأستاذ (دامت افاداته) هذا، وقال: (إنَّ من البعيد جداً اعتماد ابن محبوب على كتب أبي حمزة في الرواية عنه من دون سماع ولا قراءة ولا مناولة ونحو ذلك، مع أنه لو كان الأمر كذلك؛ لما اختص بأبي حمزة، وكان له أن يروي كتب محمد بن مسلم وزملائه من الطبقة الرابعة بالطريقة نفسها، فتدبر) (1) .

فلو كان ممن يلتزم الوجادة لحكى عن غيره ممن اشتهرت كتبهم أكثر من كتب أبي حمزة، وللسيد الأستاذ (دامت افاداته) كل الحق في استبعاد هذا الوجه، ويظهر ذلك جلياً لمن تدبّر.

ص: 226


1- قبسات من علم الرجال: 2/ 325.

المسلك الثالث: حل الإشكال والقول بالمباشرة

اشارة

ونذكر هنا عدة حلول:

الحل الأول: المراد به البطائني

احتمل بعضهم أن عبارة الكنّي مصحفة، والصحيح بدلاً من (روايته عن أبي

حمزة) هو (روايته عن ابن أبي حمزة، ويكون المقصود به (علي بن أبي حمزة البطائني) الملعون في الرواية، وأن الاتهام نشأ من كونه يروي عنه وهو ضعيف واقفي، وليس للكلام تعلّق بالطبقة. وهذا الاحتمال مما لا مصير إليه، ومن الغريب صدوره عن غير علم، أليس زملاء الحسن ممن هم في مرتبته ومن هم أعلى منه شأنا رووا عن البطائني، فلم اختص الحسن بالتهمة لروايته عنه دونهم؟

قال القهبائي: (والمراد منه علي بن أبي حمزة البطائني، فإنَّ ابن محبوب روى عنه أي عن البطائني] كما سيأتي في ترجمة ثابت بن دينار أبي حمزة الثمالي حيث روى ابن محبوب عن البطائني رواية في وفاة أبي حمزة]، ووجه التهمة حينئذ: أنَّ ابن محبوب أمتن وأجل من أن يروي عن علي بن أبي حمزة البطائني؛ فإنَّه واقفي، خبيث، ردي، معاند للرضا (علیه السلام)) (1) وقال السيد التفرشي: (وما نقله النجاشي عن الكثي عن نصر بن الصباح: أنَّ أحمد بن محمد بن عيسى لا يروي عن ابن محبوب؛ من أجل أن أصحابنا يتهمون ابن

ص: 227


1- ينظر مجمع الرجال: 1/ 161 في ترجمة أحمد بن محمد بن عيسى، وكذا في ترجمة الحسن بن محبوب: 2/ 144

محبوب في روايته عن أبي حمزة الثمالي... إلى آخره، محمول على السهو، ولعل ما ذكره الكتّي هو علي بن أبي حمزة البطائني الضعيف كما لا يخفى)(1).

أقول: المشكلة قائمة، قال نصر أم لم يقل، فالسراد ولد قرب وفاة الشمالي إن لم يكن بعدها، ولا شك ولا ريب في رواية السراد عن الثمالي في بطون الأسناد، ثم لماذا اقتصر الأصحاب على اتهام ابن محبوب لأنه روى عن البطائني وهو ضعيف، أليس أجلاء الأصحاب ممن روى عنه أيضاً؟ أليس البزنطي، وابن أبي عمير، وصفوان، ممن اشتهر - على ما نقله الطوسي - من إنهم لا يروون إلا عن ثقة قد رووا عنه؟ ولم يقدح ذلك فيهم، ولا أعلم كيف يخفى كل هذا على السيد (رضوان الله علیه)، وهو يصرح أخيراً بقولته (رحمة الله): (كما لا يخفى).

ثمَّ إنَّ الحسن روى عن ثابت بن دينار، وبعنوان أبي حمزة مقيداً بالثمالي، وبما لا يحتمل التصحيف لروايته عن السجاد والباقر (علیهما السلام) ممن لم يدركها البطائني، فقد روى الحسن بن محبوب، عن عنوان أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين في مواضع من الكافي (2) وعن أبي جعفر الباقر، وأبي عبد الله الصادق (علیهم السلام) في أخرى (3).

فرواية الحسن بن محبوب عن ثابت بن دينار أبي حمزة الثمالي لا ريب في وجودها في بطون الأسناد، وهناك شك قائم في تحقق الملاقاة بينهما لا ريب، وأما البطائني فليس من الرائج أن يتهم الأصحاب من يروي عنه، وقد روى عنه جلّتهم.

ص: 228


1- نقد الرجال: 1/ 169 .
2- ينظر الكافي: ((2 (81)، (2 (32) على سبيل المثال لا الحصر.
3- ينظر الكافي: (1/ 368)، (1882)، (2 (29)، (2 (30)، (2/ 423)، (2/ 496)، (5 (80)، (1355)، (6 (156)، (410 على سبيل المثال لا الحصر.

الحل الثاني: تعمير ابن حبوب

وذلك بتقريب: أنَّ الوارد في عُمر الحسن بن محبوب هو (خمس وتسعين)، وليس (خمس وسبعين). باعتبار أنَّ ما ذكر عن الكني، في الاختيار: (ومات الحسن بن محبوب في آخر سنة أربع وعشرين ومائتين، وكان من أبناء خمس وسبعين سنة )، مصحف، وأنَّ الصحيح هو (تسعين) مكان (سبعين) كما أشارت إحدى المخطوطات، فيكون عمره حين توفي الثمالي نحو عشرين سنة، وحينذاك فلا مشكلة زمنية في البين، ولا يضر قول لأنه لا يعتد به، خصوصاً وأنه هنا خلاف المقايسة الزمنية، وهذا ما حكي عن نصر صاحب القاموس.

لكن هذا ليس بسديد؛ فإنَّه لو كان معمّراً وعمر إلى خمسة وتسعين عاماً، لما كان صغيراً عند أخذه من ابن رئاب، ولكان ابن رئاب زميله عند أبي حمزة، ولكن الحال أنَّ الكثي أو نصر قال: (سمعت أصحابنا أن محبوباً أبا حسن كان يعطي الحسن بكل حديث يكتبه عن علي بن رئاب درهماً واحداً)، وهذا يشير إلى كونه صبياً أو فتى شاباً عند تلمذه عند علي بن رئاب، وأنَّ أباه محبوباً كان يعطيه الدرهم لتشجيعه على الحفظ. ومما يؤكد عدم كونه من المعمرين هو ما صح إليه من رواية في ذكر سنة وفاة أبي حمزة الثمالي، المارة التي رواها الكثي عن محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا الفضل، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، قال: دخلت على أبي عبد الله الله فقال: (ما فعل أبو حمزة الثمالي؟). قلت خلفته عليلاً، قال: (إذا رجعت إليه فاقرأه مني السلام وأعلمه أنه يموت في شهر كذا في يوم كذا... قال علي: فرجعنا تلك السنة فما لبث أبو حمزة إلا يسيراً حتى توفّي) (1).

ص: 229


1- اختيار معرفة الرجال: 2/ 458.

حيث إن محمد بن إسماعيل في هذه الرواية هو النيشابوري الذي وثقنا بروايته كما قدمناه في محله (1)، والفضل هو: ابن شاذان الثقة، تلميذ الحسن بن محبوب، وفي هذه الرواية يروي ابن محبوب عن علي بن أبي حمزة البطائني الذي . هو عند تلك الرواية بعمر الحسن بن محبوب بحسب فرض كون الحسن معمّراً وهو يروي لزميله ابن محبوب قصة موت أستاذ الحسن بن محبوب عن طريق أستاذه (أستاذ البطائني أبو بصير)!!، وفي هذه الرواية يكون أبو حمزة توفي قبل نهاية سنة (148ﻫ).

في حين أن أبا حمزة كما يظهر أنه توفي سنة (150ﻫ) كما نص عليه الشيخ والنجاشي والصدوق وكما في الكنّي، ويخالفها هذه الرواية وهي ضعيفة بالبطائني فيصعب أن تصمد بوجه المؤشرات الكثيرة التي أشارت إلى كونه ممن أدرك برهة من زمن الإمام موسى بن جعفر، وعليه فخطأ الرواية في تحديد سنة الوفاة يصلح أن يكون كاشفاً معتداً به في معرفة أن الحسن بن محبوب لم يكن تلميذاً لأبي حمزة وأنه لاقاه؛ إذ كيف يروي سنة وفاته خطأ وبواسطتين؟!

وأما ما يمكن أن يشكل من أنه لو كان معمّراً لنبه عليه أهل الرجال، فإنَّه يقال بالعكس، وهو: أنه لو لم يكن معمّرا لما ذكروا عمره، وأنهم غالباً ما يوردون أعمار المعمرين فيقولون: توفي سنة كذا، وكان له من العمر كيت، وهذا ما وصل لنا في كتاب الكني، فلو أنه لم يكن معمّراً لما ذكر الكثي عمره، غاية الأمر أن سبعين وتسعين تصحفان بشكل كبير، بل يمكن أن يقال: إنَّ ذكر الأعمار العادية كخمس وسبعين مما لا يجري ذكره عادة، بل هم يقتصرون أغلب الأحيان على ذكر المعمرين فقط، فيترجح من ذكر عمره كونه منهم، لو كنا نحن وعبارة الكثي فحسب.

ص: 230


1- الوافي في تحقيق أسناد الكافي: 2/ 84

إلا أنَّ الأقوى أنَّه لم يكن معمّراً، وقد كان ذكرهم لأعمار غير المعمرين رائجاً عند توفّر ذلك في الفهارس التي ينقلون منها، وتشتد الحاجة حين يكون هناك إشكال أو نكتة تتعلق بمدة عمر الراوي وإن لم يكن معمراً، ولعل ما قيل من أ ان عمره خمس وسبعون كان إشارة من القائل إلى عدم إمكانه إدراك أبي حمزة، خاصة أنَّ الكثي حينما ذكر ذلك (سنة وفاته وعمره) ألحقهما بذكر التهمة بسقوط الواسطة بينه وبين أبي حمزة، فالقول بترجيح كون الحسن بن محبوب معمّراً؛ لأنَّ الكثي ذكر وفاته، لا يقوى على أن يترجح مع تلك الخصوصيات في فائدة ذكر ذلك العمر إن كان عمراً معتاداً.

الحل الثالث: تغيير سنة وفاة ابن حبوب

واستقرب السيد الأستاذ (دامت افاداته) الإمكان تحقق الملاقاة، وأن ابن محبوب لم يكن معمّراً، ولكن الصحيح أنه لم يمت سنة (224ﻫ)، بل سنة (204ﻫ)، لكنه (دامت افاداته) لم يكن ليطمئن لهذا الوجه وختمه قائلاً أنَّ في نفسه شيء منه، وعلى كل تقدير محصل هذا الوجه كما بينه (دامت افاداته): (أن ما ذكر في رجال الكشي في تاريخ وفاة الحسن بن محبوب من أنه مات سنة (224ﻫ) مما لا يمكن الالتزام به، فإنه لو كان مات في هذا التاريخ، لكان قد أدرك تمام مدة إمامة أبي جعفر الجواد (علیه السلام) وبعضاً من إمامة الإمام أبي الحسن الهادي (علیه السلام)، فلماذا لم يذكر في أصحابها أو فيمن أدركها (علیهما السلام) ولم يرو عنها مع اهتمام الرجاليين بالتنبيه على ذلك) (1).

ثم قال (دامت افاداته): (وبالجملة: بقاء الحسن بن محبوب إلى آخر سنة أربع وعشرين ومائتين كما ورد في كتاب الكشي مستبعد جداً، ويحتمل كون لفظة (وعشرين) حشوا في كلامه.

ص: 231


1- بحوث في مناسك الحج: 2/ 241.

وعلى ذلك يسهل توجيه رواية ابن محبوب عن أبي حمزة الثمالي من دون اقتضاء كونه من المعمرين) (1).

وهناك ما يعارض هذا الوجه، وهناك ما يؤيده، وعلى فرض ثبوته فهناك أيضاً ما يبقي المشكلة قائمة.

فمما يعارضه: أنه لو كان توفّي سنة (204ﻫ) وأنه كان كحال يونس بن عبد الرحمن كما نص عليه السيد الأستاذ (دامت افاداته) في الموضع المشار إليه؛ لما أمكن لجمع من السابعة الرواية عنه كعلي ابن فضال المتوفى سنة (280ﻫ) والذي كان له من العمر (18) عاماً عند وفاة أبيه الحسن سنة (221ﻫ) أو (224ﻫ)، فإن كان ابن فضال ولد في بداية المائة الثانية فإنَّ الحسن بن محبوب يكون توفي قبل ولادة علي ابن فضال أو في مثلها، فهذا الحل في غاية البعد، وهو لا يحل مشكلة الملاقاة بين السراد والثمالي، بل يفتح باباً كبيراً من السقط بين الحسن وتلامذته كروايات علي ابن فضال (204ﻫ - 280ﻫ)، وكرواية أحمد: محمد بن بن عيسى المتوفى بعد (274ﻫ) أو حتى بعد (280ﻫ)، بل وأحمد بن محمد بن خالد البرقي المتوفى سنة (274ﻫ) أو حتى (280ﻫ)، بل وإبراهيم ابن هاشم الذي لم يرو عن يونس إلا بواسطة مع أنه يحسب من أتباع يونس، لكنه لم يدرك يونس مع أن يونس ممن بقي إلى هذا الوقت كما حقق في محله.

ولذا فتقدير وفاته بذا بعيد جداً مع القطع برواية هؤلاء عنه، وامتناع روايتهم عنه لو كان بعمر يونس بن عبد الرحمن.

ومما يؤيده أمران: الأول: ما ذكره الكنّي عن نصر أنه قال: (ابن محبوب لم يكن يروي عن ابن فضال، بل هو أقدم من ابن فضال وأسن) (2).

ص: 232


1- نفس المصدر.
2- اختیار معرفة الرجال: 2/ 851.

بتقريب: أن المراد بابن فضال هنا (الحسن)، والحسن ابن فضال ممن توفي سنة (224ﻫ) على قول، و(221ﻫ) على المختار، وبهذا فلا بُدَّ أن يكون ما ذكر من أن وفاة الحسن بن محبوب سنة (224ﻫ) غير صحيح.

ولكن يرده أمر فيما لو غضضنا النظر عن المخبر - نصر بن الصباح - وعدم إمكان الاعتماد عليه من غير قرينة مصاحبة الصدقه، وهو وإن كان ابن فضال ينصرف عادة إلى (الحسن) في كتب الرواية، لكن ما في الاختيار فإنَّه ينصرف إلى ولده علي ابن فضال المتوفى سنة (280ﻫ) فهو من يستشهد به مراراً في الاختيار، ولا يبعد أيضاً أن يراد به أحمد ابن فضال المتوفى سنة (260ﻫ)، لكن يبقى أن ذكر ذلك من الواضحات من أر ن أَنَّ علي أو أحمد إنَّما هما بمنزلة تلاميذ الحسن بن محبوب فلا ريب في أنه أسنٌ منهما، فلِمَ ذكر نصر ذلك للكشي ؟ فلا يبعد أن يكون مراد نصر بابن فضال هو أباهم الحسن، بل هو الأقرب، إن لم يكن هو المتعين.

الآخر: ما ذكره الكشي عن نصر بن الصباح أنَّه قال: (إِنَّ محمد بن عيسى بن عبيد، من صغار [أصغر] من يروي عن ابن محبوب في السن) (1).

ومعلوم أن محمد بن عيسى بن عبيد من كبار السابعة ممن روى عن يونس بن عبد الرحمن مكرراً وإن كان هناك كلام في روايته عنه، وعلى كل تقدير فهو كافٍ في تحقق نفس الكلام في روايته عن الحسن بن محبوب بهذه العبارة التي أوضح نصر أنه أيضاً أصغر من أن يروي عن ابن محبوب أو أنَّه من صغار مَن يروي عنه.

ولكن في هذا أيضاً إشكال يمنعنا من اعتماد قول نصر هنا؛ فإنَّ من المتعارف أَنَّ مَن هو أصغر من اليقطيني قد أقر نصر بروايته عن الحسن بن محبوب بعد امتناعه كأحمد بن

ص: 233


1- اختیار معرفة الرجال: 2/ 817

محمد بن عيسى وأضرابه كالبرقي صاحب المحاسن وإبراهيم فالقولان لنصر لا يمكن الاعتماد عليهما بشكل تطمئن إليه النفوس، بل لعل الشكّ فيه يطغى خصوصاً في الثاني.

ومما يبقي المشكلة قائمة، بل ويفاقمها، أنه حتى مع فرض كون الحسن بن محبوب كحال يونس وأضرابه من الذين أدركوا برهة من أيام الصادق له في مقتبل أعمارهم، إلا أننا نلاحظ أن هؤلاء لم يكن ليرووا عن الرابعة، بل ورواياته عن معاصري أبي حمزة لا ريب في سقوط الواسطة فيها متأخراً عنه، وأننا لو سلمنا أنه تسنّى له روايته عن الثمالي مباشرة، فإنَّه حينئذ سيلزم وجود السقط المحقق بين المكثرين عنه من السابعة، لتنتهي معظم رواياته بالإرسال من الجهة أخرى، ولعل هذا هو الشيء الذي كان في نفس أستاذنا (دامت افاداته) من هذا القول.

الحل الرابع: لا حجة على عدم الملاقاة

وهو ما ذهب إليه السيد الخوئي (رحمة الله) حيث قال (قدس سره) في تقرير الإشكال: (إنَّ الحسن ابن محبوب روى عن أبي حمزة الثمالي كتابه كما ذكره النجاشي والشيخ. فقد روى الحسن ابن محبوب عن أبي حمزة في عدة موارد، ومع تقييده بالثمالي.. وقد استشكل في ذلك: بأن الحسن بن محبوب، مات سنة 224 وكان عمره خمساً وسبعين سنة، إذن كيف يمكن روايته عن أبي حمزة المتوفى سنة 150)(1).

ثم قال: (والجواب عن ذلك: أنَّه لا سند لما ذكره من أنَّ الحسن بن محبوب مات سنة 224، وأن عمره كان 75 سنة، إلا ما ذكره الكنّي في ترجمة الحسن بن محبوب عن علي بن محمد القتيبي، حدثني جعفر بن محمد بن الحسن بن محبوب... ومات الحسن بن محبوب في آخر سنة 224، وكان من أبناء خمس وسبعين سنة. وبما أنَّ علي بن محمد لم

ص: 234


1- معجم رجال الحديث: 4/ 297.

يوثق، وجعفر بن محمد مجهول، فلا يمكن أن يعارض به خبر النجاشي والشيخ، وما تقدم من الروايات)(1).

أقول: ذكر القتيبي أن وفاته كانت سنة 224ﻫ) أم لم يذكر، فإنَّ وفاته هي بتلك الحدود، فهو لا ريب ولا إشكال في كونه من الطبقة السادسة؛ بدلالة رواية السابعة عنه، خاصة وأنهم رواة كتبه، أمثال أحمد بن محمد بن عيسى المتوفى بعد (274ﻫ) أو بعد (280ﻫ)، وأحمد بن محمد البرقي المتوفى في إحدى تينك السنتين، وعلي ابن فضال المولود في العقد الأول بعد المائة الثانية والمتوفى سنة 280ﻫ؛ فإن لم يكن - الحسن - توفي سنة (224ﻫ) أو بحدودها لم يكن لهؤلاء أن يدركوه.

والحاصل: إنَّ هذ الجواب الذي ذكره (قدس سره) لا يستقيم بوجه.

ثم تطرق (قدس سره) في قضية اتهامهم له بروايته عن أبي حمزة، فقال: (وأما ما رواه الكشي، عن نصر بن الصباح في ترجمة أحمد بن محمد بن عيسى من أن أحمد بن محمد بن عيسى لا يروي عن ابن محبوب، من أجل أن أصحابنا يتهمون ابن محبوب في روايته عن أبي حمزة، ثم تاب أحمد بن محمد، فرجع قبل ما مات، وكان يروى عمَّن كان أصغر سناً منه، فإن لم يناقش فيه من جهة نصر بن الصباح فهو شاهد على جواز رواية الحسن عن أبي حمزة لا على عدمه) (2).

أقول: دلالة قبول أحمد وروايته - في قابل - عن الحسن أعم من المدعى وهو حصول الملاقاة بين الحسن والثمالي، فالقبول ليست علته منحصرة بالملاقاة.

ثم ختم (قدس سره) قائلاً: (ثُمَّ لو أغمضنا عن ذلك وفرضنا أنه لم يثبت أنَّ الحسن بن محبوب أدرك أبا حمزة وروى عنه فلم يثبت خلافه أيضاً، وعليه فبما أنه يحتمل روايته عنه

ص: 235


1- نفس المصدر: 4 / 298
2- المصدر نفسه.

بلا واسطة وعن حس، والحسن بن محبوب ثقة، فلا بُدَّ من الأخذ بروايته؛ وذلك لبناء العقلاء على الأخذ بكل خبر ثقة يحتمل أن يكون عن حس) (1).

أقول: إنما يمكن قبول هذا لو كنا لا نعلم شيئاً عن تواريخ الرجلين وطبقتهما، أما مع علمنا باختلاف الطبقة والقرائن الكثيرة التي تدلّ على عدم الملاقاة، فتكون عدم الملاقاة هو ما يظهر عند المقارنة،الطبقية، فلا تصل النوبة إلى إعمال تلك التأصيلات العقلية أو العقلائية في هذا المقام، وللسيد الأستاذ (دامت افاداته) ردّ طويل على هذه الفقرة من كلامه (قدس سره) فليراجع في محله (2).

الحل الخامس: التصحيف

قال في أعيان الشيعة: (فيكون الصواب (ابن أبي حمزة) كما في رجال الكشي وتكون لفظة (ابن) قد سقطت من النجاشي، أو من النسّاخ، فقد روى الكثي عن حمدويه أنَّ لأبي حمزة ثلاثة أولاد ثقات الحسين وعلي ومحمد) (3). وهذا القول غير متجه بعدما ورد في الأسناد رواية ابن محبوب عن أبي حمزة عن الباقر (علیه السلام)، وهو نظير من ادعى أن المراد من أبي حمزة هو علي بن أبي حمزة البطائني، فإنَّه لا يحل الإشكال المترتب من عدم لحوق الحسن بزمن الثمالي والمتعارض مع رواية الحسن عن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار قطعاً كما في الأسناد، وعليه فهو أيضاً مما لا يمكن الاعتماد عليه.

ص: 236


1- المصدر نفسه.
2- بحوث في مناسك الحج: 2/ 224 .
3- أعيان الشيعة: 3/ 145 .

المختار:

إنَّ كل الاحتمالات الواردة بغض النظر عن تعيّن أحدها، نتيجتها على الأغلب قبول الرواية، وهذا ما يوجب في النفس نوعاً من الوثوق بما ينقله الحسن بن محبوب السراد عن أبي حمزة الثمالي وإن لم يدركه، ومن مناشئ هذا الوثوق الوجداني: وثوق أحمد ابن محمد بن عيسى قبله؛ فإنَّه يصلح شاهداً لوجود مدرك معتد به وإن كنا لا نعلم أي مدرك هو؛ لقبوله روايات الحسن بن محبوب عن أبي حمزة الثمالي من غير واسطة مع تشدّده وصرامته، بل وامتناعه فترة عن الرواية عنه، ومن ثُمَّ رجوعه وتوبته كما حكي، وهو محط الركب في الوثوق بما اعتمده أحمد، خاصة وأنه لا ينافي بعض الحلول المصححة للعمل برواية الحسن بن محبوب عن أبي حمزة الثمالي، والتي أقربها إلى نفسي ما احتمله السيد البروجردي قدست نفسه الطاهرة.

* * *

ص: 237

المصادر

1. اختيار معرفة الرجال، تأليف: الشيخ الطوسي 460ﻫ، تصحيح وتعليق ميرداماد الاسترابادي، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، سنة الطبع: 1404ﻫ، المطبعة: بعثت قم، الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.

2. استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار، تأليف الشيخ محمد بن الحسن ابن الشهيد الثاني 1030ﻫ، تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الأولى، سنة الطبع: ربيع الثاني 1419ﻫ، المطبعة: ستاره قم، الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.

3. أعيان الشيعة، تأليف: السيد محسن الأمين 1371ﻫ، تحقيق: حسن الأمين، الناشر: دار التعارف، بيروت.

4. إكمال الإكمال، تأليف: ابن ماكو لا 475ﻫ، الناشر: دار إحياء التراث العربي.

5. البحر المحيط، تأليف: الزركشي 794ﻫ، علّق عليه: الدكتور محمد محمد ثامر، الطبعة الأولى، سنة الطبع: 1421ﻫ / 2000م، الناشر: منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

6. بحوث في شرح مناسك الحج، تأليف: السيد محمد رضا السيستاني، تقرير: الشيخ أمجد رياض والشيخ نزار يوسف نسخة محدودة التداول، سنة 1431ﻫ، النجف الأشرف.

7. ترتيب أسانيد الكافي، تأليف: السيد البروجردي 1383ﻫ، بخط وتحرير: الشيخ حسن النوري الهمداني، الناشر: مجمع البحوث الإسلامية في الآستانة الرضوية المقدسة، 1413ﻫ - 1992م، طبع في مطابع مؤسسة الطبع والنشر للآستانة الرضوية المقدسة.

ص: 238

8. تعليقة على منهج المقال، تأليف: الوحيد البهبهاني محمد باقر 1205ﻫ.

9. تقرير بحث السيد البروجردي في القبلة والستر و مكان المصلي، تأليف: السيد البروجردي 1383ﻫ، تقرير: الشيخ علي بناه الاشتهاردي، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى سنة الطبع: 1416ﻫ، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

10. ذيل تاريخ بغداد ابن النجار البغدادي (643ﻫ)، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر يحيى، الطبعة الأولى، سنة الطبع 1417 - 1997م، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.

11. رجال الطوسي المؤلف: الشيخ الطوسي (460ﻫ)، تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني، الطبعة الأولى سنة الطبع رمضان المبارك 1415ﻫ، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

12. رجال النجاشي، المؤلف: النجاشي ( 450ﻫ)، الطبعة الخامسة، سنة الطبع: 1416، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

13. زبدة المقال في خمس الرسول والآل المؤلف: تقرير بحث البروجردي للسيدعباس الحسيني القزويني 1383ﻫ، المطبعة العلمية - قم.

14. الفهرست، المؤلف: الشيخ الطوسي (460ﻫ)، تحقيق: الشيخ جواد القيومي، الطبعة الأولى، سنة الطبع: شعبان المعظم 1417، المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي، الناشر: مؤسسة نشر الفقاهة.

15. قبسات من علم الرجال، تأليف: السيد محمد رضا السيستاني، جمع ونظم: السيدمحمد البكاء، نسخة أولية محدودة التداول، سنة 1426ﻫ، النجف الأشرف.

ص: 239

16. الكافي، المؤلف: الشيخ الكليني (329)، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، الطبعة الخامسة، سنة الطبع: 1363 ش المطبعة حيدري، الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران.

17. الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي (463 ﻫ)، تحقيق: أحمد عمر هاشم، الطبعة الأولى، سنة الطبع: 1405 - 1985م، الناشر: دار الكتاب العربي. بيروت.

18. مجمع الرجال، تأليف: زكي الدين المولى عناية الله بن علي القهبائي، صححه وعلق عليه: السيد ضياء الدين الشهير بالأصفهاني. طبع بأصفهان سنة 1384 ﻫ.

19. معتمد العروة الوثقى، تأليف: السيد الخوئي 1413ﻫ، تقرير: السيد رضا الخلخالي المطبعة: العلمية قم، سنة الطبع: 1364، الناشر: لطفي.

20. معجم رجال الحديث - السيد أبو القاسم الخوئي (1413ﻫ) - سنة الطبع 1413. 1992 م - الطبعة الخامسة - طهران.

21 معجم طبقات المكثرين - المؤلف: غيث شبر - سنة الطبع 1435ﻫ، الناشر: مركز المرتضى لإحياء التراث والبحوث الإسلامية - النجف الأشرف - العراق.

22. منتهى المقال في أحوال الرجال، المؤلّف الشيخ محمد بن إسماعيل المازندراني (1216ﻫ)، تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم، الطبعة الأولى، سنة الطبع: ربيع الأول 1416، المطبعة: ستاره - قم، الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث - قم.

23. نقد الرجال، المؤلف: التفرشي (1320ﻫ)، تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الأولى، سنة الطبع شوال،1418، المطبعة: ستارة، قم - الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث. قم.

ص: 240

24. نهاية الدراية، السيد حسن الصدر (1351ﻫ)، تحقيق: ماجد الغرباوي، المطبعة: اعتماد - قم، الناشر: نشر المشعر .

25. الوافي في تحقيق أسناد كتاب الكافي، تأليف: غيث شبر، الناشر: مركز المرتضى لإحياء التراث والبحوث الإسلامية المطبعة دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، سنة الطبع: 1436ﻫ - 2015م.

ص: 241

ص: 242

تحقيق حال جابر الجعفي(الحلقة الثانية) - الشيخ محمَّد الجعفري (دام عزه)

اشارة

الغلاة فرقة نشأت في أوساط المسلمين تبتني دعواها على رفع أئمة أهل البيت (علیهم السلام) عن درجة الإمامة والاصطفاء الإلهي إلى درجة النبوة أو الإلوهيَّة، ويقترن بها غالباً الغلوّ في النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً ورفعه عن درجة النبوة إلى درجة الإلوهيَّة، وكذلك الغلوّ في عدد من صحابة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) مثل سلمان والمقداد وأبي ذر والنقباء الاثني عشر.

وتبني كثير من مذاهب الغلوّ على التناسخ بمعنى أنَّ الأرواح تنتقل بعد الموت من جسم إلى آخر، أو المسخ بمعنى نقلها إلى أجسام بعض الحيوانات معاقبة لها، كما أنَّها غالباً لا أحكام فقهيَّة لها، بل هي تهتم بأمر المعرفة وترى أنَّها مناط الإيمان.

ص: 243

ص: 244

بسم الله الرحمن الرحیم

كان الكلام في الحلقة الأولى في تحقيق حال التابعي جابر بن يزيد الجعفي في المقام الأوَّل في جهات: نسبه وكنيته، قبيلته، عقبه وقرابته، مشايخه في العلم، ولادته ووفاته وعمره، من روى عنه من أئمة أهل البيت (علیهم السلام)، طبقته، مذهبه، نشاطاته، أخذه العلم في مكة والمدينة، وعصره.

ووصل الكلام إلى:

الجهة الثالثة عشرة: شهرة جابر في الوسط الاجتماعي..

اشارة

يظهر من مجموع ما جاء في كتب الرجال والفِرَق والتواريخ أنَّ جابراً كانت له شهرة كبيرة في عصره في حدود المائة، وتستمد تلك الشهرة:

الأوَّل: أصالته..

فإنَّه كان عربياً أصيلاً من سادات بيت جعفي، وهذا بطبيعة الحال يؤثّر في وجاهته وموقعه الاجتماعي.

فقد عرفنا أنَّ قبيلة جعفي كانت إحدى القبائل اليمنيّة التي شارك بعض بطونها في حرب القادسية، حتى كانوا قسماً من الجيش، وعيّن عليهم عمر أحدَ رجالها، ثمَّ استقروا في الكوفة. وكان لها حضور بارز فيها حتى كان لهم حيٌّ من أحيائها الأربعة المحيطة بمسجد الكوفة.

وقد كان من هذه القبيلة علمان مشهوران من مشاهير رجال الكوفة من أصحاب ابن مسعود قبل طبقة جابر:

ص: 245

أحدهما: سويد بن غفلة بن عوسجة الجعفي من أولاد حريم بن جعفي بن سعد العشيرة(1)، أحد فقهاء الكوفة من أصحاب ابن مسعود وأمير المؤمنين (علیه السلام)، قيل عنه الإمام القدوة الفقيه، تُوفّي سنة (80ﻫ) عن مائة وعشرين سنة، وقد شهد حرب القادسية، كما شهد صفين، وقد حُكيت له فتاوى في كتب الفقه.

والآخر: خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة، من أولاد مرار بن جعفي بن سعد العشيرة، من الفقهاء العلماء العبّاد، تُوفّي قبل سنة (80ﻫ) حيث حكي أنَّ أبا وائل (ت80ﻫ) قال في جنازته: (وا حزناه)، وهو صاحب ابن مسعود أيضاً، وهو من بيت وجيه من (جعفي) كان معروفاً بالكوفة يسمّى ببيت أبي سبرة - وهم يلتقون مع جابر في كونهم من فرع مران بن جعفي -.

وكان قد وَفَدَ وَفْدُ جعفي على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في عام الوفود، وكان وافدهم على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أبا سبرة مع ولديه سبرة وعزيز، فسمّى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) عزيز ب- (عبد الرحمن)، وهو والد خيثمة، وكان الوافد من العشائر وجهاءهم وساداتهم وأهل المكانة فيهم، وقد جاءوا أيضاً إلى العراق لحرب القادسية وشاركوا فيها وتوطنوا في الكوفة.

وخلّف خيثمة هذا ولده (عبد الرحمن) الذي كان له أولاد عدّة يُعدّون هم وأولادهم في أصحاب الإمامين الباقر والصادق (علیهما السلام)، منهم: (خيثمة بن عبد الرحمن) المعدود من أصحاب الباقر والصادق (علیهما السلام)، وهو غير خيثمة المعدود من أصحاب ابن مسعود كما يعطيه التأمل في كلام النجاشي وتقتضيه الطبقة، فإنَّ خيثمة الأوَّل تُوفّي قبل سنة (80ﻫ) فلا يُعدّ من أصحاب الباقر ‚ بطبيعة الحال، وَوَهَم فيه بعض الأعلام في تهذيب المقال(2).

ص: 246


1- لاحظ نسبه في جمهرة أنساب العرب لابن حزم: 410.
2- لاحظ تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي: 4/ 180.

وقد ذكر النجاشي في (بسطام بن الحصين بن عبد الرحمن الجعفي) أنَّه كان وأبوه (الحصين) وعمومته وهم (خيثمة وإسماعيل وغيرهما) وجوهاً في أصحابنا، (وكان أوجههم إسماعيل. وهم بيت بالكوفة من جعفي، يقال لهم بنو أبي سبرة، منهم خيثمة ابن عبد الرحمن صاحب عبد الله بن مسعود)(1).

وفي هذا البيت عدد من المحدّثين والرواة كما اعتنى بجمعهم بعض الأعلام(2)،

ومقتضى عموم كلام النجاشي أنَّ خيثمة أيضاً كان من أصحابنا.

ويبدو أنَّ جابراً لم يدرك هذين العلمين (سويد وخيثمة)، ومن ثَمَّ لا نجد رواية له عنهما، وهذا يؤيد ما استظهرناه من أنَّه ولد حدود (60ﻫ) دون (50ﻫ).

ويبدو أنَّ جابراً كان أوجه أفراد عشيرته في طبقته، حيث لا نجد ذكر أيٍّ من قومه من جملة المشاهير في تابعي الكوفة - من قبل ابن حبّان (ت354ﻫ) في مشاهير علماء الأمصار - فهو أبرز شخصية في هذا البيت، وهو الشخصية الوحيدة التي تذكر منها في هذه الطبقة في كتب الأنساب.

الثاني: نشاطه العلمي..

فإنَّ النشاط العلمي لجابر كان واسعاً وكان جابر بعلمه وسعة حديثه مؤهّلاً لأداء دور أكبر في الوسط الإسلامي العام، لاسيّما مع شيخوخته في الحديث تدريجاً، وسيأتي أنَّ جابراً كان قد تتلمذ على كبار التابعين في التفسير والحديث كما كان عالماً بالتاريخ معنياً به، وهذه هي العلوم الثلاثة المفروضة في عصره، ولولا أنَّه مال إلى المذهب الإمامي لعُدَّ من قبل علماء الجمهور من مشاهير التابعين في طبقته في الكوفة كما عُدّ سويدٌ وخيثمة.

ص: 247


1- رجال النجاشي: 110-111.
2- لاحظ تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي: 4/ 167 وما بعدها.

الثالث: التحوّل الذي صار في مذهبه إلى مذهب الباقر والصادق (علیهما السلام)..

فإنَّه إذا كان قد سقط به من أعين جماعة، فقد أصبح ذلك من جهة أخرى سبباًَ في مزيد شهرته بهذا الأمر، لأنَّه كان تحوّلاً في مذهبه بعد أن تعلَّم وكان شيخاً فاضلاً من شيوخ الحديث، فكان لذلك صدى في أوساط أهل الحديث من بعض مشايخه الذين كانوا على قيد الحياة كالشعبي، ومن زملائه وتلامذته بطبيعة الحال، لاسيّما أنَّه كان يفصح عن هذا التحوّل بنحو أو آخر.

والذي يتوقع أنَّ جابراً أدّى دوراً كبيراً في تحوّل قبيلة جعفي إلى التشيّع الإمامي - الذي كان جزءاً من التحوّل العام للكوفة إلى هذا المذهب -، ولم يكن غريباً أنَّ بعض أتباع معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بعد ممات جابر كان يروّج أنّ جابراً الجعفي وجابر بن عبد الله الأنصاري منهم ويوافقانه على ما يروّجه من الغلوّ كي يجد قبولاً في الوسط الشيعي.

وقد كان لقبيلة جعفي قطعاً دور كبير في الفتن والحروب التي نشأت في أوساط أهل الكوفة مثل حركة المختار وابن الزبير وزيد بن علي وغيرهم.

الجهة الرابعة عشرة: جابر والسلطة الحاكمة..

لقد عاش جابر - كما أسلفنا - في زمان الخلافة الأمويّة وتولّي ولاتهم للكوفة التي كانت علويّة الهوى، وقد كان وجهاء الشيعة وعلماؤهم في الكوفة - على العموم - تحت رقابة السلطة الحاكمة، إذ كانوا يعتبرون مصدر تهديد لها، وهذا ممّا كان يساعد على إمكان تصدّر بعض غير أهل العلم والفقه والوجاهة للحركات الثوريّة وذهابهم إلى مذاهب في الغلوّ والاعتقاد مخالفة لبديهيّات الإسلام وإسقاطهم للتكاليف الفرعيّة رأساً تخلّصاً عن عناء استنباطها وتكفّل مرجعيّتها فيظهر بذلك جهلهم.

ص: 248

ولما ذكرنا كان وجهاء الشيعة مضطرين إلى التخفّي تارة، وإظهار الجنون أخرى، والتقية ثالثة، ومن أمثلة ذلك ما اتفق لمعاصري جابر من وجهاء الشيعة ورجالهم ما ذكره النجاشي عن (محمَّد بن علي البرقي) جدّ (أحمد بن محمَّد بن خالد البرقي) المشهور من حبس يوسف بن عمر له بعد قتل زيد (رضوان الله علیه) ثمّ قتله إياه، فهرب ابنه عبد الرحمن مع ولده خالد وكان صغير السن إلى (برق رُوْذُ)(1)،

وذكر في (يقطين بن موسى) - والد (علي بن يقطين البغدادي) المشهور (124 - 182ﻫ) من موالي بني أسد - أنَّه كان داعية فطلبه مروان فهرب، وكانت (أمّ علي) هربت به وبأخيه عبيد إلى المدينة حتى ظهرت الدولة ورجعت، ومات علي بن يقطين نفسه في سجن هارون بعد أربع سنين من الحبس(2).

وقال ابن الغضائري في شرح تكملة رسالة أبي غالب في حديثه عن آل أعين - (زرارة وإخوته) وبعضهم مثل حمران في طبقة جابر -: (كلّ واحد منهم كان فقيهاً يصلح أن يكون مفتي بلد، ما خلا عبد الرحمن بن أعين، فسألته عن العلّة فيه؟ فقال: كان يتعاطى الفتوى إلى أيام الحجّاج، فلمّا قدم الحجّاج إلى العراق قال: لا يستقيم لنا الملك، ومن آل أعين رجل تحت الحجر، فاختفوا وتواروا، فلمّا اشتدّ الطلب عليهم ظفر بعبد الرحمن هذا المفتي من بين إخوته، فأُدخل على الحجّاج، فلمّا بصر به قال: لم تأتوني بآل أعين، وجئتموني بزبارها، وخلّى سبيله)(3).

وذكر النجاشي وغيره في (سلمان بن خالد) من أصحاب أبي جعفر (علیه السلام): (كان قارئاً فقيهاً وجهاً، روى عن أبي عبد الله وأبي جعفر (علیهما السلام)، وخرج مع زيد، ولم يخرج معه من

ص: 249


1- لاحظ رجال النجاشي: 76/ رقم 182.
2- لاحظ رجال النجاشي: 273/ رقم 715.
3- تكملة رسالة أبي غالب الزراري مع شرح العلامة الأبطحي: 100.

أصحاب أبي جعفر (علیه السلام) غيره فقطعت يده، وكان الذي قطعها يوسف بن عمر بنفسه)(1).

وروى الكشّي عن علي بن الحسن بن فضّال قال: (يوسف بن عمر هو الذي قتل زيداً، وكان على العراق، وقطع يد أمّ خالد وهي امرأة صالحة على التشيّع، وكانت مائلة إلى زيد بن علي (علیهما السلام))(2).

وممَّن قتل من الشيعة في زمان الحجّاج قنبرٌ مولى أمير المؤمنين (علیه السلام) (3)، وسعيد بن جبير (ت95ﻫ)(4)،

ويحيى بن أمّ الطويل(5)،

واتفق لرجال الشيعة في زمن بني العباس مثل ذلك من قتل وحبس وتعقّب كما اتفق لعلي بن يقطين، ومعلّى بن خنيس، وابن أبي عمير، وعمر بن أذينة وغيرهم.

هذا، وقد عاش جابر في عصر الخلافة الأمويّة منذ ولادته حتى وفاته (128ﻫ)، وعاصر جميع خلفاء بني مروان وأوَّلهم مروان بن الحكم الذي ولي الخلافة سنة (65ﻫ) وآخرهم مروان الحمار الذي ولي الخلافة سنة (127ﻫ).

وقد جاء في بعض الأخبار من طرق الإمامية أنَّ جابر الجعفي تعرّض للتعقّب من قبل هشام بن عبد الملك بن مروان الذي تولّى الخلافة من سنة (105 - 125ﻫ)، وقد ولّى خالد بن عبد الله القسري إمارة الكوفة من (105 - 120ﻫ)، ثمَّ عزله وولّى يوسف ابن عمر الثقفي (120ﻫ) إلى أنْ عزله يزيد بن الوليد (126ﻫ)، ثمَّ ولّى يزيد منصور ابن جمهور سنة (126 - 128ﻫ).

ص: 250


1- رجال النجاشي: 183/ رقم 484.
2- اختيار معرفة الرجال: 2/ 511/ ح442.
3- المصدر السابق: 1/ 289/ ح130.
4- المصدر السابق: 1/ 335/ ح190.
5- المصدر السابق: 1/ 338/ ح195.

ولكن اختلفت الأخبار في طريقة تخلّص جابر عن هذا التعقّب فجاء في بعض الأخبار أنَّه تخلّص عنه بإظهار الجنون، وفي بعضها الآخر أنَّه تخلّص عنه بالتخفّي والاستتار، وربّما يحتمل تعدّد الواقعة، وعلى كلّ حال فإنَّ ذلك كان بعد بلوغ جابر مستوى مرموقاً من الشخصيّة الاجتماعيّة والعلميّة في مجتمعه، إذ كان يبلغ عمره آنذاك خمسين سنة فما فوق.

1. فقد جاء فيما روى الكليني عن (علي بن محمَّد(1)

[الرازي الكليني المعروف بعلّان، خال الشيخ الكليني، ثقة](2)، عن صالح بن أبي حمّاد [أبو الخير الرازي. مختلف فيه](3)

ص: 251


1- روى الكليني (رحمة الله) مباشرة عن ثلاثة رواة مسمين بهذا العنوان، وهم: علي بن محمَّد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني المعروف ب- (علّان) خاله، وعلي بن محمَّد بن بندار، وعلي بن محمَّد بن عبد الله بن عمران البرقي القمّي، والملاحظ أنَّ الكليني عادة يقيّد الأخيرين، فقد روى عن ابن بندار في: 2/ 241، 3/ 23، 123، 4/ 12، 27، 103، 151، 152، 278، 548، وفي الجزء الخامس عشرين رواية، والسادس ست وثلاثين رواية، والسابع أربع روايات، وروى عن علي بن محمَّد بن عبد الله في: 1/11، 31، 37، 52، 150، 275، 391، 398، 449، 453، 543، وفي الجزء الثالث ست روايات، وفي الجزء الرابع عشرة روايات، وفي الجزء الخامس روايتين، وفي الجزء الثامن رواية واحدة. وأما في الأوَّل فلم يقيّده إلّا في رواية واحدة (5/ 541 ح5) قال: (علي بن محمَّد الكليني عن صالح ابن أبي حماد). وقد أكثر علي بن محمَّد - المطلق - عن صالح بن أبي حمّاد. فبقرينة هذا المورد يكون المراد ما استظهرناه في المتن. مضافاً إلى أنَّه في مورد إطلاق العنوان ينصرف إلى الأشهر الأعرف وهو في هذه الطبقة خاله الكليني الرازي.
2- يلاحظ فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي): 260، 377.
3- ضعّفه النجاشي وابن الغضائري وارتضاه الفضل بن شاذان، وبالنتيجة يكون الرجل مجهول الحال. يلاحظ فهرست أسماء مصنفي الشيعة: 198. ورجال ابن الغضائري: 70. واختيار معرفة الرجال: 2/ 837.

عن محمَّد بن أورمة(1)، عن أحمد بن النضر [الخزاز، ثقة](2)، عن النعمان بن بشير [مجهول](3)، قال: (كنت مزاملاً لجابر بن يزيد الجعفي، فلمّا أنْ كنّا بالمدينة دخل على أبي جعفر (علیه السلام) فودّعه وخرج من عنده وهو مسرور حتى وردنا الأخيرجة(4) - أوَّل منزل نعدل من فَيد(5)

إلى المدينة - يوم جمعة فصلّينا الزوال، فلمّا نهض بنا البعير إذا أنا برجل طوال آدم معه كتاب، فناوله جابراً فتناوله فقبّله ووضعه على عينيه وإذا هو: من محمَّد ابن علي إلى جابر بن يزيد وعليه طين أسود رطب، فقال له: متى عهدك بسيدي؟ فقال: الساعة، فقال له: قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ فقال: بعد الصلاة، ففكّ الخاتم وأقبل يقرؤه ويقبض وجهه حتى أتى على آخره، ثمّ أمسك الكتاب فما رأيته ضاحكاً ولا مسروراً حتى وافى الكوفة، فلّما وافينا الكوفة ليلاً بتُّ ليلتي، فلّما أصبحت أتيته إعظاماً له فوجدته قد خرج عليَّ وفي عنقه كعاب، قد علّقها وقد ركب قصبة، وهو يقول: أجد منصور بن جمهور أميراً غير مأمور وأبياتاً من نحو هذا، فنظر في وجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئاً ولم أقل له، وأقبلت أبكي لما رأيته واجتمع عليَّ وعليه الصبيان والناس، وجاء حتى دخل الرحبة وأقبل يدور مع الصبيان والناس يقولون: جُنَّ جابر

ص: 252


1- رمي بالغلوّ ولكن لم يرتضِ ذلك ابن الغضائري والنجاشي. يلاحظ رجال ابن الغضائري: 93. وفهرست أسماء مصنفي الشيعة: 329، ولكن ضعّفه الشيخ في الرجال: 448 والفهرست: 220. ولا يبعد قبول روايته إلّا ما كان مضموناً مريباً.
2- لاحظ فهرست أسماء مصنفي الشيعة: 98.
3- الرجل مجهول لم يذكر في رجال العامّة والخاصّة، وهو ليس المعروف بهذا العنوان الذي كان والياً على الكوفة من قبل معاوية ثمّ ابنه يزيد عند دخول مسلم بن عقيل (علیه السلام) إليها، إذ قتل هذا الرجل في سنة (64 أو 65ﻫ) في مرج راهط حين كان زبيرياً. تهذيب الكمال: 29/ 417.
4- أخاريج وأخرجة والخرج اسم موضع بالمدينة.
5- قلعة في طريق مكة.

ابن يزيد جُنَّ، فوالله ما مضت الأيام حتى ورد كتاب هشام بن عبد الملك(1)

إلى واليه أن انظر رجلاً يقال له: جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه، فالتفت إلى جلسائه فقال لهم: من جابر بن يزيد الجعفي؟ قالوا: أصلحك الله كان رجلاً له علم، وفضل وحديث، وحج، فجُنَّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم، قال: فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب، فقال: الحمد لله الذي عافاني من قتله..). قال: ولم تمضِ الأيام حتى دخل منصور بن جمهور(2)

الكوفة وصنع ما كان يقول جابر)(3).

ص: 253


1- وقد ملك هشام بن عبد الملك في شهر رمضان (سنة 105ﻫ)، وهلك في العاشر من ربيع الأوَّل (سنة 125ﻫ). يلاحظ الأخبار الطوال: 334-335، وتاريخ اليعقوبي: 2/ 316، 331. وولّى هشام خالد بن عبد الله القسري العراق عند تسنّمه للخلافة. يلاحظ تاريخ اليعقوبي: 2/ 316، ثمّ ولّى يوسف بن عمر الثقفي (سنة 120ﻫ). تاريخ اليعقوبي: 2/ 323. وكانت شهادة الإمام الباقر (صلوات الله عليه) في السابع من ذي الحجة الحرام (سنة 114ﻫ). وعليه فلا بُدَّ أن يكون أمر هشام بقتل جابر بن يزيد الجعفي في حياة الإمام الباقر (علیه السلام) عندما كان الوالي خالد بن عبد الله القسري الذي استمرت ولايته على الكوفة خمس عشرة سنة.
2- هو منصور بن جمهور الكلبي ولّاه يزيد بن الوليد بن عبد الملك - يزيد الناقص - الكوفة عند تسنّمه الخلافة بعد عزله ليوسف بن عمر الثقفي في أوَّل رجب من سنة ست وعشرين ومائة. يلاحظ تاريخ الأمم والملوك: 5/ 534. والكامل في التاريخ: 5/ 270. وتاريخ اليعقوبي: 2/ 335. وكان ذلك بعد وفاة الإمام الباقر (علیه السلام) باثنتي عشرة سنة، وهذا - إنْ تمّت الرواية - من المغيّبات التي أخبر الإمام (علیه السلام) جابراً (رحمة الله) بها. ثمّ ولّى مروان بن محمَّد بن مروان - مروان الحمار - يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري العراق، فقدمها (سنة 128ﻫ) ولما قدم يزيد بن عمر بن هبيرة العراق هرب منصور بن جمهور. يلاحظ تاريخ اليعقوبي: 2/ 339.
3- الكافي: 1/ 396 باب: إنّ الجن تأتيهم فيسألونهم ح7.

وقد ذكر المحدّث النوري: أنَّ إسناد الحديث حسن إلى أحمد بن النضر الثقة، (وأخرجه الكليني في جامعه الذي عرفت حاله، وفيه ضروب من المعاجز)(1).

أقول: إنَّ الحديث ممّا رواه غير واحد من المتّهمين بالغلوّ مثل محمَّد بن أورمة، وصالح بن أبي حمّاد، وينتهي إلى رجل مجهول وهو النعمان بن بشير.

ويحتمل كونه تحريفاً عن (النعمان بن عمرو الجعفي) الذي ذكره الشيخ في الرجال في أصحاب الصادق (علیه السلام) وقال: (أسند عنه)(2)،

لاسيّما أنَّه من عشيرته.

وبالجملة: فالخبر ضعيف جداً بحسب الإسناد، ولا شهادة لوروده في الكافي على اعتباره، كما أنّه غريب من حيث المضمون، بما تضمّنه من مجيء رجل من الجن رآه النعمان بن بشير - مضافاً إلى جابر -، ومقتضى الخبر - كما أسلفنا - أنّه كان في حياة الإمام الباقر (علیه السلام) فيكون في زمان ولاية خالد بن عبد الله القسري.

وقد جاء في كتاب الاختصاص المنسوب إلى المفيد عن (محمَّد بن الحسن [ابن الوليد]، عن محمَّد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى، عن البرقي، عن أحمد بن النضر الخزّاز، عن النعمان بن بشير، وفيه: ورد كتاب هشام بن عبد الملك على يوسف بن عثمان بأنْ انظر رجلاً من جعف يقال له: جابر بن يزيد...)(3).

وقد ذكر بعض الأعلام أنَّ هذا الإسناد - أي ما ورد في الاختصاص - صحيح(4).

ولكن لم يظهر الوجه فيه مع جهالة النعمان بن بشير، مضافاً إلى عدم اعتبار كتاب الاختصاص على ما حقّق في محلّه.

ص: 254


1- خاتمة المستدرك: 4/ 202.
2- لاحظ رجال الطوسي: 315/ رقم: 4695.
3- الاختصاص: 67.
4- لاحظ تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي: 5/ 96.

والظاهر أنَّ (يوسف بن عثمان) محرّف عن (يوسف بن عمر)، إذ كان يكتب (عثمان) من دون الألف فيشبه (عمر).

وعليه فيقتضي أنّ الواقعة كانت في أواخر عهد جابر لأنَّ يوسف بن عمر تولّى الكوفة سنة (120ﻫ).

ولكن هذا لا يناسب ما فرض من حياة الإمام الباقر (علیه السلام)، فالحديث مضطرب.

وروى الحديث ابن شهرآشوب في المناقب(1)

عن النعمان بن بشير بمثل لفظ الكافي، وكأنَّه أخذه منه.

2. وروى الكشّي عن نصر بن الصباح، قال: (حدّثنا أبو يعقوب إسحاق بن محمَّد البصري، قال: حدّثنا علي بن عبد الله، قال: خرج جابر ذات يوم وعلى رأسه قوصرة راكباً قصبة حتى مرَّ على سكك الكوفة، فجعل الناس يقولون: جنّ جابر جنّ جابر! فلبثنا بعد ذلك أيّاماً، فإذا كتاب هشام قد جاء بحمله إليه. قال: فسأل عنه الأمير فشهدوا عنده أنَّه قد اختلط، وكتب بذلك إلى هشام فلم يتعرَّض له، ثمَّ رجع إلى ما كان من حاله الأوَّل)(2).

وهذا الخبر أيضاً ضعيف من جهة الإرسال بين علي بن عبد الله وجابر، مضافاً إلى تضعيف نصر حيث اتّهم بالغلوّ، وكذلك إسحاق بن محمَّد البصري فقد اتّهم بالغلوّ، بل قال الكشّي إنَّه من أركانهم، ونسب إليه فرقة الإسحاقية.

وأمَّا علي بن عبد الله فلعلَّه (ابن مروان) وقد عدَّه الشيخ من أصحاب العسكري ‚، وقال الكشّي إنَّه سأل عنه العيّاشي فقال: (إنَّ القوم - يعني الغلاة - يمتحن في أوقات

ص: 255


1- لاحظ مناقب آل أبي طالب: 3/ 323.
2- اختيار معرفة الرجال: 2/ 443/ ح344.

الصلوات، ولم أحضره في وقت صلاة، ولم أسمع فيه إلّا خيراً)(1).

3. وروى الكشّي أيضاً عن نصر، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا علي بن عبيد، ومحمَّد بن منصور الكوفي، عن محمَّد بن إسماعيل، عن صدقة، عن عمرو بن شمر، قال: (جاء العلاء بن يزيد رجل من جعفي، قال: خرجت مع جابر لمّا طلبه هشام حتى انتهى إلى السواد...)(2). وتتمّة الرواية فيها كرامتان لجابر الجعفي.

وهذا الإسناد أيضاً ضعيف، وقد ذكرنا حال نصر وإسحاق.

وأمَّا (علي بن عبيد) فلعلَّه (علي بن عبد الله) المتقدّم، ولعلَّ (محمَّد بن إسماعيل) هو الرازي البرمكي، و(صدقة) مجهول، وعمرو بن شمر مضعّف بالغلوّ، والعلاء بن يزيد مجهول كما ينبّه عليه قول الراوي رجل من جعفي.

هذه نصوص تعقّب هشام بن عبد الملك لجابر.

4. ووقع في بعض الأخبار الضعيفة تعقّبه من قبل بعض خلفاء بني أمية - على الإجمال - من دون تعيينه، فقد ذكر الحسين بن حمدان الخصيبي [الغالي] (ت 334ﻫ) في الهداية حديثاً موهوناً جاء في ذيله: (فرفع بعض الأخبار إلى بني أمية فأنفذوا ليريدوا قتله، فصادفوه في طرقات المدينة راكب القصب يطوف ويصيح: جنّ جابر، فكتبوا يخبرون السلطان من بني أميّة بجنونه، فبعث إليهم أردنا قتله لما فعل فإذا كان قد جنّ اتركوه. فقال أهل المدينة: الجنون لجابر خير من القتل)(3).

والذي يخطر في الذهن: أنَّه لا يبعد أصل تعقّب هشام لجابر، ولا يبعد كونه في زمان يوسف بن عمر الذي اشتهر بشدّته على الشيعة بعد الحجّاج، ولكن باقي القضية

ص: 256


1- المصدر السابق: 2/ 812/ ح1014.
2- لاحظ المصدر السابق: 2/ 444/ ح346.
3- الهداية الكبرى: 340.

تلفيقات من الغلاة والوضّاع.

ويساعد على أصل ذلك: أنَّ تظاهر جابر بالجنون ممّا لا ريب فيه، وقد ذكره علماء الجمهور أيضاً في ترجمته، ومثل جابر مظنَّة لتعقّبه من قبل الدولة الأمويّة وولاتها.

5. هذا، وفي حديث آخر أنَّ جابراً تظاهر بالجنون عند قتل الوليد، فقد روى الكشّي عن حمدويه، قال: حدّثنا يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن عبد الحميد بن أبي العلا، قال: (دخلت المسجد حين قتل الوليد، فإذا الناس مجتمعون، قال: فأتيتهم فإذا جابر الجعفي عليه عمامة خزّ حمراء وإذا هو يقول: حدّثني وصي الأوصياء ووارث علم الأنبياء محمَّد بن علي (علیه السلام)، قال: فقال الناس: جنّ جابر، جنّ جابر)(1).

وهذا الحديث صحيح.

والوليد المقتول هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك تولّى الخلافة بعد هشام سنة (125ﻫ) واشتهر بشدّة مجونه وفسقه حتى نُقم عليه، فخرج عليه ابن عمّه يزيد بن الوليد بن عبد الملك في سنة (126ﻫ) فقتله وتولّى الخلافة، وقد اضطرب ملك بني مروان بعد مقتل الوليد بما وقع فيهم من الخلاف في أحداث وصفت في التاريخ.

ويلاحظ أنَّ ما جاء في الرواية يحتمل أكثر من وجه:

الأوَّل: أنَّ جابراً أظهر الجنون من جهة حساسيّة الوضع بعد مقتل الوليد، مضافاً إلى أن عهد كل خليفة جديد مظنَّة للتشديد في أوَّله.

والثاني: أنْ يكون ذلك لحدوث انفراج ما في الوضع، فكان قول جابر هذا نحو إشهار لإمامة أبي جعفر (علیه السلام)، ولكن مع التظاهر بالجنون احتياطاً لنفسه.

ويحتمل غير ذلك.

ص: 257


1- اختيار معرفة الرجال: 2/ 437/ ح337.

الجهة الخامسة عشرة: جنون جابر أو تظاهره بالجنون..

لا شكَّ في أنَّ جابراً كان يتصرّف تصرّفات غير موزونة يتراءى منها الجنون، كما ورد في تراث الفريقين..

أمَّا الجمهور فقد ذكر ابن حجر في ترجمته: (قال أبو بدر(1):

كان جابر يهيج به في السنة مرَّة فيهذي ويخلط في الكلام، فلعلَّ ما حكي عنه كان في ذلك الوقت. وخرّج أبو عبيد في فضائل القرآن حديث الأشجعي(2) عن مسعر، حدَّثنا جابر قبل أنْ يقع فيما وقع فيه. قال الأشجعي: ما كان من تغيّر عقله)(3).

أقول: في المصادر الحديثية الأولى للجمهور - والتي اعتمد عليها ابن حجر - كسنن الدارمي (ت255ﻫ) ما لفظه: (حدَّثنا القاسم بن سلام أبو عبيد، قال: حدَّثني عبيد الله الأشجعي، حدَّثني: مسعر، حدَّثني جابر قبل أنْ يقع فيما وقع فيه)(4). وليس فيها هذا الذيل: (قال الأشجعي: ما كان من تغيّر عقله).

وحمل على هذا المعنى بعض الأعلام(5)

ما ذكره مسلم في ديباجة جامعه عن مسعر، (قال: حدَّثنا جابر بن يزيد قبل أنْ يحدث ما أحدث)(6).

وما ذكره الذهبي في ميزان

ص: 258


1- هو شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، وكانت له سن قد جاوز التسعين، وكان كثير الصلاة، ورعاً، وتوفي ببغداد (204ﻫ) في شهر رمضان. لاحظ الطبقات الكبرى: 7/ 333.
2- هو عبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي، وكان ثقة. لاحظ المصدر السابق: 6/ 391.
3- تهذيب التهذيب: 2/ 44.
4- سنن الدارمي: 2/ 452، ويلاحظ شعب الإيمان للبيهقي (ت458ﻫ): 2/ 529، وتفسير القرطبي (ت671ﻫ): 4/ 2.
5- لاحظ تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي: 5/ 98.
6- صحيح مسلم: 1/ 15.

الاعتدال في ترجمته: (قال شهاب بن عبّاد: سمعت أبا الأحوص يقول: كنت إذا مررت بجابر الجعفي، سألت ربي العافية)(1).

والصحيح - بناءً على وجود هذا الذيل - أنَّ قول مسعر ناظر إلى تغيّره الفكري إلى مذهب الإمامة، والتعبير الثاني المحكي عنه يوضح ذلك، وله نظائر كقول محمَّد بن مسلم: (دخلت عليه - أي الإمام الباقر (علیه السلام) - بعد ما قتل أبو الخطّاب، قال: فذكرت له ما كان يروى من أحاديثه تلك العظام قبل أن يحدث ما أحدث)(2).

وذكر ابن معين بإسناده عن منصور قال: (حدّثنا حمّاد قبل أن يحدث ما أحدث)(3)،

وهو يعني دخوله في الإرجاء كما يوضّحه ما نقله قبل ذلك.

وإنّما ذلك على حدّ قول سفيان [ابن عيينة]: (كان الناس يحملون عن جابر قبل أن يظهر ما أظهر، فلمّا أظهر ما أظهر اتّهمه الناس في حديثه وتركه بعض الناس. فقيل له: وما أظهر؟ قال: الإيمان بالرجعة)(4).

ومنه يظهر أنَّ قول الأشجعي في تفسير قول مسعر ليس صحيحاً.

وأما قول الأحوص فالظاهر أنَّه أيضاً ناظر إلى أنَّ جابراً بعد حظّه من العلم والورع افتتن بالرفض، وقد نقله غير واحد من أرباب الرجال بين أقوال ذامَّة له(5).

ص: 259


1- ميزان الاعتدال: 1/ 381.
2- بصائر الدرجات: 214/ ح2.
3- تاريخ ابن معين برواية الدوري: 1/ 317.
4- صحيح مسلم: 1/ 15.
5- لاحظ الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 2/ 114، وميزان الاعتدال للذهبي: 1/ 381، وتهذيب التهذيب: 2/ 44، وإمتاع الأسماع للمقريزي: 13/ 12.

وأمَّا الإماميَّة فقد رووا أيضاً عمل جابر بما يتراءى منه الجنون، كما مرَّ في معتبرة عبد الحميد بن أبي العلاء فيما وصفه به بعد مقتل الوليد بن يزيد.

ويؤيّد ذلك آثار أخرى ضعيفة رواها الضعفاء والغلاة ممَّن كان ينتمي إليه، فإنَّ غالب الآثار الضعيفة تبتني على أمور ثابتة يزاد فيها وفق هوى رواتها، كما يتبيّن بالتتبع.

وقد مرَّ ذكر بعض الروايات التي تتضمَّن ذلك، وهي:

1. رواية الكشّي بإسناده عن علي بن عبد الله، قال: خرج جابر ذات يوم وعلى رأسه قوصرة راكباً قصبة حتى مرَّ على سكك الكوفة، فجعل الناس يقولون: جنّ جابر جنّ جابر! فلبثنا بعد ذلك أياماً، فإذا كتاب هشام قد جاء بحمله إليه. قال: فسأل عنه الأمير فشهدوا عنده أنَّه قد اختلط، وكتب بذلك إلى هشام فلم يتعرَّض له، ثمَّ رجع إلى ما كان من حاله الأوَّل)(1).

2. ما رواه الخصيبي (ت 334ﻫ) في الهداية في حديث جاء في ذيله: (فرفع بعض الأخبار إلى بني أمية فأنفذوا ليريدوا قتله، فصادفوه في طرقات المدينة راكب القصب يطوف ويصيح: جنّ جابر، فكتبوا يخبرون السلطان من بني أميَّة بجنونه، فبعث إليهم أردنا قتله لما فعل فإذا كان قد جنَّ اتركوه. فقال أهل المدينة: الجنون لجابر خير من القتل)(2).

وربّما ظنَّ بعضهم أنَّ قول النجاشي عن جابر: (وكان مختلطاً) يشير إلى جنونه(3)، وليس كذلك، فإنَّ الاختلاط وإنْ كان لغة بمعنى الجنون، إلّا أنَّ هذا التعبير استعير

ص: 260


1- اختيار معرفة الرجال: 2/ 443/ ح344.
2- الهداية الكبرى: 340.
3- لاحظ تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي: 5/ 93 وما بعدها.

عند المحدّثين لمن يخلط الغثّ بالسمين ويروي أموراً منكرة كما يظهر بالتتبع. نعم، إذا قيل: (اختلط فلان في آخر عمره) كان بمعنى الجنون.

وكيف كان فالراجح في النظر أنَّ ما صدر من جابر ممّا يتراءى منه الجنون كان تكلّفاً كما تشير إليه معتبرة عبد الحميد بن أبي العلاء من حيث إنّها تدلّ على توقيت جنونه مع مقتل الوليد بن يزيد، وتصرّح بذلك سائر الآثار المتقدّمة.

وقد عهد مثل هذا التصرّف من بعض النابهين من العلماء، فقد ذكر بعض المؤرخين - وهو ابن أبي أصيبعة (ت 668ﻫ) - أنَّ ابن الهيثم بعدما وفد على الحاكم الفاطمي بمصر (ولّاه بعض الدواوين فتولّاها رهبة لا رغبة، وتحقّق الغلط في الولاية، فإنَّ الحاكم كان كثير الاستحالة مريقاً للدماء بغير سبب، أو بأضعف سبب من خيال يتخيّله، فأجال فكرته في أمر يتخلّص به فلم يجد طريقاً إلى ذلك إلّا إظهار الجنون والخبال، فاعتمد ذلك وشاع فأحيط على موجوده له(1)

بيد الحاكم ونوّابه، وجعل برسمه من يخدمه ويقوم بمصالحه، وقيد وترك في موضع من منزله، ولم يزل على ذلك إلى أن تحقق وفاة الحاكم، وبعد ذلك بيسير أظهر العقل وعاد إلى ما كان عليه)(2).

نعم، بعض تلامذته من الجمهور لم يلتفتوا إلى ذلك من جهة عدم التنبّه إلى مقتضيات هذا التصرف من قبل جابر، على أنَّ جمهور تلامذته ومعاصريه لم يصفوه بالاختلاط والجنون، ولعلّهم عرفوا أنَّ ذلك تكلّف منه في مسعاه لصيانة نفسه.

وفي مثل هذا التصرّف من جابر ما يدلّ على حراجة موقف الشيعة آنذاك، حتى أنَّ مثل جابر في وجاهته وشيخوخته وعلمه يضطر إلى التظاهر بالجنون لأجل صيانة نفسه.

ص: 261


1- هكذا في المصدر. وفي تاريخ مختصر الدول لابن العبري (ت685ﻫ) (فأحيط على موجودة) وهو الصحيح.
2- عيون الأنباء في طبقات الأطباء: 551.

الجهة السادسة عشرة: طبيعة تعامل جابر مع الوسط السُنّي العام بعد تحوّله الفكري إلى المذهب الإمامي..

فهل كان جابر يتكتّم على تحوّله الفكري، أو على ما تلقّاه من أحاديث عن الإمام الباقر (علیه السلام) في الأوساط العلميّة والاجتماعيّة العامّة التي كان يعيشها في المرحلة الأولى، كما قد يناسب ذلك ما رواه عنه الفريقان من أنّه تحمّل آلاف الأحاديث ولم يحدّث بها؟

أم أنَّ جابراً أبرز تحوّله الفكري في تلك الأوساط وبذلك انفصل عن بيئة مشايخه وتلامذته في المرحلة السابقة، فتُرِكَ من قبل أصحابه من قبل، وانتقل إلى بيئة شيعيّة محضة، كما يتراءى ذلك في حق آخرين من أهل العلم والفضيلة ممَّن تتلمذ على الإمام الباقر (علیه السلام) كزرارة بن أعين؟

ويناسب هذا الاحتمال ما دلّ على ترك جماعة من تلامذته له.

أم كان موقف جابر بين هذا وذاك؟

والذي يظهر بالتأمّل في آثار جابر أنَّه لم يكن كبعض آخر من الرواة وحملة العلم عن الإمامين الصادقَين (علیهما السلام)

ممَّن كان في أوائل حمله للحديث من أتباع الوسط العلمي والاجتماعي العاميّ كزرارة بن أعين - مثلاً -، فإنَّ زرارة بعد معرفته للحق انتقل في الجو العلمي إلى بيئة شيعيّة محضة ولم يظهر أنَّه بقي يحدّث أتباع ذلك الجو الذي انتقل منه بالآثار العاميّة، وأمَّا جابر فالذي يظهر بالتأمّل في آثاره أنَّه جمع بصعوبة بين الاتجاهين، فلم يزل يحدّث طلاب المدرسة العاميّة بالحديث الذي تلقّاه من أساتذته من الصحابة والتابعين قبل تحوّله لمدرسة أهل البيت (علیهم السلام)، ومن آثار هذا الاتجاه حمل مثل سفيان الثوري - الذي هو من مشاهير المحدّثين - الحديث عنه، وهو في هذا الاتجاه لا يُخْرِج - على العموم - لتلامذة حلقته ما كان تلقّاه من العلم والفقه والمعارف من الإمام

ص: 262

الباقر (علیه السلام) ممّا لا يتحملونه، ومن ثَمَّ استمر جلّ هؤلاء بالحضور عليه كما يظهر ممّا رواه الجمهور عن تلامذته عنه، ولم يرووا عنه ما يباين الآثار التي يعهدونها.

بينما تكشف آثار أخرى لجابر أنَّه كان يعمل في نفس الوقت ضمن اتجاه آخر خاص يتقيّد فيه بالرواية للخاصّة عن الإمام الباقر

(علیه السلام) في الفقه والمعارف، إذ يظهر ذلك ممّا نسب إليه من كتب من أصل ونوادر وتفسير وغيرها، حيث تضمّنت ما لا يتقبله الجمهور حسب أصولهم، كما سيأتي بيان ذلك في الحديث عن كتبه.

ولكنه (رحمة الله) كان يظهر أحياناً ما لا يتلائم مع أصول الأوساط العلميّة العاميّة، فيشير بذلك إلى تحوّله لمدرسة أهل البيت (علیهم السلام)، ومن ذلك:

1. تحديثه بانتهاء علم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى الأئمَّة من أهل البيت (علیهم السلام) فقد ورد عن ابن عيينة أنَّه قال: (تركت جابر الجعفي وما سمعت منه. قال: دعا رسولُ الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) علياً يعلّمه ما يعلمه، ثمَّ دعا عليٌ الحسنَ فعلّمه ما يعلم، ثمّ دعا الحسنُ الحسينَ فعلّمه ما يعلم، حتى بلغ جعفر بن محمَّد. قال: فتركته لذلك ولم أسمع منه)(1).

2. وأيضاً عندما كان ينقل حديثاً عن الإمام الباقر (علیه السلام)، يقول: حدّثني وصيّ الأوصياء، فقد ورد عن ابن أكثم الخراساني(2)

أنّه قال لسفيان بن عيينة (107- 198ﻫ): (أرأيت يا أبا محمَّد الذين عابوا على جابر الجعفي قوله حدّثني وصيّ الأوصياء، فقال سفيان: هذا أهونه)(3).

ص: 263


1- الكامل في ضعفاء الرجال: 2/ 115.
2- هو يحيى بن أكثم بن محمَّد بن قطن بن سمعان... توفي في ذي الحجة سنة242ﻫ، وكان عمره نيفاً وثمانين سنة. تهذيب الكمال: 31/ 208 - 222. والرجل مختلف فيه وهو متهم بإتيان الغلمان.
3- الضعفاء الكبير [ضعفاء العقيلي]: 1/ 194. رقم: 24.

3. وكذلك كان يحدِّث برجعة الأمر إلى آل البيت (علیهم السلام)، حيث ورد عن سفيان بن عيينة أنَّه قال: (كان الناس يحملون عن جابر قبل أنْ يظهر ما أظهر فلمّا أظهر ما أظهر اتّهمه الناس في حديثه وتركه بعض الناس. فقيل له: وما أظهر؟ قال: الإيمان بالرجعة)(1).

4. وأيضاً كان يحدِّث أنّه سمع من الإمام الباقر (علیه السلام) أحاديث كثيرة جداً، فقد ورد عن الجراح بن مليح(2)

أنّه قال: (سمعت جابراً يقول عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر عن النبي (علیه السلام) كلّها)(3).

5. وأيضاً كان يحدِّث بوجود باطن للقرآن الكريم:

أمَّا من طرقنا فقد روى شريس الوابشي، عنه أنَّه قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن شيء من التفسير فأجابني، ثمَّ سألته عنه ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جُعلت فداك كنت أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم. فقال: (يا جابر إنَّ للقرآن بطناً وللبطن بطناً، وله ظهر وللظهر ظهر، يا جابر ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إنَّ الآية يكون أوَّلها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل منصرف على وجوه) (4).

وأمَّا من طرق العامَّة فقد ورد عن ابن عيينة أنَّه قال: (سمعت رجلاً سأل جابر الجعفي عن قوله: [فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي]. قال جابر: لم يجئ تأويلها)(5).

ص: 264


1- الجامع الصحيح [صحيح مسلم]: 1/ 15. (دار الفكر. بيروت - لبنان).
2- هو الجراح بن مليح بن عدي الرؤاسي، والد وكيع. (ت 175 أو 176ﻫ).
3- ضعفاء العقيلي: 1/ 193.
4- المحاسن: 2/ 300/ ح5.
5- الكامل في ضعفاء الرجال: 2/ 116.

الجهة السابعة عشرة: جابر والحركات الثوريّة..

لقد كانت الكوفة تضّج بالمشاعر والحركات الثورية ضد خلافة بني أمية فيما بعد مقتل الإمام الحسين (علیه السلام) (سنة 61ﻫ) إلى نهاية هذه الخلافة بانتصار العباسيين في (سنة 132ﻫ)، وهذه هي الفترة التي عاش بها جابر، وقد شهدت عدَّة ثورات سبق ذكرها أدرك جابر منها (شاباً) ثورة ابن الأشعث (سنة 83ﻫ) والتي شارك فيها جلّ علماء العراق، و(شيخاً) ثورة زيد بن علي بن الحسين (علیهم السلام) (سنة 122ﻫ)، وثورة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر (سنة 127ﻫ)، ولم تحكَ مشاركة جابر في شيء من هذه الثورات بعمل أو فتوى أو تحريض، كما فعله كثير من وجوه معاصريه، ومشايخه وتلامذته كسلمة بن كهيل، وأبي حنيفة وغيرهما، وقد ذكرنا بعضهم من قبل. ولم يكن هذا الأمر سهلاً على جابر اجتماعياً؛ إذ كان هوى عامَّة أهل الكوفة مع الثورة على بني أميَّة وولاتها.

ومن المتوقع أنْ يكون موقف جابر هذا ناشئاً عن تعلّمه عند الإمام الباقر (علیه السلام) ووصيته إياه وكان (علیه السلام) لا يرى الخروج آنذاك، وجاء أنَّه نهى أخاه زيداً عن الخروج، ولم يخرج زيد إلّا بعد وفاته بعدَّة سنين، وجاء في بعض الأخبار أنَّه لم يخرج من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله (علیهما السلام) مع زيد أحد إلّا سليمان بن خالد، وقد ورد في الحديث أنَّ الإمام (علیه السلام) نهى جابراً عن الخروج:

فقد ورد في أصل جعفر بن محمَّد الحضرمي عن إبراهيم بن جبير عن جابر الجعفي قال: قال لي محمَّد بن علي (علیه السلام): (يا جابر إنَّ لبني العباس راية ولغيرهم رايات، فإيَّاك ثمَّ إيَّاك ثلاثاً حتى ترى رجلاً من ولد الحسين (علیه السلام) يبايع له بين الركن والمقام معه سلاح

ص: 265

رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ومغفر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ودرع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وسيف رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم))(1).

وروى النعماني في الغيبة ما نصّه: أخبرنا أحمد بن محمَّد بن سعيد، عن هؤلاء الرجال الأربعة - وهم محمَّد بن المفضَّل، وسعدان بن إسحاق بن سعيد، وأحمد بن الحسين بن عبد الملك، ومحمَّد بن أحمد بن الحسن -، عن ابن محبوب. وأخبرنا محمَّد بن يعقوب الكليني أبو جعفر، قال: حدّثني علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه. قال: وحدّثني محمَّد بن عمران، قال: حدثنا أحمد بن محمَّد بن عيسى، قال: وحدّثنا علي بن محمَّد وغيره، عن سهل بن زياد، جميعاً، عن الحسن بن محبوب. قال: وحدثنا عبد الواحد بن عبد الله الموصلي، عن أبي علي أحمد بن محمَّد بن أبي ناشر، عن أحمد بن هلال، عن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: قال أبو جعفر محمَّد بن علي الباقر (علیه السلام): (يا جابر، الزم الأرض ولا تحرك يداً ولا رجلاً حتى ترى علامات أذكرها لك إنْ أدركتها: أوَّلها اختلاف بني العباس، وما أراك تدرك ذلك، ولكن حدِّث به من بعدي عنّي...)(2).

وفي بعض الروايات أنَّ جابراً أنبأ زيداً بمقتله قبل خروجه، فقد ذكر السيد محسن الأمين أنَّه روى الخوارزمي في كتاب المقتل عن جابر الجعفي أنَّه قال: قال لي محمَّد بن علي الباقر (علیه السلام): (إنَّ أخي زيد بن علي خارج مقتول وهو على الحقّ، فالويل لمن خذله، والويل لمن حاربه، والويل لمن يقتله).

قال جابر: فلمّا أزمع زيد بن علي على الخروج، قلت له: إنّي سمعت أخاك يقول كذا وكذا، فقال لي: يا جابر لا يسعني أن أسكت وقد خولف كتاب الله وتحوكم إلى الجبت والطاغوت، وذلك أنّي شهدت هشاماً، ورجل عنده يسبّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقلت

ص: 266


1- الأصول الستَّة عشر: 79.
2- الغيبة: 288-291 ح67 باب ما جاء من العلامات قبل قيام القائم (علیه السلام).

للسابّ: ويلك يا كافر أمَا إنَّي لو تمكّنت منك لاختطفت روحك وعجّلتك إلى النار. فقال لي هشام: مه عن جليسنا يا زيد، فوالله إنْ لم يكن إلّا أنا ويحيى ابني لخرجت عليه وجاهدته حتى أفنى(1).

هذا، وقد لوحظ خروج بعض الغلاة خاصّة في عهد جابر - كما ذُكر في كتب الفرق والتأريخ -:

منهم: المغيرة بن سعيد، فقد خرج مع ستة أو سبعة أشخاص بظهر الكوفة (سنة 120ﻫ) فقبض عليهم عبد الله بن خالد القسري وأحرقهم، وكان ينسب نفسه إلى الإمام الباقر (علیه السلام)، وكان

(علیه السلام) يتبرأ منه، لكن حيث كان من يتبعه من عوامّ الناس ولم يكونوا أهل بحث وفقه فلم يكن ينكشف كذبه لديهم، وهذا ممّا كان يعاني منه أئمة أهل البيت (علیهم السلام) حيث كانوا قاطنين بعيداً عن الكوفة التي كانت مركز الشيعة، وقد مرّ أنَّ بعضهم زعم أنَّ جابراً خلف المغيرة بعد مقتله، وكأنَّه حدس ناشئ من توهّم تماثل اعتقادات جابر مع المغيرة.

وهذا خطأ واضح، فأين جابر في موقعه في سلامة الاعتقاد والدين والعلم ومذاقه الثوري من ابن المغيرة الذي نُسب إليه دعوى الإلوهية والنبوة ومزاعم غريبة أخرى، وكانت له مطامح سياسية!

ومنهم: سعيد بن منصور العجلي الملقب ب- (كسب)، خرج (سنة 121ﻫ) في الكوفة وقتل.

ص: 267


1- أعيان الشيعة: 7/ 116.

الجهة الثامنة عشرة: عناية الإمام الباقر (علیه السلام) بجابر..

يتراءى ممّا رواه الفريقان أنَّ جابراً كان يذكر عناية الإمام الباقر (علیه السلام) به، ولا يبعد الاطمئنان بذلك بملاحظة بعض تلك الروايات، إلّا أنَّه لا ينبغي الشكّ في أنَّ الضعفاء من القصّاصين والغلاة وغيرهم أضافوا على ذلك شيئاً غير قليل.

وفيما يأتي بعض ما روي من مظاهر هذه العلاقة:

1. مخاطبته كثيراً باسمه في الكلام معه حيث يرِد أنَّ الإمام (علیه السلام) قال: (يا جابر)(1).

2. شكاية الإمام الباقر (علیه السلام)

أحياناً له، فقد روى الكليني بإسناده عن علي بن الحكم، عن أبي عبد الله المؤمن، عن جابر قال: دخلت على أبي جعفر (علیه السلام) فقال: (يا جابر والله إني لمحزون، وإني لمشغول القلب)، قلت: جعلت فداك وما شغلك؟ وما حزن قلبك؟

فقال: (يا جابر، إنَّه من دخل قلبه صافي خالص دين الله شغل قلبه عمّا سواه، يا جابر، ما الدنيا وما عسى أنْ تكون الدنيا هل هي إلّا طعام أكلته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها؟! يا جابر، إنَّ المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا ببقائهم فيها ولم يأمنوا قدومهم الآخرة، يا جابر، الآخرة دار قرار، والدنيا دار فناء وزوال ولكن أهل الدنيا أهل غفلة وكأنَّ المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة، لم يصمّهم عن ذكر الله جلّ اسمه ما سمعوا بآذانهم، ولم يعمهم عن ذكر الله ما رأوا من الزينة بأعينهم ففازوا بثواب الآخرة، كما فازوا بذلك العلم. واعلم يا جابر، أنَّ أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة، تذكّر فيعينونك وإن نسيت ذكّروك، قوّالون بأمر الله قوّامون على أمر الله، قطعوا

ص: 268


1- لاحظ - على سبيل المثال - المحاسن: 1/ 133/ ح10، 185/ ح193، 227/ ح157، 260/ ح316، 2/ 300/ ح5.

محبتهم بمحبة ربَّهم ووحّشوا الدنيا لطاعة مليكهم ونظروا إلى الله عزَّ وجلَّ وإلى محبته بقلوبهم وعلموا أنَّ ذلك هو المنظور إليه، لعظيم شأنه، فأنزلْ الدنيا كمنزل نزلته ثمّ ارتحلت عنه، أو كمالٍ وجدته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شيء، إنّي [إنَّما]ضربت لك هذا مثلاً، لأنَّها عند أهل اللبّ والعلم بالله كفيء الظلال، يا جابر، فاحفظ ما استرعاك الله عزَّ وجلَّ من دينه وحكمته ولا تسألن عمّا لك عنده إلّا ما له عند نفسك، فإنْ تكن الدنيا على غير ما وصفتُ لك فتحوّل إلى دار المستعتب، فلعمري لرُبَّ حريص على أمر قد شقي به حين أتاه، ولرُبَّ كاره لأمر قد سعد به حين أتاه، وذلك قول الله عزَّ وجلَّ: [وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ])(1).

3. العناية بتعليمه حتّى حمل عنه أحاديث كثيرة فيما حكاه هو على ما نقله عنه الفريقان كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

4. تعليمه أموراً لم يكن ليبثها الإمام لكل واحد، كما حدّث بنفسه فيما رواه الفريقان.

5. إعطاؤه كأساً حفظ ببركته أربعين ألف حديث، فعن شبابة(2)

عن ورقاء(3)

عن جابر: (دخلت على أبي جعفر الباقر فسقاني في قعب حسائي حفظت به أربعين ألف حديث)(4).

6. تعليمه ما يتحفظ به على حياته الشخصيّة من السلطة كما في الرواية المتقدّمة

ص: 269


1- الكافي: 1/ 132/ ح16 باب ذمّ الدنيا والزهد فيها.
2- هو شبابة بن سوار المدائني أصله من خراسان يقال كان اسمه مروان مولى بني فزارة، (ت 204 أو205ﻫ).
3- هو ورقاء بن عمر بن كليب اليشكري ويقال الشيباني أبو بشر الكوفي نزيل المدائن يقال أصله من مرو، من الطبقة السابعة.
4- يلاحظ الكامل في ضعفاء الرجال: 2/ 114.

التي تضمنت أنَّ الإمام بعث إليه بعد خروجه من المدينة من يوصل إليه رسالة يوصيه فيها بالحذر، وقد تظاهر بالجنون بعد ذلك.

ولكن مرّ ضعف هذه الرواية.

7. دعاؤه (علیه السلام) له، فقد روى الكليني عن العدّة عن أحمد بن أبي عبد الله، عن بعض العراقيين، عن محمَّد بن المثنى الحضرمي، عن أبيه، عن عثمان بن زيد، عن جابر قال: قال لي أبو جعفر (علیه السلام): (يا جابر، لا أخرجك الله من النقص ولا التقصير)(1).

ومن المظاهر الأخرى لهذه العلاقة:

1. تسليمه كتاباً كما رواه هو حيث قال: ودفع إلي كتاباً وقال لي: (إنْ أنت حدّثت به حتى تهلك بنو أميّة فعليك لعنتي ولعنة آبائي، وإذا أنت كتمت منه شيئاً بعد هلاك بني أمية فعليك لعنتي ولعنة آبائي، ثمّ دفع إلي كتاباً آخر، ثمّ قال: وهاكَ هذا فإنْ حدّثت بشيء منه أبداً فعليك لعنتي ولعنة آبائي)(2).

وقد تقدّم ضعف هذه الرواية أيضاً.

2. ما روي من أنَّ الإمام (علیه السلام)

أراه ملكوت السموات والأرض، فقد روى الصفّار عن (محمَّد بن المثنى عن أبيه عن عثمان بن زيد عن جابر عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: سألته عن قول الله عزَّ وجلَّ: [وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] قال: فكنت مطرقاً إلى الأرض فرفع يده إلى فوق ثمّ قال لي: (ارفع رأسك). فرفعت رأسي فنظرت إلى السقف قد انفجر حتى خلص بصري إلى نور ساطع حار بصري دونه قال، ثمّ قال لي: (رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض هكذا)، ثمّ قال لي: (اطرق). فأطرقت، ثمّ قال لي: (ارفع رأسك). فرفعت رأسي فإذا السقف على حاله. قال: ثمّ أخذ بيدي

ص: 270


1- الكافي: 2/ 72/ ح2.
2- اختيار معرفة الرجال: 2/ 438/ ح339.

وقام وأخرجني من البيت الذي كنت فيه وأدخلني بيتاً آخر، فخلع ثيابه التي كانت عليه ولبس ثياباً غيرها، ثمّ قال لي: (غضّ بصرك) فغضضت بصري، وقال لي: (لا تفتح عينك، فلبثت ساعة، ثمّ قال لي: أتدري أين أنت؟) قلت: لا، جعلت فداك. فقال لي: (أنت في الظلمة التي سلكها ذو القرنين). فقلت له: جعلت فداك، أتأذن لي أنْ أفتح عيني. فقال لي: (افتح فإنَّك لا ترى شيئاً). ففتحت عيني فإذا أنا في ظلمة لا أبصر فيها موضع قدمي ثمّ صار قليلاً ووقف، فقال لي: (هل تدرى أين أنت؟). قلت: لا. قال: (أنت واقف على عين الحياة التي شرب منها الخضر ((علیه السلام). وخرجنا من ذلك العالم إلى عالم آخر فسلكنا فيه فرأينا كهيئة عالمنا في بنائه ومساكنه وأهله، ثمّ خرجنا إلى عالم ثالث كهيئة الأوَّل والثاني، حتى وردنا خمسة عوالم. قال، ثمّ قال: (هذه ملكوت الأرض ولم يرها إبراهيم، وإنَّما رأى ملكوت السماوات وهي اثنا عشر عالماً كل عالم كهيئة ما رأيت، كلَّما مضى منّا إمام سكن أحد هذه العوالم حتى يكون آخرهم القائم في عالمنا الذي نحن ساكنوه). قال، ثمّ قال: (غضّ بصرك) فغضضت بصري. ثمّ أخذ بيدي فإذا نحن بالبيت الذي خرجنا منه فنزع تلك الثياب ولبس الثياب التي كانت عليه وعدنا إلى مجلسنا، فقلت: جعلت فداك كم مضى من النهار؟ قال (علیه السلام): (ثلاث ساعات)(1).

3. ما ذكره غير واحد من أنَّ جابراً كان باباً للإمام الباقر أو الصادق (علیهما السلام) مثل ابن شهرآشوب وجماعة من قبله(2)، وعوّل عليه جماعة من المتأخرين(3).

والذي يرجُح في النظر بالتأمل في مجموع التاريخ أنَّ مصطلح الباب قد عُمّم في عصر الغيبة الصغرى وما بعدها من قبل الغلاة، فقد كان يطلق على السفراء من جهة

ص: 271


1- بصائر الدرجات الكبرى: 8/ 424 باب: 13 ح4.
2- لاحظ دلائل الإمامة: 217، ومناقب آل أبي طالب: 3/ 340.
3- لاحظ تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي: 5/ 70.

أنَّهم باب الاتصال مع الإمام الحجة (علیه السلام)، وكان مبنياً على الاتصال الحسيّ بالإمام (علیه السلام)، ثمّ زعم بعض الغلاة أنَّهم باب الإمام على أساس الاتصال المعنوي به، وأنَّهم مخزن أسراره وعلومه، وجعلوا ذلك قاعدة، وزعموا أنَّه كان لكل من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة (علیهم السلام) باباً، فاختاروا أشخاصاً رأوا مناسبة شخصيّتهم لدعوى كونهم باباً للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة (علیهم السلام) فادّعوا أنَّهم كانوا أبوابهم فجعلوا باب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، وسلمان باباً لأمير المؤمنين (علیه السلام) (1)، وسفينة باباً للإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) (2)، ورشيد الهجري باباً للإمام الحسين (علیه السلام) (3)، وأبا خالد الكابلي باباً للإمام علي بن الحسين (علیهما السلام) (4)، والإمام الباقر (علیه السلام) بابه جابر بن يزيد الجعفي(5)، والإمام الصادق (علیه السلام) بابه المفضَّل بن عمر(6)، والإمام الكاظم (علیه السلام) بابه محمَّد بن المفضَّل(7)، والإمام الرضا (علیه السلام) بابه محمَّد بن الفرات(8)... وهكذا.

ولم يعهد من أصحابنا مثل هذا المعنى، كما لا نجد في رجال البرقيّ والنجاشيّ ورجال الكشّي وفهرست الشيخ ورجاله والغيبة له وغيرها ذكراً لكون أحد باباً للأئمة المتقدمين، وإنَّما ذكر وكالة بعض أصحابنا لهم.

نعم، ذكر الشيخ الطوسيّ في غيبته: (أنَّ محمَّد بن علي الشلمغاني لم يكن قطُ باباً إلى

ص: 272


1- لاحظ مناقب آل أبي طالب: 3/ 90.
2- لاحظ دلائل الإمامة: 163.
3- المصدر السابق: 181.
4- المصدر السابق: 193.
5- المصدر السابق: 217.
6- المصدر السابق: 246.
7- المصدر السابق: 308.
8- المصدر السابق: 359.

أبي القاسم ولا طريقاً له، ولا نصبّه أبو القاسم لشيء من ذلك على وجه ولا سبب)(1).

وأيضاً أورد الكشّي رواية ضعيفة جداً عن أبي جعفر (علیه السلام) أنَّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (يا أبا ذر، إنَّ سلمان باب الله في الأرض)(2).

ولكن بعض أصحابنا اتّبعوا الغلاة ومن تأثّر بهم في ذلك كالطبريّ والخصيبي وغيرهما، ثمّ تبعهما المتأخرون.

الجهة التاسعة عشرة: خوارق جابر أو كراماته..

قد كان في أوساط المسلمين كالأمم السابقة رجال من الصالحين يتفق لهم الكرامات وإنْ لم يكونوا أنبياء، نظير ما كان يتفق لمريم ابنة عمران على ما قصّه القرآن الكريم، كما كان هناك آخرون يوهمون من خلال تعلّم العلوم الغريبة من السحر وأخواته أنَّهم أصحاب معاجز وكرامات ليثبتوا دعاوى باطلة.

ويظهر من مجموع أخبار جابر لدى الفريقين أنَّ جابراً كان ممَّن يتفق له أمور عجيبة، ولعل ذلك من مصاديق ما ذكره زياد بن أبي الحلال فيما ذكره من أعاجيب جابر - في رواية تقدم ذكرها عنه -.

إلّا أنَّ الجمهور الذين يعتقدون بفساد عقيدة جابر حملوا ما رؤي منه على أنّه خديعة ومخاريق، فذكر ابن عدي أنَّه قال عثمان بن أبي شيبة حدثني أبي عن جدّي قال: (كنت آتيه في وقت ليس فيه فاكهة ولا قثّاء ولا خيار فيذهب إلى بُسيتين له في داره فيجيء بقثّاء وخيار فيقول: كُلْ، فوالله ما زرعته)(3).

ص: 273


1- الغيبة: 408/ ح381.
2- اختيار معرفة الرجال: 1/ 59/ ح33.
3- لاحظ الكامل في ضعفاء الرجال: 2/ 114.

وذكر ابن قتيبة في المعارف عن جابر أنَّه (كان صاحب شبه ونيرنجات)(1)، و(نيرنج) على الأغلب معرّب، وأصله بالفارسية (نيرنگ) بالكاف الفارسيّة، وهو بمعنى الخدعة. واشتهر إطلاقه على الخدع الخفيّة فمنهم من جعله من السحر(2)، ومنهم من قال إنَّه أُخَذ يشبه السحر وليس به كما في القاموس وغيره(3).

وهذا يخالف ما ذكره غير واحد منهم من أنَّ الرجل كان صاحب ورع وصدق.

وقد ورد في تراث الإمامية بعض الآثار في كرامات جابر على ضعف في أغلبها، ويتوقع أنْ يكون الغلاة والوضّاع والقصّاصون قد زادوا عليها. فمن ذلك:

1. ما رواه الكليني بإسناده إلى النعمان بن بشير عند طلب هشام بن عبد الملك لجابر الجعفي، وكان ذلك في حياة الإمام الباقر

(علیه السلام) وعلّمه كيف يحافظ على حياته، وجاء في آخر الخبر: (فوجدته قد خرج عليَّ وفي عنقه كعاب، قد علّقها وقد ركب قصبة وهو يقول: أجد منصور بن جمهور أميراً غير مأمور وأبياتاً من نحو هذا... قال: ولم تمضِ الأيام حتى دخل منصور بن جمهور(4)

الكوفة وصنع ما كان يقول جابر)(5).

2. ما رواه الكشّي عن نصر بن الصباح، قال: (حدثنا إسحاق بن محمَّد، قال: حدثنا فضيل عن زيد الحامض، عن موسى بن عبد الله، عن عمرو بن شمر، قال جاء قوم إلى جابر الجعفي فسألوه أنْ يعينهم في بناء مسجدهم؟ قال: ما كنت بالذي أعين في بناء شيء يقع منه رجل مؤمن فيموت، فخرجوا من عنده وهم يبخّلونه ويكذّبونه، فلما

ص: 274


1- لاحظ المعارف: 480.
2- لاحظ تاج العروس مادة (دنبد): 4/ 441.
3- لاحظ المصدر السابق مادة (نرج): 3/ 497.
4- تقدمت ترجمته.
5- الكافي: 1/ 396/ ح7.

كان من الغد أتمّوا الدراهم ووضعوا أيديهم في البِناء، فلما كان عند العصر زلت قدم البنّاء فوقع فمات)(1).

3. أيضاً ما رواه الكشّي عن محمَّد بن مسعود، قال: حدّثني محمَّد بن نصير، عن محمَّد بن عيسى. وحمدويه بن نصير، قال: حدّثني محمَّد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن عروة بن موسى، قال: (كنت جالساً مع أبي مريم الحنّاط وجابر عنده جالس، فقام أبو مريم فجاء بدورق من ماء بئر منازل [خ: مبارك] ابن عكرمة، فقال له جابر: ويحك يا أبا مريم كأنَّي بك قد استغنيت عن هذه البئر واغترفت من هاهنا من ماء الفرات، فقال له أبو مريم: ما ألوم الناس أنْ يسمونا كذّابين - وكان مولى لجعفر (علیه السلام) - كيف يجيء ماء الفرات إلى هاهنا؟ قال: ويحك، يُحتفر هاهنا نهر أوله عذاب على الناس وآخره رحمة يجري فيه ماء الفرات، فتخرج المرأة الضعيفة والصبي فيغترف منه، ويُجعل له أبواب في بني رواس، وفي بني موهبة، وعند بئر بني كندة، وفي بني فزارة حتى تتغامس فيه الصبيان.

قال علي - أي ابن الحكم -: إنَّه قد كان ذلك، وأنَّ الذي حدث على عهده(2).

ولعل أنّه قد سمع بهذا الحديث قبل أنْ يكون)(3).

4. أيضاً ما رواه الكشّي عن نصر، قال: (حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا علي بن عبيد ومحمَّد بن منصور الكوفي، عن محمَّد بن إسماعيل، عن صدقة، عن عمرو بن شمر، قال:

ص: 275


1- لاحظ اختيار معرفة الرجال: 2/ 443/ ح345.
2- حسب نسخة البحار: 66/ 281 باب: 37 صفات خيار العباد وأولياء الله. (ط. بيروت)، ولعله هو الصواب، وفي نسخة الكشّي تحقيق حسن المصطفوي: 198 (ط. دانشكاه مشهد): (علي وعهده)، وبتحقيق الداماد: (علي وعمر). وسيأتي الكلام في هذا الذيل في الجهة اللاحقة.
3- اختيار معرفة الرجال: 2/ 449/ ح348.

جاء العلاءَ بن يزيد رجلٌ من جعفي، قال: خرجت مع جابر لما طلبه هشام حتى انتهى إلى السواد، قال: فبَينا نحن قعود وراعٍ قريب منّا: إذ لفتت نعجة من شائه إلى حمل، فضحك جابر، فقلت له: ما يضحكك أبا محمَّد؟ قال: إنَّ هذه النعجة دعت حملها فلم يجيء، فقالت له: تنح عن ذلك الموضع فإنَّ الذئب عاماً أوَّل أخذ أخاك منه. فقلت: لأعلمن حقيقة هذا أو كذبه، فجئت إلى الراعي فقلت له: يا راعي تبيعني هذا الحمل؟ قال، فقال: لا، فقلت: ولِمَ؟ قال: لأنَّ أمه أفره شاة في الغنم وأغزرها درّة، وكان الذئب أخذ حملاً لها عند عام الأوَّل من ذلك الموضع، فما رجع لبنها حتى وضعت هذا فدرّت، فقلت: صدق. ثمّ أقبلت فلما صرت على جسر الكوفة نظر إلى رجل معه خاتم ياقوت، فقال له: يا فلان خاتمك هذا البرّاق أرنيه، قال: فخلعه فأعطاه، فلما صار في يده رمى به في الفرات، قال الآخر: ما صنعت، قال: تحب أنْ تأخذه؟ قال: نعم، قال، فقال بيده إلى الماء، فأقبل الماء يعلو بعضه على بعض حتى إذا قرب تناوله وأخذه)(1).

5. أيضاً ما رواه الكشّي عن نصر بن الصباح، قال: (حدّثني إسحاق بن محمَّد البصري، قال: حدّثنا محمَّد بن منصور، عن محمَّد بن إسماعيل، عن عمرو بن شمر، قال: أتى رجلٌ جابر بن يزيد فقال له جابر: تريد أنْ ترى أبا جعفر؟ قال: نعم، قال: فمسح على عيني فمررت وأنا أسبق الريح حتى صرت إلى المدينة. قال: فبَينا أنا كذلك متعجب إذ فكرت فقلت: ما أحوجني إلى وتد أوتده فإذا حججت عاماً قابلاً نظرت هيهنا هو أم لا، فلم أعلم إلّا وجابر بين يدي يعطيني وتداً، قال: ففزعت، فقال: هذا عمل العبد بإذن الله فكيف لو رأيت السيد الأكبر! قال: ثمّ لم أره. قال: فمضيت حتى صرت إلى باب أبي جعفر (علیه السلام) فإذا هو يصيح بي ادخل لا بأس عليك، فدخلت فإذا

ص: 276


1- اختيار معرفة الرجال: 2/ 444/ ح346.

جابر عنده، قال، فقال لجابر: (يا نوح غرّقتهم أولاً بالماء وغرّقتهم آخراً بالعلم فإذا كسرت فاجبر). قال: ثمّ قال: (من أطاع الله أطيع، أي البلاد أحب إليك؟). قال: قلت الكوفة قال: (بالكوفة فكن). قال: سمعت أخا النون بالكوفة، قال فبقيت متعجباً من قول جابر فجئت فإذا به في موضعه الذي كان فيه قاعداً، قال: فسألت القوم هل قام أو تنحى؟ قال: فقالوا لا، وكان سبب توحيدي أنْ سمعتُ قوله بالإلهية وفي الأئمة).

قال الكشّي: هذا حديث موضوع لا شكّ في كذبه(1).

وقد روى الغلاة شيئاً كثيراً حول كرامات جابر من ذلك:

1. ما رواه الطبريّ بقوله: (عن جابر بن يزيد - رحمه الله - قال: خرجت مع أبي جعفر (علیه السلام) وهو يريد الحيرة، فلما أشرفنا على كربلاء قال لي: (يا جابر، هذه روضة من رياض الجنة لنا ولشيعتنا، وحفرة من حفر جهنم لأعدائنا). ثمّ قضى ما أراد، ثمّ التفت إليّ، فقال: (يا جابر). فقلت: لبيك يا سيدي. فقال لي: (تأكل شيئاً؟) فقلت: نعم يا سيدي. قال: فأدخل يده بين الحجارة، فأخرج لي تفاحة لم أشمّ قطُ رائحة مثلها ولا تشبه رائحة فاكهة الدنيا. فعلمت أنها من الجنة، فأكلتها فعصمتني عن الطعام أربعين يوماً لم آكل ولم أحدث)(2).

2. وأورد في المستدرك عن (الحسين بن حمدان [الخصيبي الغالي]، عن أحمد بن يوسف بن محمَّد، عن أبي سكينة، عن عمرو بن الزهير، عن الصادق (علیه السلام) قال: (إنَّما سمِّي جابر لأنّه جبر المؤمنين بعلمه، وهو بحر لا ينزح، وهو الباب في دهره، والحجّة على الخلق من حجة الله أبي جعفر محمَّد بن علي (((علیهما السلام) (3).

ص: 277


1- اختيار معرفة الرجال: 2/ 447/ ح347.
2- نوادر المعجزات: 135/ ح6.
3- خاتمة مستدرك الوسائل: 4/ 213.

الجهة العشرون: جابر والأنباء الغيبية..

لا شكّ بحسب دلالة الروايات التاريخية في أنَّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) كان مطلعاً على أمور غيبيّة من الوقائع المستقبلية، وغيرها من وقائع في الأمم السابقة ونشأة الكون الماديّ وعوالم الملائكة، كما يتمثّل ذلك بوضوح بتتبع خطبه المذكورة في نهج البلاغة وغيره ممّا يتضمّن ذكر الملاحم وغيرها، وهذا الأمر موضع إقرار غير الشيعة من جهة تواتر أصله، وثبوته ثبوتاً تاريخياً لا شكّ فيه، وقد أذعن به ابن أبي الحديد المعتزلي وآخرون.

وهذا إنَّما يتخرّج على أحد أمرين: تعلّمه من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم). أو إلهامه من قبل الله سبحانه وتعالى، كما يتفق لبعض عباده الصالحين، الذين يعبر عنهم ب- (المحدَّثين) - مبنيّاً للمفعول - وهو تعبير شائع في العصر الأول.

وعلى كلا التقديرين فإنَّ في ذلك ما يشهد على مذهب الإمامية من أنَّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) مصطفى من قبل الله سبحانه من بين هذه الأمة.

وقد لوحظ لدى الأئمة من أولاده مثل هذه الحال، وهو أمر ثابت لدى الإمامية الذين عاشوا معهم بنحو متواتر وبيِّن، وقد جاء عن الإمام الصادق (علیه السلام) التصريح بأنَّهم وَرِثوا كتباً عن أمير المؤمنين (علیه السلام) تتضمّن ثبت المُغيّبات، ويُعبّر عنها بالجفر والجامعة، وقد اشتُهر عنهم قضايا في التاريخ العامّ، نظير ما حكاه أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين من قول الصادق (علیه السلام) لعبد الله بن الحسن المثنى في اجتماع الأبواء - الذي انقدح بين المعارضتين للدولة الأموية من بني هاشم من العلوييّن والعباسييّن - عندما طالبه بالبيعة لولده محمَّد أنّه لا يلي هذا الأمر وإنَّما هو لصاحب القباء الأصفر مشيراً

ص: 278

إلى المنصور العباسي(1).

ومثل ذلك ما كتبه الإمام الرضا (علیه السلام) في وثيقة ولاية العهد من أنَّها لا تتم، كما حكاه التفتازاني ممّا رآه في المكتبة الرضوية بخطّه (علیه السلام) إلى غير ذلك من الموارد.

ثُمَّ إنَّ الأئمة (علیهم السلام) - فضلاً عمّا كانوا يذكرونه من ذلك لعامّة المجتمع أو عامّة أصحابهم - كانوا يبثّون بعض الأنباء الخاصّة أو يعلّمون بعض هذا العلم لبعض أصحابهم ممَّن كانوا يجدون فيهم قابلية واهتماماً بذلك، وقد وُصف بعض أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام)

بشيء من هذا العلم، كما عن مِيثم التمار وحبيب بن مظاهر الأسدي.

وربَّما كان أهل العلم من الجمهور لا يتحمّلون أنْ يدّعي أحد العلم بذلك، إذ كانوا يعدّونه من دعوى العلم بالغيب. ولكن الواقع أنَّ ذلك ليس من قبيل علم الغيب، بل هو تعلّم من ذي علم، وقد جرت سُنّة الله سبحانه مع عباده الصالحين على إنبائهم ببعض الأمور المغيّبة كما يحكى ذلك عن الأنبياء السابقين وصدر عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في تراثه المروي بين الفريقين. إلّا أنَّ عدم الإيمان باصطفاء آل البيت (علیهم السلام) من قبل الله سبحانه هو الذي أدّى في الحقيقة إلى استبعاد مثل هذه الأمور في حقِّهم وعدِّها ضرباً من الغلوّ والمبالغة في مقاماتهم.

هذا، ولما ذكرنا كان أصحاب الأئمة (علیهم السلام) على قسمين: قسم نال حظّاً من هذا العلم حسب دلالة الشواهد الروائية والتاريخية. وقسم لم يلج هذا الباب واعتنى بالعقائد والفقه مثل زرارة ومحمَّد بن مسلم.

وتدل الشواهد الروائية والتاريخية في تراث الإمامية على أنَّ جابراً كان من القسم الأول فهو كان قد تعلّم شيئاً من هذا العلم عند الإمام الباقر (علیه السلام).

قال العقيلي (ت 322ﻫ): (حدّثنا الحسن بن داود: حدّثنا علي بن ولّاد الرازي:

ص: 279


1- لاحظ مقاتل الطالبيين: 158. ومنهاج الكرامة: 56.

حدّثنا يحيى بن المغيرة: حدثنا جرير، قال: أردت أنْ آتي جابر الجعفي فمررت برجل من بني أسد يقال له هدبة، فقال لي: أين تريد؟ فقلت له: أريد جابر الجعفي. قال: لا تأته، إنّي سمعته يقول: الحارث بن شريح(1)

في كتاب الله، فقال له رجل من قومه: والله ما في كتاب الله شريح، وتهجّاه)(2).

أقول: الصواب (الحارث بن سريج)(3)،

وهذا كان قد ثار على الدولة الأموية في زمان هشام بن عبد الملك (سنة 116 ﻫ) في خراسان وكان واليها عاصم بن عبد الله(4)، وفي (سنة 126ﻫ) أعطاه يزيد الناقص الأمان، وكتب بذلك كتاباً إلى واليه على الكوفة عبد الله بن عمر بن عبد العزيز يأمره بردّ ما كان أخذ منه من ماله وولده، ثمّ ثار مرة أخرى في زمن مروان الحمار وقتله جديع الكرماني في سرخس لستٍ بَقْيَن من رجب (سنة 128ﻫ) وصُلب عند مدينة مرو بغير رأس(5) وقُتل معه أيوب السختياني.

وهذا الرجل (هدبة) لم يفهم معنى كلام جابر الجعفي من أنَّ الحارث بن سريج في كتاب الله، أي أنَّ خروجه من القضاء المبرم الذي لا بُدَّ منه، وهذا من المغيّبات التي أخبر الله تعالى بها رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو بدوره قد أعلمها لخلفائه (علیه السلام), وهم بدورهم

ص: 280


1- كما هو موجود في تاريخ خليفة بن خياط (ت 240ﻫ): 272، وتهذيب التهذيب: 2/ 44، ولسان الميزان: 2/ 142.
2- ضعفاء العقيلي: 1/ 196.
3- كما هو موجود في تاريخ الطبري: 5/ 400 وما بعدها، وأنساب الأشراف للبلاذري (ت 279ﻫ): 4/ 129، وتهذيب الكمال في أكثر من موضع منها: 1/ 516، والكامل في التاريخ: 5/ 151، وتاريخ الإسلام: 7/ 311.
4- لاحظ تاريخ الطبري: 5/ 428.
5- المصدر السابق: 6/ 11.

أعلموها خاصّة أوليائهم.

ولعلّ ما رواه علماء الجمهور عنه من إثباته الرجعة كان من جملة هذه الأخبار، فقد ذُكر عن الشافعي قال: (سمعت [سفيان] ابن عيينة يقول: سمعت من جابر الجعفي كلاماً بادرت، خفت أنْ يقع علينا السقف).

وفي حديث آخر: عن الشافعي قال: (قال لي ابن عيينة: حدّثني جابر الجعفي عن عبد الله بن نجي، وكان جابر يؤمن بالرجعة)(1).

والملاحظ أنَّ الذهبي في ميزان الاعتدال دمج الروايتين في حديث واحد، قال: (عن الشافعي، قال: سمعت سفيان، سمعت من جابر الجعفي كلاماً بادرت، خفت أنْ يقع علينا السقف. قال سفيان: كان يؤمن بالرجعة)(2).

وعن نعيم بن حمّاد المروزي (ت 228ﻫ) في كتاب الفتن قال: (حدّثنا سعيد أبو عثمان عن جابر [الجعفي(3)] عن أبي جعفر، قال: إذا بلغ العباسي خراسان طلع من المشرق القرن ذو الشفا..)(4).

وعنه أيضاً قال: (حدّثنا سعيد أبو عثمان: حدّثنا جابر الجعفي: عن أبي جعفر، قال: إذا بلغت سنة تسع وعشرين ومائة، واختلفت سيوف بني أمية ووثب حمار الجزيرة فغلب على الشام ظهرت الرايات السود..)(5).

ولنذكر نماذج من أخبار جابر في هذا الباب، لكن ينبغي الإشارة إلى أنَّه لا سبيل إلى

ص: 281


1- الكامل في ضعفاء الرجال: 2/ 115.
2- ميزان الاعتدال: 1/ 381.
3- حسب ما موجود في كتاب التشريف بالمنن في التعريف بالفتن للسيد ابن طاووس: 103.
4- كتاب الفتن: 130.
5- المصدر السابق: 118.

الأخذ بما يرد من الأخبار من غير أنْ يثبت اعتبارها، لأنَّ باب الملاحم والمُغيّبات من الأبواب التي كثر الوضع فيها، كما نبّه عليه علماء الحديث، لأنَّ كثيراً من القصّاصين والضعفاء يضعون في مثل ذلك لإعجاب الناس بهذا الباب، ومن ثَمَّ كان النقّاد من أصحابنا معنيين فيما يُنقل من هذا الباب أنْ يثبت كونه قبل وقوع الواقعة التي أخبر عنها، خشية أنْ يكون ممّا لُفِّق بعد وقوع الواقعة حتى إذا كان الراوي من رجال ظاهرهم الثقة، وقد جاء في الكافي بعد حكاية حديثٍ عن إمامة ابن الحسن العسكري (علیهما السلام) عن أحمد بن أبي عبد الله: (قال محمَّد بن يحيى: فقلت لمحمَّد بن الحسن - أي الصفّار -: يا أبا جعفر وددت أنَّ هذا الخبر جاء من غير جهة أحمد بن أبي عبد الله. قال: فقال: لقد حدثني قبل الحَيْرة - أي الغيبة - بعشر سنين)(1).

لكن من جهة أخرى: لا ينبغي أنْ يكون كثرة الوضع في هذا الباب - لاسيّما من الغلاة - باعثاً على نفي صدور ذلك كله برمّته، كما مال إليه بعض الباحثين(2)،

حتى تعجّب من اليعقوبي في إيراد بعض أخبار جابر من هذا القبيل.

هذا، وممّا ورد في التاريخ عن إخبار جابر في هذا الباب ما نقله اليعقوبي في تاريخه، قال بعد ذكر ما وقع لقحطبة - الذي كان على مقدمة جيش أبي مسلم الخراساني -: (قال حميد بن قحطبة: حدثني أبي قال: دخلت مسجد الكوفة أيام بني أميّة، وعليّ فرو غليظ، فجلست إلى حلقة، وشيخ في صدر القوم يحدّثهم، فذكر أيام بني أميّة، وذكر السواد ومن يلبسه فقال. يكون ويكون، ويخرج رجل يقال له قحطبة، كأنّه هذا الأعرابي، وأشار إلي، ولو أشاء أن أقول هو هو لقلت. قال قحطبة: فخفت على نفسي، فتنحيت ناحية، فلما انصرف كلّمته، فقال: لو شئت أن أقول إنك أنت هو لقلت. فسألت عنه

ص: 282


1- الكافي: 1/ 526 ح2.
2- لاحظ كتاب جابر بن يزيد الجعفي لسعيد مسرور طاووسي باللغة الفارسية: 91.

فقيل لي: هو جابر بن يزيد الجعفي)(1).

قلت: قد يحسن الظنُّ بهذا الخبر، وذلك لأنَّ اليعقوبي شيعي معتدل بعيد عن الكذب والوضع والغلوّ، كما يعلم بتتبع تاريخه، وما رواه من الأخبار عن قحطبة وأولاده ودورهم في نصرة بني العباس يماثل ما ذكره غيره من المؤرخين، ومن ثَمَّ يرجّح أنَّ إسناد اليعقوبي إلى حميد بن قحطبة في هذا الأثر هو إسناده وإسناد غيره في سائر أخباره، وقحطبة وبنوه ممَّن لا يتهمّ في إثبات فضيلة لبني جابر الجعفي فقد كانوا من أمراء الجيش لدى العباسيين، وقاتلوا وقتلوا كثيراً من العلوييّن كما ذكر في التاريخ.

وقد ذكر ابن حجر عند ذكر خبر منكر روي عن أخيه الحسن بن قحطبة عن المنصور، قال: (لعلّ الآفة فيه من الحسن بن قحطبة فإنّه ليس من أهل الحديث، وإنَّما كان من أمراء بني العباس، فلعلّه حمله عن كذّاب حدّث به عن المنصور فتوهّم أنّه عن المنصور)(2). فالملحوظ أنّه لم يتّهمه بالكذب.

وورد في تراث الإمامية بعض الآثار التي قد يوثّق ببعضها، بعضها إخبار من جابر نفسه، لا على سبيل الحكاية، وبعضها حكاية عن أبي جعفر (علیه السلام).

فمن القسم الثاني:

1. ما سبق في معتبرة عبد الحميد بن أبي العلاء من قول جابر عند مقتل الوليد بن يزيد: (حدّثني وصي الأوصياء ووارث علم الأنبياء محمَّد بن علي (علیه السلام)...)(3). بناءً على استظهار أنَّ مفاد قول جابر هذا: أنَّ الإمام الباقر (علیه السلام) كان قد أخبره بهذا الحدث، وكان (علیه السلام) قد تُوفي (سنة 114ﻫ)، وكان قتل الوليد (سنة 126ﻫ).

ص: 283


1- تاريخ اليعقوبي: 2/ 343.
2- لسان الميزان: 5/ 410.
3- اختيار معرفة الرجال: 2/ 437/ ح337.

2. وما مرّ في رواية ضعيفة عن النعمان بن بشير من إخبار جابر بأمر منصور بن جمهور الذي وَلي الكوفة(1).

ومن الأوَّل:

1. روى الكشّي عن نصر بن الصباح، قال: (حدّثنا إسحاق بن محمَّد، قال: حدّثنا فضيل عن زيد الحامض، عن موسى بن عبد الله، عن عمرو بن شمر، قال جاء قوم إلى جابر الجعفي فسألوه أنْ يعينهم في بناء مسجدهم؟ قال: ما كنت بالذي أعين في بناء شيء يقع منه رجل مؤمن فيموت، فخرجوا من عنده وهم يبخّلونه ويكذّبونه، فلما كان من الغد أتموا الدراهم ووضعوا أيديهم في البِناء، فلما كان عند العصر زلت قدم البنّاء فوقع فمات)(2).

وهذه الرواية فيها قوم من الغلاة والضعفاء منهم: نصر بن الصباح، وإسحاق بن محمَّد، وهو البصري الذي تتكرّر رواية الكشّي عن نصر عنه، وقد مرّت شدّة ضعفه.

وأما فضيل فيحتمل أنْ يكون هو فضيل الرسان، الذي روى الكشّي عن محمَّد بن مسعود أنَّه سأل علي بن الحسن بن فضّال، عن فضيل الرسان؟ فقال: (هو فضيل بن الزبير وكانوا ثلاثة إخوة عبد الله وآخر)(3).

ولكن هذا الاحتمال بعيد جداً، فإنَّ الطبقة لا تساعد على ذلك: فإنَّ فضيل الرسان هذا من أصحاب أبي عبد الله (علیه السلام).

فإذاً هذا الرجل مهمل.

وأما زيد الحامض - هكذا في رجال الكشّي، ولكن في المعجم محمَّد بن زيد الحافظ

ص: 284


1- لاحظ الكافي: 1/ 396/ ح7 باب: إنّ الجنّ تأتيهم فيسألونهم.
2- اختيار معرفة الرجال ج:2 ص:443/ ح345.
3- المصدر السابق: 2/ 628/ ح621.

[الحامض](1) - فهو على كل تقدير لا ذكر له في كتب رجال الفريقين.

وأما موسى بن عبد الله فهو أيضاً مجهول الحال.

وأما عمرو بن شمر فهو تلميذ جابر المتّفق على ضعفه.

2. روى الكشّي عن محمَّد بن مسعود، قال: حدّثني محمَّد بن نصير، عن محمَّد بن عيسى. وحمدويه بن نصير، قال: حدّثني محمَّد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن عروة ابن موسى، قال: (كنت جالساً مع أبي مريم الحنّاط وجابر عنده جالس، فقام أبو مريم فجاء بدورق من ماء بئر منازل [خ.ل: مبارك] ابن عكرمة، فقال له جابر: ويحك يا أبا مريم كأنَّي بك قد استغنيت عن هذه البئر واغترفت من هاهنا من ماء الفرات، فقال له أبو مريم: ما ألوم الناس أنْ يسمونا كذابين - وكان مولى لجعفر (علیه السلام) - كيف يجئ ماء الفرات إلى هاهنا. قال: ويحك يحتفر هاهنا نهر أوَّله عذاب على الناس وآخره رحمة يجري فيه ماء الفرات، فتخرج المرأة الضعيفة والصبيّ فيغترف منه، ويجعل له أبواب في بني رواس، وفي بني موهبة، وعند بئر بني كندة، وفي بني فزارة حتى تتغامس فيه الصبيان.

قال علي: إنّه قد كان ذلك - أي حفر هذا النهر -، وأنَّ الذي حدّثَ على عَهْدِه(2)، ولعلَّ أنَّه قد سمع بهذا الحديث قبل أنْ يكون)(3).

قوله: (قال علي: إنَّه قد كان ذلك، وأنَّ الذي حدّثَ على عَهْدِه). هذا الكلام لمحمَّد ابن عيسى.

ص: 285


1- معجم رجال الحديث: 4/342. (ط. القرص الفقهي).
2- حسب نسخة البحار: 69/ 280-281 باب: 37 صفات خيار العباد وأولياء الله. (ط. مؤسسة الوفاء. بيروت)، وفي نسخة الكشّي تحقيق حسن المصطفوي ص:198 (ط. دانشكاه مشهد): (علي وعهده)، وبتحقيق الداماد: (علي وعمر).
3- اختيار معرفة الرجال: 2/ 449/ ح348.

والمقصود به: أنَّ ما حدّثَ به علي بن الحكم كان قد حصل في حياته ووقف عليه، ومن ثَمَّ أضاف الكشّي عبارة: (ولعلَّ أنَّه قد سمع بهذا الحديث قبل أنْ يكون). أي أنَّ (علي بن الحكم) قد سمع بهذا الحديث قبل أنْ يُحتفر هذا النهر. وهذا هو الراجح في النظر القاصر.

وعلى هذه القراءة تندفع الريبة فيما يرد من الإخبار بالمُغيَّبات المستقبليّة، فإنَّه إخبار قبل الحصول، وأما لو كان إخبار الراوي بها بعد حصولها فيحتمل الوضع.

وهناك قراءة ثانية وهي: (وأنَّ الذي حدّثَ عليَّ عَهِدَه). أي الذي أخبرني الخبر - فيكون (حدَّثَ) ضُمِّن معنى (أملى عليَّ) - وهو (عروة بن موسى) قد وقف على حفر هذا النهر.

ولكن على هذه القراءة يكون احتمال الوضع وارداً جداً.

وأمَّا على نسخة المحقق الداماد - وهي: (وأنَّ الذي حدّث علي وعَمَّرَ) - فيكون إشارة إلى أنَّ (علي بن الحكم) الذي حدَّثَ بهذا الحديث ورواه، قد عَمَّرَ عمراً طويلاً، فلعلّه قد سمع بهذا الحديث قبل أنْ يُحفر هذا النهر.

وهذا الاحتمال ذكره المحقّق المزبور، واستظهر أنَّ قوله: (وأنَّ الذي حدّث علي وعَمَّرَ) من كلام الكشّي.

وأيّاً كان فهذا الحديث معتبر الإسناد إلى عروة بن موسى، وأمَّا هو فهو مجهول ولم يرد إلّا في إسناد علي بن الحكم، وربَّما وصف بالجعفي فيظهر أنَّه من أفراد قبيلة جابر ممَّن زعم إدراكه والرواية عنه.

وبعض رواياته مريبة بعض الشيء من مثله من المجاهيل، فروى الصفّار عن محمَّد بن إسماعيل، عن علي بن الحكم، عن عروة بن موسى الجعفي قال: (قال لنا أبو عبد الله (علیه السلام)

ص: 286

يوماً ونحن نتحدث عنده: (فُقئت عين هشام في قبره). قلنا ومتى مات؟ قال: (ثلاثة أيام). فحسبنا وسألنا عن ذلك فكان كذلك)(1).

وفي الاختصاص عن أحمد بن محمَّد بن عيسى، ومحمَّد بن إسماعيل بن عيسى، عن علي بن الحكم مثله(2)، ومثله مرسلاً في المناقب(3).

وله روايتان أخريان لا غبار عليهما(4).

وروى الحسين بن حمدان الخصيبي (ت334ﻫ) قريب من هذا المعنى، ولكنه ينتهي إلى الإمام الباقر (علیه السلام)، قال: (عن علي بن محمَّد الصيرفي قال: حدّثني علي بن محمَّد بن عبد الله الخياط، قال: حدّثني الحسين بن علي عن أبي حمزة البطائني وهو علي بن معمّر، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: خرج أمير المؤمنين إلى أصحابه فقال: يا قوم أرأيتم أنْ لا تذهب الأيام والليالي حتى يجري ها هنا نهر تجري فيه السفن، فما أنتم قائلون؟ أفأنتم مصدّقون فيما قلت أم لا؟ قالوا يا أمير المؤمنين: ويكون هذا؟ قال: والله كأنَّني أنظر إلى نهر في هذا الموضع يزخر فيه الماء وتجري فيه السفن يحرفه طاغوت ينسب إلينا، وليس هو منّا يكون على أهل هذه العترة أولاً عذاباً، ورحمة عليهم آخراً فلم تذهب الأيام والليالي حتى حفر الخندق بالكوفة حفره المنصور فكان عذاباً على أهلها أولاً ورحمة عليهم آخراً، ثمّ جرى فيه الماء والسفن وانتفع الناس به فكان هذا من دلائله ((علیه السلام) (5).

ص: 287


1- بصائر الدرجات الكبرى: 8/ 417 باب:12 ح5.
2- الاختصاص: 315 في أنّ الأرض تطوى لهم.
3- مناقب آل أبي طالب: 3/ 353.
4- بصائر الدرجات الكبرى: 8/ 435 باب:18 في أنّ أمير المؤمنين قسيم الجنة والنار ح2 و436/ ح8، والمحاسن: 2/ 460/ ح410.
5- الهداية الكبرى: 128.

3. ورد من طرق الزيديّة عن جابر إخباره عن ثورة أبي السرايا محمَّد بن إبراهيم بن إسماعيل المعروف بابن طباطبا بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو ما رواه في مقاتل الطالبيين عن أحمد بن محمَّد بن سعيد الهمداني [الحافظ ابن عقدة]، قال: حدّثنا محمَّد بن منصور، قال: حدّثنا علي بن الحسين، قال: حدّثنا عمر بن شبة المكي، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمَّد بن علي، قال: (يخطب على أعوادكم يا أهل الكوفة سنة تسع وتسعين ومائة في جمادي الأولى رجل منّا أهل البيت، يباهي الله به الملائكة)(1).

وروى أبو الفرج مثل ذلك عن ابن عقدة أحمد بن محمَّد بن سعيد الهمداني، قال: حدّثنا محمَّد بن منصور بن يزيد أبو جعفر المرادي، قال: حدّثنا الحسن بن عبد الواحد الكوفي، قال: حدّثنا الحسن بن الحسين عن سعيد بن خيثم بن معمّر، قال: سمعت زيد ابن علي يقول: (يبايع الناس لرجل منّا عند قصر الضرتين، سنة تسع وتسعين ومائة، في عشر من جمادي الأولى، يباهي الله به الملائكة. قال الحسن بن الحسين: فحدّثت به محمَّد ابن إبراهيم فبكى)(2).

والحديث مريب وإنْ تعدد إسناده، لاسيّما بالنظر إلى ما احتواه من تحديد لسنة بعينها، وهو أمر غير متعارف.

4. روى الصدوق من طريق الشيخ أحمد بن زياد الهمداني قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، قال: حدّثنا محمَّد بن عيسى بن عبيد، قال: حدّثنا محمَّد بن سليمان البصري، عن أبيه، عن إبراهيم بن أبي حجر الأسلمي، قال: حدّثنا قبيصة، عن جابر بن

ص: 288


1- مقاتل الطالبيين: 348.
2- المصدر السابق.

يزيد الجعفي، قال: (سمعت وصيَّ الأوصياء ووارث علم الأنبياء أبا جعفر محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يقول: حدّثني سيد العابدين علي بن الحسين، عن سيد الشهداء الحسين بن علي بن أبي طالب، عن سيد الأوصياء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیهم السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): ستدفن بضعة منّي بخراسان، ما زارها مكروب إلّا نفّس الله كربته، ولا مذنب إلّا غفر الله ذنوبه)(1).

وفي وثاقة شيخ الصدوق المذكور نظر، والرواة الأربعة قبل جابر مجاهيل أو ضعفاء.

5. روى الغلاة عن جابر أخباراً كثيرة، منها ما رواه الحافظ رجب البرسي (ت813ﻫ) عن جابر بن يزيد قال: (كنّا مع أبي جعفر

(علیه السلام) في المسجد فدخل عمر بن عبد العزيز وهو غلام، وعليه ثوبان معصفران فقال أبو جعفر (علیه السلام): لا تذهب الأيام حتى يملكها هذا الغلام، ويستعمل العدل جهراً والجور سراً، فإذا مات تبكيه أهل الأرض ويلعنه أهل السماء)(2).

وهذا خلاف التاريخ جداً، فإن عُمْرَ (عمر بن عبد العزيز) يقارب عمر الإمام (علیه السلام)، وقد كانت وفاته (عام 101ﻫ)، فكيف شاهده جابر والإمام (علیه السلام) وهو غلام، وهذا ممّا يقتضي أنْ يكون جابر يَكبُر عمر بن عبد العزيز بعشرين سنة مثلاً.

هذا، وقد أورد الخصيبي في هدايته أخباراً عن جابر، كما في باب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) (3)، وباب أمير المؤمنين (علیه السلام) (4)،

وباب الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) (5)، وباب الإمام علي بن

ص: 289


1- عيون أخبار الرضا: 2/ 288/ ح14، والأمالي: 180/ ح182.
2- مشارق أنوار اليقين: 138.
3- لاحظ الهداية الكبرى: 41/ح1، 65/ ح19، 70/ ح24، 77/ ح27.
4- المصدر السابق: 124، 128، 153، 160.
5- المصدر السابق: 195.

الحسين (علیهما السلام) (1)، وباب الإمام الباقر (علیه السلام) (2)،

وباب الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) (3).

وهناك أخبار أخرى تروى عن جابر عن أبي جعفر

(علیه السلام) في الإخبار بالمُغيّبات مثل أخبار الظهور تمامها ضعيف، ومنها ما يكون من غير طريقه. ولكن لا وثوق بروايتها من طريقه:

منها: بعض أخباره في نقل أسماء الأئمَّة الاثني عشر عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وبعض أخبار عصر الظهور: فمن الأول:

1. ما رواه النعماني (ت360ﻫ) في الغيبة - حدّثنا أبو الحارث عبد الله بن عبد الملك بن سهل الطبراني، قال: حدّثنا محمَّد بن المثنى البغدادي، قال: حدّثنا محمَّد بن إسماعيل الرقي، قال: حدّثنا موسى بن عيسى بن عبد الرحمن، قال: حدّثنا هشام بن عبد الله الدستوائي، قال: حدّثنا علي بن محمَّد، عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن محمَّد بن علي الباقر

(علیهما السلام)، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطّاب، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): (إنَّ الله عزَّ وجلَّ أوحى إلي ليلة أسري بي: يا محمَّد، من خلفت في الأرض في أمتك - وهو أعلم بذلك -؟ قلت: يا رب، أخي. قال: يا محمَّد، علي بن أبي طالب؟ قلت: نعم، يا رب. قال: يا محمَّد، إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتك منها، فلا أذكر حتى تذكر معي، فأنا المحمود وأنت محمَّد، ثمّ إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة أخرى فاخترت منها علي بن أبي طالب فجعلته وصيك، فأنت سيد الأنبياء وعلي سيد الأوصياء، ثمّ شققت له اسماً من أسمائي فأنا الأعلى وهو علي. يا محمَّد، إنَّي خلقت علياً وفاطمة والحسن والحسين والأئمَّة من نور واحد، ثمّ

ص: 290


1- المصدر السابق: 215-216، 226.
2- المصدر السابق: 239، 243.
3- المصدر السابق: 339.

عرضت ولايتهم على الملائكة، فمن قبلها كان من المقرَّبين، ومن جحدها كان من الكافرين. يا محمَّد، لو أنْ عبداً من عبادي عبدني حتى ينقطع ثمّ لقيني جاحداً لولايتهم أدخلته ناري. ثمّ قال: يا محمَّد، أتحب أنْ تراهم؟ فقلت: نعم. فقال: تقدّم أمامك، فتقدّمت أمامي فإذا علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمَّد بن علي، وجعفر بن محمَّد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمَّد بن علي، وعلي بن محمَّد، والحسن بن علي، والحجة القائم كأنَّه الكوكب الدري في وسطهم، فقلت: يا ربّ، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الأئمَّة، وهذا القائم، محلِّل حلالي، ومحرِّم حرامي، وينتقم من أعدائي. يا محمَّد، أحببه فإنِّي أحبَّه وأحبُّ من يحبه)(1).

2. ما رواه الخزّاز القمّي (ت 400ﻫ) ولفظه: (حدّثنا أحمد بن إسماعيل السلماني ومحمَّد بن عبد الله الشيباني، قالا حدّثنا محمَّد بن همام، عن جعفر بن محمَّد بن مالك الفراري، قال حدّثني حسين بن محمَّد بن سماعة، قال حدّثني أحمد بن الحارث، قال حدّثني المفضَّل بن عمر، عن يونس بن ظبيان، عن جابر بن يزيد الجعفي، قال سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: لمّا أنزل الله تبارك وتعالى على نبيه (صلی الله علیه و آله و سلم): [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ] قلت: يا رسول الله قد عرفنا الله ورسوله، فمن أولوا الأمر منكم الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال (علیه السلام): (خلفائي وأئمَّة المسلمين بعدي، أوّلهم علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ علي بن الحسين، ثمّ محمَّد بن علي المعروف بالتوراة بالباقر، وستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمَّد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمَّد بن علي، ثمّ علي بن محمَّد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ سمييّ وكنييّ حجّة الله في أرضه

ص: 291


1- الغيبة: 94/ ح24.

ونَفَسه في عباده ابن الحسن بن علي، ذلك الذي يفتح الله تعالى ذكرُه على يده مشارق الأرض ومغاربها ذلك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان. قال جابر: فقلت: يا رسول الله فهل لشيعته الانتفاع به؟ فقال (علیه السلام): (والذي بعثني بالنبوة إنَّهم ليستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس إن سترها سحاب...))(1).

3. وأيضاً روى الخزّاز القمّي عن محمَّد بن عبد الله الشيباني (رحمة الله) قال: حدّثنا أبو عبد الله جعفر بن محمَّد بن جعفر بن الحسن العلوي، قال: حدّثني أبو نصر أحمد بن عبد المنعم الصيداوي، قال حدثنا عمرو بن شمر الجعفي، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر محمَّد بن علي الباقر (علیهما السلام)، قال: قلت له: يا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إن قوماً يقولون: إنَّ الله تبارك وتعالى جعل الإمامة في عقب الحسن والحسين قال: (كذبوا والله، أوَ لم يسمعوا الله تعالى ذكرُه يقول [وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ] فهل جعلها إلّا في عقب الحسين. ثمّ قال: يا جابر إنَّ الأئمَّة هم الذين نصّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بالإمامة، وهم الأئمَّة الذين قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): لمّا أسري بي إلى السماء وجدت أساميهم مكتوبة على ساق العرش بالنور اثنا عشر اسماً، منهم علي وسبطاه وعلي ومحمَّد وجعفر وموسى وعلي ومحمَّد وعلي والحسن والحجة القائم..)(2).

ومن الثاني:

1. ما رواه النعماني في الغيبة عن محمَّد بن همام، قال: حدّثنا جعفر بن محمَّد بن مالك، قال: حدّثني أحمد بن علي الجعفي، عن محمَّد بن المثنى الحضرمي، عن أبيه، عن عثمان بن زيد، عن جابر، عن أبي جعفر محمَّد بن علي الباقر (علیه السلام)، قال: (مثل خروج

ص: 292


1- كفاية الأثر في النص على الأئمَّة الاثني عشر: 53-56.
2- المصدر السابق: 246.

القائم منّا أهل البيت كخروج رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ومثل من خرج منّا أهل البيت قبل قيام القائم مثل فرخ طار فوقع من وكره فتلاعبت به الصبيان)(1).

2. وأيضاً روى النعماني عن علي بن أحمد، عن عبيد الله بن موسى العلوي، عن محمَّد بن الحسين، عن محمَّد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن منخل بن جميل، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) أنّه قال: (اسكنوا ما سكنت السماوات والأرض، أي لا تخرجوا على أحد فإنَّ أمركم ليس به خفاء، ألا إنَّها آية من الله عزَّ وجلَّ ليست من الناس، ألا إنَّها أضوء من الشمس لا تخفى على برٍّ ولا فاجر، أتعرفون الصبح؟ فإنَّها كالصبح ليس به خفاء)(2).

3. وأيضاً روى النعماني عن علي بن الحسين، قال: حدّثنا محمَّد بن يحيى، قال: حدّثنا محمَّد بن حسان الرازي، قال: حدّثنا محمَّد بن علي الصيرفي، عن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن شمر، عن جابر, قال: دخل رجل على أبي جعفر الباقر (علیه السلام)، فقال له: عافاك الله، اقبض مني هذه الخمسمائة درهم فإنَّها زكاة مالي. فقال له أبو جعفر (علیه السلام): (خذها أنت فضعها في جيرانك من أهل الإسلام والمساكين من إخوانك المسلمين، ثمَّ قال: إذا قام قائم أهل البيت قسّم بالسوية، وعدل في الرعية، فمن أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله، وإنَّما سمّي المهدي مهدياً لأنّه يهدي إلى أمر خفي، ويستخرج التوراة وسائر كتب الله عزَّ وجلَّ من غار بأنطاكية، ويحكم بين أهل التوراة بالتوراة، وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وبين أهل الزبور بالزبور، وبين أهل القرآن بالقرآن، وتجمع إليه أموال الدنيا من بطن الأرض وظهرها، فيقول للناس: تعالوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام، وسفكتم فيه الدماء الحرام، وركبتم فيه ما حرَّم الله عزَّ وجلَّ، فيعطي شيئاً

ص: 293


1- الغيبة: 206/ ح14.
2- المصدر السابق: 207/ ح17.

لم يعطه أحد كان قبله، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً كما ملئت ظلماً وجوراً وشرّاً)(1).

4. وروى أيضاً عن علي بن أحمد، عن عبيد الله بن موسى العلوي، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمَّد بن حفص، عن عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، قال: سألت أبا جعفر محمَّد بن علي (علیهما السلام) عن قول الله تعالى: [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ]، فقال: (يا جابر، ذلك خاصّ وعامّ، فأمَّا الخاصّ من الجوع فبالكوفة، ويخصّ الله به أعداء آل محمَّد فيهلكهم، وأمَّا العامّ فبالشام يصيبهم خوف وجوع ما أصابهم مثله قط. أمَّا الجوع فقبل قيام القائم (علیه السلام). وأمَّا الخوف فبعد قيام القائم (علیه السلام))(2).

5. وروى أيضاً عن أحمد بن محمَّد بن سعيد، قال: حدّثنا محمَّد بن المفضَّل وسعدان ابن إسحاق بن سعيد وأحمد بن الحسين بن عبد الملك ومحمَّد بن أحمد بن الحسن جميعاً، عن الحسن بن محبوب، عن يعقوب السرّاج، عن جابر، عن أبي جعفر (علیه السلام) أنَّه قال: (يا جابر، لا يظهر القائم حتى يشمل الناس بالشام فتنة يطلبون المخرج منها فلا يجدونه، ويكون قتل بين الكوفة والحيرة قتلاهم على سواء، وينادي منادٍ من السماء)(3).

6. وروى أيضاً بقوله: أخبرنا أحمد بن محمَّد بن سعيد، عن هؤلاء الرجال الأربعة - وهم محمَّد بن المفضَّل، وسعدان بن إسحاق بن سعيد، وأحمد بن الحسين بن عبد الملك، ومحمَّد بن أحمد بن الحسن -، عن ابن محبوب. وأخبرنا محمَّد بن يعقوب الكليني أبو جعفر، قال: حدّثني علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه. قال: وحدَّثني محمَّد بن

ص: 294


1- المصدر السابق: 242/ ح26.
2- المصدر السابق: 259/ ح7.
3- المصدر السابق: 288/ ح65.

عمران، قال: حدّثنا أحمد بن محمَّد بن عيسى، قال: وحدّثنا علي بن محمَّد وغيره، عن سهل بن زياد، جميعاً، عن الحسن بن محبوب. قال: وحدّثنا عبد الواحد بن عبد الله الموصلي، عن أبي علي أحمد بن محمَّد بن أبي ناشر، عن أحمد بن هلال، عن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: قال أبو جعفر محمَّد ابن علي الباقر (علیه السلام): (يا جابر، الزم الأرض ولا تحرّك يداً ولا رجلاً حتى ترى علامات أذكرها لك إنْ أدركتها: أوَّلها اختلاف بني العباس، وما أراك تدرك ذلك، ولكن حدِّث به من بعدي عني، ومنادٍ ينادي من السماء، ويجيئكم صوت من ناحية دمشق بالفتح، وتخسف قرية من قرى الشام تسمّى الجابية، وتسقط طائفة من مسجد دمشق الأيمن، ومارقة تمرق من ناحية الترك، ويعقبها هرج الروم، وسيقبل إخوان الترك حتى ينزلوا الجزيرة، وسيقبل مارقة الروم حتى ينزلوا الرملة، فتلك السنة - يا جابر - فيها اختلاف كثير في كلّ أرض من ناحية المغرب، فأوَّل أرض تخرب أرض الشام ثمَّ يختلفون عند ذلك على ثلاث رايات: راية الأصهب، وراية الأبقع، وراية السفياني، فيلتقي السفياني بالأبقع فيقتتلون فيقتله السفياني ومن تبعه، ثمّ يقتل الأصهب، ثمَّ لا يكون له همَّه إلّا الإقبال نحو العراق، ويمر جيشه بقرقيسياء، فيقتتلون بها فيقتل بها من الجبّارين مائة ألف، ويبعث السفياني جيشاً إلى الكوفة وعدّتهم سبعون ألفاً، فيصيبون من أهل الكوفة قتلاً وصلباً وسبياً، فبينا هم كذلك إذ أقبلت رايات من قبل خراسان وتطوي المنازل طيّاً حثيثاً ومعهم نفر من أصحاب القائم، ثمَّ يخرج رجل من موالي أهل الكوفة في ضعفاء فيقتله أمير جيش السفياني بين الحيرة والكوفة، ويبعث السفياني بعثاً إلى المدينة فينفر المهدي منها إلى مكة، فيبلغ أمير جيش السفياني أنَّ المهدي قد خرج إلى مكة، فيبعث جيشاً على أثره فلا يدركه حتى يدخل مكة خائفاً يترقّب على سُنَّة موسى بن عمران

(علیه السلام). وقال: فينزل أمير جيش السفياني البيداء فينادي منادٍ من السماء: يا بيداء،

ص: 295

بيدي القوم، فيخسف بهم، فلا يفلت منهم إلّا ثلاثة نفر، يحوّل الله وجوههم إلى أقفيتهم، وهم من كلب، وفيهم نزلت هذه الآية: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا] الآية. قال: والقائم يومئذ بمكة، قد أسند ظهره إلى البيت الحرام مستجيراً به، فينادي: يا أيّها الناس، إنّا نستنصر الله فمن أجابنا من الناس فإنّا أهل بيت نبيكم محمَّد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ونحن أولى الناس بالله وبمحمَّد (صلی الله علیه و آله و سلم)، فمن حاجّني في آدم فأنا أولى الناس بآدم، ومن حاجّني في نوح فأنا أولى الناس بنوح، ومن حاجّني في إبراهيم فأنا أولى الناس بإبراهيم، ومن حاجّني في محمَّد (صلی الله علیه و آله و سلم) فأنا أولى الناس بمحمَّد (صلی الله علیه و آله و سلم)، ومن حاجَّني في النبيين فأنا أولى الناس بالنبيين، أليس الله يقول في محكم كتابه: [إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]؟ فأنا بقيَّة من آدم، وذخيرة من نوح، ومصطفى من إبراهيم، وصفوة من محمَّد (صلَّى الله عليهم أجمعين). ألا فمن حاجّني في كتاب الله فأنا أولى الناس بكتاب الله، ألا ومن حاجّني في سنة رسول الله فأنا أولى الناس بسُنَّة رسول الله، فأنشد الله من سمع كلامي اليوم لما أبلغ الشاهد منكم الغائب، وأسألكم بحقّ الله وبحقّ رسوله وبحقّي، فإنَّ لي عليكم حقّ القربى من رسول الله إلّا أعنتمونا ومنعتمونا ممَّن يظلمنا فقد أُخفنا وظُلمنا وطُردنا من ديارنا وأبنائنا وبُغي علينا ودُفعنا عن حقّنا وافترى أهل الباطل علينا، فالله الله فينا لا تخذلونا وانصرونا ينصركم الله تعالى. قال: فيجمع الله عليه أصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ويجمعهم الله له على غير ميعاد قزعاً كقزع الخريف، وهي - يا جابر - الآية التي ذكرها الله في كتابه: [أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] فيبايعونه بين الركن والمقام، ومعه عهد من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد توارثته الأبناء عن الآباء، والقائم - يا جابر - رجل من ولد الحسين يصلح الله له أمره في ليلة، فما أشكل على

ص: 296

الناس من ذلك - يا جابر - فلا يشكلن عليهم إذا نودي باسمه واسم أبيه وأمّه)(1).

7. روى الخزّاز القمّي عن محمَّد بن علي (رضی الله عنه)، قال: حدّثنا جعفر بن محمَّد بن مسرور (رضی الله عنه)، قال: حدّثنا الحسين بن محمَّد بن عامر، عن عمّه [عن](2) محمَّد بن أبي عمير، عن أبي جميلة المفضَّل بن الحسن(3) بن صالح، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): (المهدي من ولدي، اسمه اسمي وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً، يكون له غيبة وحيرة يضلّ فيها الأمم، ثمَّ يقبل كالشهاب الثاقب يملؤها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً)(4).

الجهة الحادية والعشرون: جابر والغلاة..

إنَّ جابراً أحد الرجال الذين تدّعيهم الغلاة ويزعمون أنَّه كان منهم ولم يكن من عموم الشيعة الإمامية الذين يعتقدون باصطفاء أهل البيت (علیهم السلام) وإمامتهم من عند الله تعالى.

ولنقدِّم مقدِّمة حول الغلوّ والغلاة قبل الحديث عن جابر وادعائه من قبل الغلاة وآثاره عندهم، فنقول:

إنَّ الغلاة فرقة نشأت في أوساط المسلمين تبتني دعواها على رفع أئمّة أهل البيت (علیهم السلام)

ص: 297


1- المصدر السابق: 288-291/ ح67 باب ما جاء من العلامات قبل قيام القائم (علیه السلام).
2- كما في البحار (36/ 309) نقلاً عن الكفاية, وهو الصحيح؛ حيث نقلها في الكفاية عن الصدوق وهي في كمال الدين وتمام النعمة (286) ح1: (عن عمّه عبد الله بن عامر, عن محمَّد بن أبي عمير).
3- هذا حشو, وإنَّما هو (المفضَّل بن صالح) كما في بعض نسخ الكفاية, وفي كمال الدين وتمام النعمة أيضاً. هذا مضافاً إلى عدم وجود راوٍ بهذا الاسم في هذه الطبقة.
4- كفاية الأثر في النصّ على الأئمَّة الاثني عشر: 66-67.

عن درجة الإمامة والاصطفاء الإلهي إلى درجة النبوّة أو الإلوهيَّة، ويقترن بهذه الدعوى غالباً الغلوّ في النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً ورفعه عن درجة النبوّة إلى درجة الإلوهيَّة، وكذلك الغلوّ في عدد من صحابة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) مثل سلمان والمقداد وأبي ذر والنقباء الاثني عشر.

ثمَّ في بعض رؤوس الغلوّ ممَّن كان يدّعي صحبة أئمّة أهل البيت (علیهم السلام) والإيمان بهم مثل: (عبد الله بن سبأ والمغيرة بن سعيد وأبي الخطّاب) وآخرين، وتبتني كثير من مذاهب الغلوّ على مبدأ التناسخ بمعنى أنَّ الأرواح تنتقل بعد الموت من جسم إلى آخر، أو المسخ بمعنى نقلها إلى أجسام بعض الحيوانات معاقبة لها، كما أنَّها غالباً لا أحكام فقهية لها، بل هي تهتم بأمر المعرفة وترى أنَّها مناط الإيمان.

وقد بدأت حركة الغلوّ بالتزامن مع تصدّي الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) للخلافة حيث حكي غلوّ ابن سبأ وجماعة فيه والاعتقاد بإلوهيّته(1)، وبغيبته ومهدويته بعد وفاته، ثمَّ كان في زمان أغلب أئمّة أهل البيت (علیهم السلام) من يرفعهم إلى درجة الإلوهيَّة.

ومن ذلك يظهر أنَّ الغلاة فرقة غير الشيعة الإمامية بحسب عقائدها، وهي معدودة في قبالها في كتب الفرق جميعاً، إلّا أنَّ هناك جوانب صورية مشتركة بينهما:

الأوَّل: إنَّ الغلاة يعتقدون بامتياز الأئمَّة من أهل البيت (علیهم السلام) - كالشيعة - فجلّهم يلتزم بالغلوّ فيمن عاصره من الأئمَّة الاثني عشر ومن سبقه من الأئمَّة (علیهم السلام)، وضمّ بعضهم في الغلوّ الزهراء –، ولذلك قد يعدّون في جملة فرق الشيعة فيقال: إنَّ الشيعة على قسمين: الغلاة وغيرهم.

ولكن الواقع إنَّ هذا التشابه شكلي، وذلك:

1. لأنَّ الغلوّ عقيدة باطنية محضة مغايرة لدين الإسلام، فإنَّ الإسلام دين واضح المعالم من كتابه المحفوظ وهو ينفي الغلوّ في المخلوقات نفياً صريحاً قاطعاً.

ص: 298


1- كما قال (علیه السلام): (هلك فيَّ رجلان: محبٌ غالٍ، ومبغضٌ قالٍ). نهج البلاغة: 489 حكمة:117.

2. على أنَّ البون بين نوعي الامتياز واسع، فالإماميّة يلتزمون باصطفاء أهل بيت النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من عند الله سبحانه شأن اصطفاء بيوت الأنبياء السابقين، كما ورد في الآيات الشريفة ذكر اصطفاء آل إبراهيم وآل عمران وآل داود. وأمَّا الغلاة فهم يرفعون الأنبياء والأئمَّة إلى درجة الإلوهيّة.

3. كما أنَّ الغلاة لا يقتصرون على إثبات الامتياز للأنبياء والأئمَّة (علیهم السلام)، بل إنَّهم يغلوّن في رؤسائهم ويرفعونهم إلى مصافّ الأنبياء والأئمَّة، وهذا بخلاف الإمامية فإنَّهم لا يتجاوزون فيما يعتقدون به من الاصطفاء الإلهي المعهود إلى غير النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وابنته الزهراء والأئمَّة من آل البيت (علیهم السلام).

4. إنَّ طريقة تلقّي النصوص الشرعية كتاباً وسُنّة تختلف بين الفريقين جدّاً. فالإمامية أهل رواية وجرح وتعديل وهم يستندون في إثبات الاصطفاء الإلهي لأهل البيت إلى نصوص متّفق على نقلها من الكتاب والسُنَّة، كآية التبليغ والمباهلة والتصدّق راكعاً وحديث الثقلين والغدير وغير ذلك.

كما ترتكز مدرسة الإمامية على أنَّ أئمَّة أهل البيت (علیهم السلام) أَثبتوا ذلك لأنفسهم فعلاً كما تجد توصيف الإمام علي

(علیه السلام) مكرّراً امتياز أهل البيت في خطبه وأقواله المأثورة في نهج البلاغة، كما أنَّ ذرّيته كالباقر والصادق وأولاده (علیهم السلام) كانوا يؤمون قوماً يعتقدون بإمامتهم ويهتمّون بتراثهم، ويرون فيهم أنَّهم أوصياء للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، كما كانت السلطة تتعامل معهم على هذا الأساس.

وأمَّا الغلاة فلا يستندون في ذلك إلى نصوص تدلّ على ذلك، بل يتمّ تأويل عامَّة النصوص وصرفها عن ظاهرها، ويعترف كثير من فرق الغلاة بلعن أئمة أهل البيت (علیهم السلام) لرؤوسها، ولكنها تأوّل ذلك بأنَّ باطن اللعن هو الرحمة على طريقتهم في التوسّع في التأويل حتى أوَّلوا الأشياء بأضدادها.

ص: 299

الثاني: إنَّ الغلوّ ظاهرة نشأت في الوسط الشيعي خاصَّة، بمعنى أنَّ الغلاة في الغالب كانوا من الشيعة بمعنى المحبين لأهل البيت (علیهم السلام) أو القائلين بإمامتهم في أوَّل الأمر، وربمَّا كانوا على صفة الاستقامة، ثم انتقلوا في أثر عوامل مختلفة إلى الغلوّ في أهل البيت، كما أنَّ المتأثّرين برؤوس الغلوّ والمتّبعين لهم كانوا من عامَّة الشيعة غير المتفقّهين في الدين الذين كانوا يتأثّرون بالدعاوي المبالغ فيها ويصدقونها بالأساليب البدائية التي يستخدمها رؤوس الغلوّ من غير تثبّت.

الثالث: إنَّ الغلاة كانوا يدّعون جماعة من رواة الشيعة الإمامية وعلمائهم ممَّن عرفوا بأنَّهم كانوا مقرَّبين من الأئمَّة (علیهم السلام) ممَّن يجدون في شخصيتهم صفات خاصة تناسب مدّعاهم في حقّهم، كأنْ تكون الشخصية غامضة أو عرفت بأنَّها من خواصّ الأئمَّة (علیهم السلام) وأصحاب أسرارهم، ولا يختارون في هذا الصدد عادة الذين اشتهروا بالفقه أو العبادة كزرارة وجميل بن دراج ومحمَّد بن أبي عمير وأمثالهم، ويسندون مروياتهم المتضمّنة للغلوّ إلى الأئمَّة من طريقهم؛ وذلك لإثبات حقّانية دعواهم وإيهاماً لصدق رواياتهم، وبذلك ينازعون الإمامية في دعوى أنَّ هؤلاء الرجال منهم، وكان يُسهِّل ذلك لهم سعة باب الباطن عندهم في الرجال كسعته في النصوص، فيدّعون أنَّه كان لهم باطن غير ظاهرهم وروايات مستورة من الأسرار غير رواياتهم المشهورة، وقد ورّثوها لأهل السرّ من تلامذتهم، بل فعلوا ذلك في جماعة من الصحابة.

يضاف إلى ذلك: أنَّ الغلاة المتأخرين كانوا يطوّرون دائماً - قبل عصر استقرار تراثهم - نظريات في مقامات معنوية لا بُدَّ من اتصاف جماعة بها اتّصافاً مطّرداً في شأن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وجميع الأئمَّة (علیهم السلام) من قبيل (الأبواب) و(النقباء) و(الأيتام) و(الحجب) و(النجباء) و(الأبدال).

ص: 300

وعلى وفق ذلك(1) فإنَّهم كانوا يضطرون إلى تعيين مصاديق لهذه العناوين في شأن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)

وأئمَّة أهل البيت (علیهم السلام) فيختارون من أصحابهم مَن يجدون شخصيته أنسب بتلك الدعاوي في حقهم، وربَّما اضطروا في هذا السياق إلى اختيار أسماء غير مناسبة ملئاً للفراغ.

الرابع: إنَّ عامَّة الغلاة كانوا يتظاهرون بأنَّهم على عقائد الشيعة الإمامية وكان اعتقادهم أمراً مبَّطناً، وكانت لذلك أسباب عديدة، أهمّها: أنَّ عامَّة المجتمع الإمامي كانوا من الشيعة الإمامية، وكان كشفهم عن عقائدهم ممّا يوجب تكفيرهم من قبلهم ومن قبل سائر المسلمين، وهذا ممّا يؤدي إلى محاذير عديدة، منها: الخطورة عليهم، ومنها: هجر الناس لهم وتعذّر النفوذ في عامَّة الناس وتحصيل الأتباع منهم، ومنها: كشف زيف مستنداتهم ومروياتهم، ووقوع الشبهة فيها لدى أغلب المتأثّرين بهم.

وعلى هذا الأساس، كان الغلاة بحسب الانتماء المذهبي والعلمي والاجتماعي معدودين من جملة الشيعة الإمامية ويعيشون بينهم، ويشاركون في النشاطات المختلفة من قبيل رواية التاريخ والحديث وسائر فروع المعرفة ويدسّون مجعولاتهم فيما بين التراث الإمامي، بل روى جماعة منهم أحاديث في ذمّ الغلاة، وفي تزكية بعض مشايخهم المتهمين بالغلوّ، كما روى الكشّي في رجاله أخباراً كثيرة في ذلك من طرق الغلاة أنفسهم، بل نسب إلى بعضهم تأليف كتاب في الردّ على الغلاة كما ذكر النجاشي في محمَّد ابن موسى بن عيسى أبو جعفر الهمداني السمّان، ضعّفه القمّيون بالغلوّ، وكان ابن

ص: 301


1- يلاحظ أنَّ التوصيف المذكور لعقائد الفرق الغالية يمثّل الأصول التاريخية الواضحة للغلاة وعقائدهم وهو قد لا ينطبق بالضرورة انطباقاً تامّاً على عامّتهم في العصور الأخيرة، فقد يكون بعض وجوه هذه الفرق ممَّن يقرّون بالإسلام على وجهه العامّ عند المسلمين، كما قد يكون كثير من عوامّهم الذين يقرّون بالإسلام ممَّن لم يطّلعوا أو يعتقدوا قلباً بالتنظيرات التي بنى عليها خواصّهم.

الوليد يقول: إنَّه كان يضع الحديث، والله أعلم. له... كتاب الرد على الغلاة(1).

ولذا اضطر علماء الإمامية إلى ذكرهم في كتب الرجال والفهارس والتنبيه على اعتقادهم والتخليط في مروياتهم.

الخامس: إنَّ الغلاة كانوا يروون مختارات من الروايات المأثورة لدى محدّثي الإمامية ممّا يجدونها مناسبة لمدعياتهم فيصرفوها إلى مدّعياتهم من خلال بعض الشبهة والبيان بما يقتنع بها عامَّة الناس، مثل احتجاج محمَّد بن نصير النميري على صواب عقيدة الغلوّ وخطأ عقيدة جمهور الشيعة الإمامية(2)

بما ورد من قلَّة المؤمن وأنَّه كالكبريت الأحمر(3)، وأنَّ قليلاً من الناس يكونون في موقع التبعية والانقياد في الصعوبات والفتن.

ولأجل ذلك كلّه كان هناك تشابه وخلاف كبير حول عدد من الرواة بين كونهم من الإمامية أو من الغلاة، كما وقع تشابه غير قليل في التراث الحديثي ونقده المضموني بين ما يكون في الحقيقة من أفكار الغلاة وغيره.

ولاسيّما أنَّه قد كان من طرق الغلاة دسّ الزيادة في الروايات والكتب المأثورة كما يظهر بالمقارنة بين الرواية الواحدة الواردة من طرقهم ومن طرق غيرهم، فقد روى الكشّي عن يونس بن عبد الرحمن أنَّه قال: (وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر (علیه السلام) ووجدت أصحاب أبي عبد الله (علیه السلام) متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم، فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا (علیه السلام) فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله (علیه السلام). وقال لي: إنَّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد الله (علیه السلام). لعن

ص: 302


1- لاحظ رجال النجاشي: 338 رقم: 904.
2- لاحظ كتاب الصورة والمثال، في ضمن (سلسلة التراث العلوي): 1/ 212، 220-222.
3- لاحظ الكافي: 2/ 242 باب قلة عدد المؤمنين ح1.

الله أبا الخطّاب، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله (علیه السلام)..)(1).

وعنه أيضاً، عن هشام بن الحكم، أنَّه سمع أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: (كان المغيرة بن سعيد يتعمَّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة، ويسندها إلى أبي ثمَّ يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أنْ يبثوها في الشيعة، فكلّما كان في كتب أصحاب أبي من الغلوّ فذاك ما دسَّه المغيرة بن سعيد في كتبهم)(2).

على أنَّ للغلاة آثاراً يختصّون بها لا يرويها عامَّة الإمامية، وهذه الآثار على العموم طرأ عليها كثير من التشويش، وذلك لأنَّ الإمامية تركوا - على العموم - رواية المؤلّفات الكاملة في الغلوّ(3)،

وكذلك ما كان واضحاً وصريحاً في الغلوّ من الآثار، وربمَّا بقي بعض خيوط أفكار الغلاة في هذا التراث ممّا يمكن تحديده أو تحديد المشتبه منه بالنقد الرجالي من جهة، والمقارنة مع الآثار الباقية للغلاة لديهم من جهة أخرى.

فقد بقيت آثار الغلاة في أوساط الفرق الغالية كالنصيرية، إلّا أنَّ من الصعوبة بمكان الإثبات التاريخي لهذه الآثار وفق أسانيدها، إلّا بمقدار ما تؤكّده كتب الفرق في وصف أقوال الغلاة، أو يرد في علم رجال الإمامية، أو يكون له نسخة مخطوطة ترجع إلى تاريخ سابق.

ص: 303


1- اختيار معرفة الرجال: 2/ 489 رقم: 401.
2- اختيار معرفة الرجال: 2/ 490 رقم: 402.
3- على أنَّها كانت موجودة عندهم كما يظهر بتتبع أخبار الرجال والفهارس كما قال الكشّي: (ورأيت في بعض كتب الغلاة وهو كتاب الدور: عن الحسن بن علي، عن الحسن بن شعيب، عن محمَّد بن سنان..). اختيار معرفة الرجال: 2/ 849 رقم: 1091.

والوجه في ذلك أمور متعدّدة:

منها: إنَّ آثار الغلاة على العموم مبنيَّة على الكتمان والسرّية ممّا يتعذّر معه الإثبات التاريخي.

ومنها: إنَّ كثيراً من روايات الغلاة هي في حقيقتها إنشاء منهم، ولكنهم يضطرون إلى نسبتها لأهل البيت (علیهم السلام) بتوسّط الرواة السابقين؛ لأنَّ الموقع الرمزي لأهل البيت (علیهم السلام) يجعل دور اللاحقين مقصوراً على الإذعان القلبي بتلك الحقائق ومعرفتها، أو شرحها وبيانها وترتيبها وملء نقاط فراغ مستنبطة لها ومزيد تأويل للمأوّل.

ومنها: إنَّه ليس لدى الغلاة عموماً علم إسناد وطبقات ولا علم رجال مبني على النقد والتمحيص للمنقولات(1)

بذريعة أنَّ هذه المنقولات أسرار وأنَّ حملتها بطبيعة الحال إنّما حملوها سرّاً، وأنَّ تحمّل هذه الأسرار بنفسه لا يتأتّى إلّا لمن محّض الإيمان وكان أهلاً لأنْ يكون مستودعاً للأسرار، ومن ثَمَّ ترى اختلالاً كبيراً في أسانيدهم من إرسال بين رجالها، أو قلب، أو تحريف عجيب للأسماء، أو غير ذلك.

هذا حديث عام عن الغلوّ.

وأمَّا عن جابر وعلاقته بالغلوّ والغلاة فنقول:

إنَّ حركة الغلوّ نشأت قبل جابر وذلك في الطبقة الأولى من طبقات الرواة بعد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) حيث غلا بعض الناس في عهد أمير المؤمنين (علیه السلام)، واستمرّت حركة الغلوّ في الطبقات اللاحقة بما فيها الطبقة الرابعة - الذين يعدّ جابر منهم -.

1. قد ادّعى بعض الغلاة في هذه الطبقة انتماءهُ إلى جابر، فقد ذكر النوبختي أنَّه

ص: 304


1- ذكر عن نصر بن الصباح الذي وصفه الكشّي بالغلوّ مكرراً - لاحظ مثلاً اختيار معرفة الرجال: 1/ 71 رقم:42 - بأنَّ له كتاب معرفة الناقلين (رجال النجاشي: 428 رقم: 1149). والظاهر أنَّ كتابه من مصادر الكشّي، لاسيّما في شأن الغلاة.

بعد مقتل عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في سنة 129ﻫ - الذي كان قد ثار على مروان بن محمَّد بن مروان بن الحكم سنة 127ﻫ بالكوفة - وكان قد ادعي أنَّه (افترقت فرقته بعده ثلاث فرق، وقد كان مال إلى (عبد الله بن معاوية) شذاذ صنوف الشيعة برجل من أصحابه يقال له (عبد الله بن الحارث) وكان أبوه زنديقاً من أهل المدائن فأبرز لأصحاب (عبد الله) فأدخلهم في الغلوّ والقول بالتناسخ والأظلة والدور وأسند ذلك إلى (جابر بن عبد الله الأنصاري) ثمَّ إلى (جابر بن يزيد الجعفي) فخدعهم بذلك حتى ردّهم عن جميع الفرائض والشرائع والسنن وادّعى أنَّ هذا مذهب جابر بن عبد الله وجابر بن يزيد).

قال النوبختي: (رحمهما الله فإنَّهما قد كانا من ذلك بريئين)(1).

ومن الملاحظ أنَّ نسبة العقائد الغالية إلى جابر الجعفي هنا تصدر لأوَّل مرَّة بعد مماته من قبل بعض الغلاة؛ لأنَّه كان يناسب اعتزاله واختصاصه بالباقر (علیه السلام) واهتمامه بتأويل الآيات الشريفة، كما سيأتي بيانه في المقام الثاني.

هذا، وكانت الحارثية مسبوقة بفرقتين ذكر النوبختي أنَّهما كانتا من الغلاة أيضاً:

إحداهما: فرقة الكيسانية، وهي القائلة بإمامة محمَّد بن الحنفية فلما توفي (سنة 81ﻫ) زعم (حمزة بن عمارة البربري) - وكان من أهل المدينة - أنَّه نبي وأنَّ محمَّد بن الحنفية هو الله عزَّ وجلَّ - تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً -، وأنَّ حمزة هو الإمام وأنَّه ينزل عليه سبعة أسباب من السماء فيفتح بهن الأرض ويملكها، وكان قد نكح ابنته وأحلّ جميع المحارم، وقال من عرف الإمام فليصنع ما شاء فلا إثم عليه، فتبعه على ذلك ناس من أهل المدينة وأهل الكوفة فلعنه أبو جعفر محمَّد بن علي بن الحسين (علیه السلام) وبرئ منه وكذّبه وبرئت منه الشيعة، فاتّبعه على رأيه رجلان من نهد يقال لأحدهما (صائد)

ص: 305


1- فرق الشيعة: 34 - 35. (الناشر: دار الأضواء. بيروت. 1404ﻫ. ط. الثانية).

وللآخر (بيان) إلى آخر ما ذكره.

ويظهر ممّا ذكره من لعن الباقر (علیه السلام) إيّاه أنَّه كان في زمان تصدّيه للإمامة بعد شهادة أبيه السجاد (علیه السلام) (سنة 94ﻫ)، وقد ذكر أنَّ (بياناً) ادّعى أنَّ الباقر (علیه السلام) أوصى إليه، وكان قد كتب إلى الباقر يدعو إلى نفسه والإقرار بنبوته، وأخذه خالد بن عبد اللّه القسري - الذي وَليَّ الكوفة من سنة (105 - 120ﻫ) - هو وخمسة عشر رجلاً وقتلهم(1).

والأخرى: فرقة العبّاسية (الراوندية)، وهي القائلة: إنَّ الإمام بعد ابن الحنفية هو (محمَّد بن علي بن عبد الله بن عبّاس) وأنَّه الإمام وهو الله عزَّ وجلَّ، وهو العالم بكلّ شيء، فمن عرفه فليصنع ما شاء.

وذكر النوبختي: أنَّ بدء الغلوّ كان من الكيسانية والعباسية والحارثية (حتى قالوا إنَّ الأئمَّة آلهة وإنَّهم أنبياء وإنَّهم رسل وإنَّهم ملائكة، وهم الذين تكلموا بالأظلة وفي التناسخ في الأرواح، وهم أهل القول بالدور في هذا الدار، وإبطال القيامة والبعث والحساب..)(2).

إلى آخر ما ذكره في شرح عقائدهم.

2. وتتالت بعد جابر في زمان الإمام الصادق (علیه السلام) (ت 148ﻫ) ومن بعده فرق الغلاة، ويظهر بملاحظة روايات الغلاة والمضعّفين أنَّ جابراً كان من جملة من ترفع إليه الآثار المتضمنة للغلوّ والأفكار الغالية.

وربَّما ساهم في تأكيد هذه النسبة في الطبقة الخامسة جملة من تلامذة جابر مثل: (عمرو ابن شمر، وأبي جميلة المفضَّل بن صالح، والمنخل بن جميل) حيث ضعّف الثلاثة جميعاً.

وكأنَّ سرَّ التضعيف هو ملاحظة أدبيات الغلاة وخيوط أفكارهم وتلفيقاتهم فيما يروونه عن جابر، لاسيمّا عمرو بن شمر الذي أصبح راوية جابر وكان يصلّي في مسجده

ص: 306


1- لاحظ نفس المصدر: 27 - 28.
2- المصدر نفسه: 36.

من بعده، وبقي بعده طويلاً، وروى عنه آثاراً كثيرة انفرد بها.

وقد روى عن جابر جمع آخر ممَّن ضعّف أو اتّهم بالغلوّ مثل: عمرو بن أبي المقدام، والربيع بن محمَّد المسلمي، وعبد الله بن الحارث - الذي عُدَّ من رؤوس الغلاة ممَّن فرّق الثوار عن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيّار -، وعبد الله بن غالب، وسعد الأسكاف، وحميد بن شعيب، وضريس الوابشي، وعثمان بن زيد، وإبراهيم بن عمر اليماني، وصباح المزني، ويونس بن ظبيان، على تأمّل في روايته عنه مباشرةً؛ لأنَّه من أحداث الطبقة الخامسة.

ومِن جملة مَن نسب إليه الغلوّ وقد روى عن جابر - ممَّن يحتمل أنْ يكون قد ساهم في ترسيخ اهتمام الغلاة بجابر - المفضَّل بن عمر الجعفي - وهو من قبيلة جابر نفسها - وهذا الرجل يتراءى أنَّه المفكر الأبرز للغلاة في الأعصار كلّها حتى تنسب إليه الغلاة كثيراً من الآثار الفكرية المختلفة التي تختصّ بها الغلاة بلسان الرواية عن الصادق (علیه السلام) كالهفت الشريف، ورغم أنَّ بعض هذه الآثار مختلقة، أو يتوقع أنْ يكون قد زِيدَ فيها ونقص، إلّا أنَّه يبقى من الصعوبة بمكان نفي استناد الغلوّ إليه مطلقاً، ولكنَّه ربَّما كان من الغلاة الذين يجمعون بين الباطن والظاهر، ولا يلغون العمل بالشريعة.

وفي الطبقة السادسة - طبقة تلامذة تلاميذ جابر - كان من أبرز الرواة المضعّفين والمتّهمين بالغلوّ عن جابر هو (محمَّد بن سنان الزاهري) - الذي يعدّه الغلاة من أركانهم، ويعدّونه راوية لآثار الغلاة السابقين وتراثهم مثل تراث المفضَّل بن عمر -، وقد حكي عنه اعترافه قبل موته بأنَّه كان يروي عن الوجادة، كما حكي عنه أنَّه كان يقول في مسجد الكوفة: (من أراد المعضلات فإلي، ومن أراد الحلال والحرام فعليه بالشيخ، يعني صفوان بن يحيى)(1).

ص: 307


1- اختيار معرفة الرجال: 2/ 796 رقم: 981.

وذُكر عن صفوان بن يحيى أنَّه قال: (هذا ابن سنان لقد هَمّ أنْ يطير غير مرَّة فقصصناه حتى ثبت معنا)(1).

وقد روى محمَّد بن سنان عن الغلاة والمتهمين بالغلوّ ممَّن كانوا في طبقة مشايخه كالمفضَّل بن عمر، وربَّما روى ابن سنان عن جابر مباشرة، وهو مرسل طبعاً.

ومن سائر الرواة الغالين والضعفاء عن جابر بالواسطة في هذه الطبقة: عبد الله بن القاسم، وعبد الله بن حمّاد، وبكر بن صالح، وإسماعيل بن مهران، ومحمَّد بن عبد الرحمن بن محمَّد العزرمي وغيرهم.

وهكذا اعتني برواية المضامين المتضمّنة للغلوّ والتخليط عن جابر في الأجيال اللاحقة من الرواة الغلاة والمخلطين، مضافاً إلى رواية عامّة الروايات لبعض ما أُثر عنه ممّا لم يشخّصوه غلوّاً وتخليطاً.

3. إلى أنْ تبلورت فكرة البابيَّة التي سرعان ما وجهّها الغلاة إلى أنَّه لا يتيسّر استقاء المعرفة من أئمَّة أهل البيت (علیهم السلام) مباشرة، بل لا بُدَّ من الدخول إلى معارفهم من خلال أبواب لهم، فأعطي ل-(جابر) البابيَّة للإمام الباقر أو الصادق (علیهما السلام) .

ويلاحظ أنَّ التعبير ب- (الباب) في الأصل - على الأغلب - كان اقتباساً لما ورد من أنَّ علياً (علیه السلام) باب علم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).

واستخدام التعبير ب- (الباب) عن بعض أصحاب الأئمَّة نشأ - على الأغلب - في زمان الإمام الهادي والعسكري (علیهما السلام) حيث إنَّ الأئمَّة على أثر تشديد الرقابة عليهم وصعوبة اللقاء بهم أرجعوا إلى وكلاء موثوقين عندهم كمحمَّد بن عثمان العمري، وعبّر عن هؤلاء بالأبواب والسفراء، وكان المراد بالباب في الإطلاق العامّ هو سبيل الاتصال مع الإمام (علیه السلام).

ص: 308


1- نفس المصدر والموضع: رقم: 980.

وقد توسَّع بعض الإمامية طرداً للفكرة إلى الأزمنة السابقة فانتزع لكلّ واحد من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمَّة

(علیهم السلام) باباً، فجعل باب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أمير المؤمنين (علیه السلام)، وباب أمير المؤمنين سلمان، وباب الحسن (علیه السلام) سفينة، وباب الحسين (علیه السلام) رشيد الهجري، وباب علي بن الحسين (علیه السلام) أبا خالد الكابلي، ويحيى بن أم الطويل، وباب الباقر (علیه السلام) جابراً، وهكذا.

وممَّن جرى على ذلك:

1. في تاريخ الأئمَّة المنسوب إلى أبى بكر محمَّد بن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل بن أبي الثلج الكاتب البغدادي المولود (سنة 237ﻫ) والمتوفّى حدود (322ﻫ) في ذكر خصائص النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمَّة (علیهم السلام) عقد عنواناً في (أبواب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمَّة (علیهم السلام))، وعُدَّ باب الباقر (علیه السلام) جابر بن يزيد الجعفي، وباب جعفر بن محمَّد (علیهما السلام) المفضَّل بن عمر، وباب الكاظم (علیه السلام) محمَّد بن المفضَّل، وباب الرضا (علیه السلام) محمَّد بن الفرات، وباب الجواد (علیه السلام) عمر بن الفرات، وباب الهادي (علیه السلام) عثمان بن سعيد العمري.

وقال: (وقال قوم إنَّ محمَّد بن نصير النميري الباب. وأنَّ عثمان بن سعيد الباب، ومحمَّد بن نصير المعلّم).

وقال في باب الحسن بن علي (علیهما السلام): (عثمان بن سعيد ومحمَّد بن نصير كما قالوا في أبيه وهم النصيرية).

وباب القائم الحجة المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) عثمان بن سعيد(1).

2. في طبّ الأئمَّة لابن سابور الزيّات (ت 401ﻫ) في ذكر إسناده إلى رواية (محمَّد ابن جعفر بن علي البرسي، قال: حدّثنا محمَّد بن يحيى الأرمني - وكان باباً للمفضَّل بن عمر، وكان المفضَّل باباً لأبي عبد الله الصادق (علیه السلام) -...)(2).

ص: 309


1- لاحظ تاريخ الأئمَّة: 32-33.
2- طبّ الأئمَّة: 128.

3. الشيخ الطوسي (قدس سره) (ت 460ﻫ) عطف ذات مرَّة في الغيبة عمَّن كان يختصّ ببعض الأئمَّة (علیهم السلام) أو ادّعي اختصاصه من السفراء والوكلاء - من غير أن يعتني بجعل شخص بخصوصه باباً للإمام، بل ذكر طيفاً من الوكلاء في الأمور الماليّة وغيرها، كما لم يهتم بجعل باب لكلّ واحد من الأئمَّة الاثني عشر، بل نظر إلى الصادق ومَن بعده من أئمَّة أهل البيت (علیهم السلام). على أنَّه لم يركّز على التعبير عنهم بالباب، بل عبَّر بالسفراء والوكلاء - (الأبواب)(1).

نعم، عبّر عن سفراء الحجة (عجل الله تعالی فرجه الشریف) بالأبواب(2)، وذكر فصلاً بعنوان (ذكر المذمومين الذين ادّعوا البابيَّة والسفارة كذباً وافتراءً)(3)، ومن جملتهم الحلّاج ومحمَّد بن نصير وآخرين.

4. ابن شهرآشوب (ت588ﻫ) في مناقبه حيث اعتنى بذكر باب لكل واحد من الأئمَّة (علیهم السلام)، وجعل أيضاً باب الباقر (علیه السلام) جابر بن يزيد الجعفي(4)، وجعل باب الصادق (علیه السلام) محمَّد بن سنان(5)، وباب الكاظم (علیه السلام) المفضَّل(6)، وباب الرضا (علیه السلام) محمَّد ابن راشد(7)، وباب الجواد (علیه السلام) عثمان بن سعيد(8)، وباب الهادي (علیه السلام) محمَّد بن عثمان العمري، وباب العسكري (علیه السلام) الحسين بن روح النوبختي.

ص: 310


1- لاحظ الغيبة: 414.
2- نفس المصدر: 393.
3- نفس المصدر: 397.
4- لاحظ مناقب آل أبي طالب: 3/ 340.
5- المصدر السابق: 3/ 399.
6- نفس المصدر: 438.
7- نفس المصدر: 487.
8- نفس المصدر والموضع.

ولكن يتوقّع أنْ يكون استنباط هذه الأبواب للأئمَّة مشاكلة مع دعاوي الغلاة، كما ينبّه عليه بعض وجوه الاشتراك، وفي جملة منها ملاحظات تاريخية واضحة.

ولم يذكر جلّ الإمامية أبواباً للأئمَّة (علیهم السلام) منهم المفيد في الإرشاد.

وأيّاً كان فلم يكن غرض هؤلاء بالباب في شأن سائر الأئمَّة (علیهم السلام) إلّا أنَّه كان طريقاً إلى السؤال من الإمام (علیه السلام).

هذا، ولكن كثيراً من الغلاة حرّفوا معنى البابيَّة إلى كون صاحبها محلّ أسرار الأئمَّة - التي هي العقائد الغالية التي كانوا يعتقدون بها - واستغلوا هذه الدعوى في وقت كان يصعب لعامَّة الناس التحقّق من دعاويهم، ورغم أنَّ الأئمَّة (علیهم السلام) كانوا يصدّرون لعناً بمدّعي البابيَّة لهم، إلّا أنَّ الغلاة كانوا يفسرون هذا اللعن بأنَّ ظاهره عذاب وباطنه رحمة، وحيث إنَّ دعوى احتكار معارف الأئمَّة (علیهم السلام) والقدرة الخارقة على التواصل معهم كان أمراً جاذباً لفريق من عامَّة الناس غير المتثبّتين فقد سلك الغلاة سبيل ادّعاء المعرفة لغرض جذب هؤلاء، ولاسيَّما أنَّ أغلبهم لم يكن من أهل الاطلاع على الفروع الفقهيَّة.

وقد اشتدّ الابتلاء بعد استشهاد الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) وغياب الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) فاستراح الغلاة من الوجود الظاهر للأئمَّة (علیهم السلام)، وكذّبوا سفراء الإمام المهدي وزعموا أنَّهم الباب إليه، وازداد الابتلاء بعد الغيبة الكبرى من جهة انقطاع رسائل اللعن والتشهير بهم من قبل الإمام (علیه السلام)، ولم يزل يظهر رجال من أهل الغلوّ والجهل يزعمون أنَّهم أبواب الإمام (علیه السلام).

والحاصل: أنَّه بعد انتشار فكرة الأبواب أعاد مدّعو البابيَّة والمعرفة ومنظّروها النظر في مواقع مشاهير الشيعة من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل البيت (علیهم السلام)، أو الذين عرفوا بمحبّتهم لهم (علیهم السلام) ؛ وذلك لأجل أنْ يتأتى أنْ يعتبروا أنفسهم ورؤساءهم بالنسبة إلى الإمام الحاضر بمثابة هؤلاء بالنسبة إلى من سبق فجعلوا في كلّ زمان باباً ونجباء

ص: 311

ونقباء وعناوين أخرى وطبقوها على أصحاب الأئمَّة السابقين لضمان اطرّاد الفكرة.

ويرى الغلاة للباب شأناً عظيماً، إذ قد يتجلّى الخالق سبحانه فيهم فيدّعون الإلوهية، أو يتجلّى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فيهم فيدّعون النبوة.

قال الجليّ تلميذ الخصيبي - وهما من أركان المذهب النصيري -: (وأمَّا نداء أبي الخطّاب منه السلام على مئذنة الجامع وتصريحه: (أنا المألوه بالإلوهيَّة المعروف بالأزليَّة، فمن ادَّعى عليَّ ما لم أقلْ فقد برئ من توحيد جعفر الرفيع الأعلى الذي هو الأزل القديم) فكان أبو الخطّاب في ذلك الوقت قد ظهر به الميم [يعني محمَّد (صلی الله علیه و آله و سلم)]... وقد جرى من الأبواب إليهم التسليم من النداء بتوحيد العين في أماكن كثيرة. وقد نادى عمر بن الفرات وأبو شعيب (إليهما التسليم) بمعنويَّة العين [يعني إلوهيَّة علي] واسميَّة الاسم في أماكن شتى. فشكا أهل الظاهر ذلك إلى الموالي [يعني الأئمَّة] (علیهم السلام) - جلّوا وعلوا - فلعنوهم في الظاهر تسكيناً لأهل الظاهر - أهل الكفر والعناد والتقصير والإلحاد - وكانت اللعنة رحمة، وقد لعن مولانا جعفر الصادق أبا الخطّاب وجرى من لعنه هذا المجرى. وقد جرى من نداء عبد الله بن سبأ قديماً قبل المبعث [يعني قبل بعثه مرَّة أخرى حسب ما ادّعوه في أساطيرهم من أنه بُعِثَ مكرراً بعد قتله] وفيه وبعد غيبة الميم منه السلام بمعنوية الأزل ما هو أشهر وأكثر من أن يدرك ويحصى وقُتِلَ ستاً، وتكون السابعة أكبر ممّا تقدَّم وتأخَّر.

وأمَّا نداء المعنى [يعني علياً (علیه السلام)، ويعبَّر عنه بالمعنى لأنَّه حقيقة الإلوهيَّة] بالكوفة والبصرة وتصريحه بذاته وتوحيده على المنابر بالكوفة والبصرة وغيرهما في خطبة الأقاليم، وخطبة البيان، وخطبة الكشف والطثنجية(1)، وقوله: أنا الأوَّل، أنا الآخر، أنا

ص: 312


1- هكذا في المصدر وفي مشارق أنوار اليقين للحافظ رجب البُرسي (ت حدود813ﻫ) (ص: 263) هناك خطبة بألفاظ مقاربة جداً تسمى (خطبة التطنجية).

الظاهر، أنا الباطن، أنا بكلِّ شيء عليم، أنا قرم من حديد، أنا أبدئ وأعيد، أنا مهلك عاد وثمود). وهذا وأمثاله إشارة إلى ذاته ظاهراً موجوداً سَمِعَه الخاصّ والعامّ والمخالف والمؤالف)(1).

وعلى هذا الأساس قالوا في أحد تنظيراتهم - وهو تنظير خلفاء محمَّد بن نصير النميري مثل الخصيبي(2) ومن بعده - إنَّ باب علي (علیه السلام) سلمان الفارسي، وباب الحسن (علیه السلام) قيس ابن ورقة، وباب الحسين (علیه السلام) رشيد الهجري، وباب زين العابدين (علیه السلام) أبو خالد الكابلي، وباب الباقر (علیه السلام) يحيى بن معمّر بن أم الطويل، وباب الصادق (علیه السلام) جابر بن يزيد الجعفي، وباب الكاظم (علیه السلام) أبو الخطّاب، وباب الرضا (علیه السلام) المفضَّل، وباب الجواد (علیه السلام) محمَّد بن المفضَّل، وباب علي الهادي (علیه السلام) عمر بن الفرات الكاتب، وباب الحسن العسكري (علیه السلام) محمَّد بن نصير. وجعل محمَّد بن سنان واحداً من النقباء الاثني عشر وابن سبأ من بين النجباء الأربع والعشرين.

ولا يبعد أنَّه كان لسائر الغلاة المدعين للبابيَّة قبيل الغيبة الصغرى وبعدها ترتيب آخر للرواة، وقد ذكر الخصيبي في القسم الثاني من الهداية الكبرى المعقود لذكر الأبواب - بعد ذكر الأبواب على هذا الترتيب - أنَّ اعتبار محمَّد بن سنان وعلي بن حسكة - وهو

من مدعي البابيَّة - ليس صحيحاً(3).

ومن الطريف في هذا التصنيف عدم ملاحظة الجوانب التاريخية بنظر الاعتبار، فإنَّ

ص: 313


1- سلسلة التراث العلوي: 2/ 330 - 331. (تحقيق أبو موسى والشيخ موسى. نشر دار لأجل المعرفة. ديار عقل. لبنان. 2006م).
2- لاحظ الرسالة الراستباشية للخصيبي. سلسلة التراث العلوي: 2/ 55.
3- لاحظ الهداية الكبرى في سلسلة التراث العلوي: 7/ 337 وما بعدها. (القسم الثاني في الأبواب).

جابراً كان من خواص الباقر (علیه السلام)، وهم يضيفون الروايات التي يروونها عن جابر ممّا يتضمَّن لديهم أسراراً إلى أنَّه سمعها من الإمام الباقر (علیه السلام)، إلّا أنَّ قلَّة الشخصيات المناسبة لدعوى البابيَّة ووجود شخصيَّة مناسبة أخرى في نظرهم لدعوى البابيَّة للباقر (علیه السلام) أدّى إلى صرف جابر إلى بابيَّة الإمام الصادق (علیه السلام).

كما أنَّ المفضَّل أُلْصِقَ بالصادق وكلّ ما رووه عنه من الرسائل إنَّما كان رواية عنه، بل لم يبقَ ظاهراً إلى زمان الرضا (علیه السلام)، ومع ذلك جعلوه بابه (علیه السلام)، لأنَّ هذه الفرقة لم تكن معنية بالاطلاع على التاريخ ومراعاة ثوابته، ولا تخاطب جمهوراً يدركون الأمور التاريخية ويعتبرون بها.

فضلاً عن التأويلات التي يمكن أنْ تكون مخرجاً لهم عن أي اضطراب من هذا القبيل.

فظهر بما ذكرنا أنَّ مصطلح البابيَّة بمعنى باب المعرفة المتصف بالتجليات والتصرّفات الخارقة ممّا اخترعه الغلاة عند الغيبة الصغرى أو قبيلها.

نعم، ذكر مصطلح الباب في كلام سعد بن عبد الله الأشعري القمّي (ت 301ﻫ) في كتابه المقالات والفرق في ذكر مذهب المخمّسة الذين هم أصحاب أبي الخطّاب(1)،

ص: 314


1- قال: (وأنَّ كلَّ مَن كان من الأوائل مثل أبي الخطّاب، وبيان، وصائد، والمغيرة، وحمزة بن عمارة وبزيع، والسري، ومحمَّد بن بشير، هم أنبياء أبواب بتغيير الجسم وتبديل الاسم، وأنَّ المعنى واحد وهو سلمان وهو الباب الرسول يظهر مع محمَّد في كلّ حال من الأحوال، في العرب والعجم فهذه الأبواب يظهر مع محمَّد أبداً في أي صورة ظهر وظهروا فأقاموا معه الأبواب، والأيتام، والنجباء، والنقباء، والمصطفين، والمختصّين، والممتحنين، والمؤمنين، فمعنى الباب هو سلمان وهو رسول محمَّد متصل به ومحمَّد الربّ، ومعنى اليتيم المقداد سمّي يتيماً لقربه من الباب وتفرّده بالاتصال بهما)... إلى آخر ما ذكره. المقالات والفرق: 56 - 59 (الناشر: مركز انتشارات علمي وفرهنگي. 1360 ش. ط. الثانية).

إلّا أنَّ الذي يظهر من سياق عبارته أنَّه لم يكن ناظراً إلى تقرير هذا المذهب بصيغته القديمة المعهودة لدى أبي الخطّاب، بل التقرير الكلّي للمذهب، وتشهد عبارته على أنَّه مقتبس من كلمات متأخري المخمّسة. علماً أنَّ الذي يظهر استمرار أفكار المخمّسة حتى عهد الغيبة الصغرى التي عاش فيها سعد، ومن ثَمَّ نجد أنَّ معاصره النوبختي لم يذكر مصطلح الباب في شرح أفكار الخطّابية.

وهذا من الأخطاء التي تقع فيها كتب الفرق حيث يذكرون تقرير مذاهب قديمة ببيانات متأخّرين قد تتضمَّن زيادات وتفاصيل ومصطلحات لم تعهد أوَّلاً.

وأيَّاً كان فبطبيعة الحال كان لاعتبار جابر (باباً) إلى الإمام (علیه السلام) - بما للباب من مقام رفيع يلي مقام الإمام - تأثير:أوَّلاً: على الغلوّ في شخصيّة جابر نفسه وتولّد روايات حول مدح الأئمَّة إياه ومآثره وعجائبه، كما عقد الخصيبي بحثاً - في ضمن ما عقده في مناقب سائر الأبواب كأبي الخطّاب الغالي ومحمَّد بن نصير - حول جابر ومآثره(1)، وتبعه أبو سعيد ميمون بن القاسم الطبراني (ت 427ﻫ) في المعارف(2).

ومن أمثلتها: ما عن الباقر (علیه السلام) أنَّه قال له: (ادخل يا نظير الذي أغرق الخليقة بالماء وأنت أغرقتهم بالعلم).

وعن الصادق (علیه السلام): (إنَّما سمّي جابر لأنَّه جبر المؤمنين بعلمه، وهو بحر لا ينزف، وهو الباب في دهره والحجَّة على الخلق، حجَّة أبي جعفر محمَّد بن علي).

ص: 315


1- لاحظ سلسلة التراث العلوي، الهداية الكبرى: 7/ 364 - 368 وقد أرجع في نهاية الباب إلى ما ذكره حول مآثر الباقر (علیه السلام).
2- لاحظ ما جاء في هامش الهداية الكبرى عن الطبراني. سلسلة التراث العلوي. الهداية الكبرى: 7/ 364 وما بعدها.

وطرق هذه الأخبار جمعٌ من المجاهيل، وجمعٌ من مشاهير الغلاة مثل أبي الخطّاب، ومحمَّد بن سنان، ويونس بن ظبيان، ومحمَّد بن صدقة العنبري البصري.

وثانياً: على زيادة المرويّات التي تضاف إلى جابر، وقد تضمّنت كتب الغلاة - المحفوظة بعض الشيء على الإجمال في تراث العلويين - روايات عديدة قصيرة وطويلة عن جابر يعتبر مضمون جملة منها من الأسرار.

وعلى الإجمال فإنَّ جابراً يعتبر عند الغلاة من جملة مشاهير حملة العلم الباطن - الذي يعنون به العلم المكتوم عن عامَّة الشيعة الإمامية - وقد ذكروا إنَّ كنية جابر (أبو محمَّد) وكنيته الخاصَّة (أبو التحف)(1)، وقالوا إنَّه يشرف على جماعة يندرجون في طبقة الأيتام وهم: (خالد بن يحيى المعبراني، بشارة بن المغيرة، ميمون بن إبراهيم، فرات بن أحنف، حمران بن أعين)(2).

وثالثاً: اعتنى مؤسسو المذهب العلوي بترتيب مناسبات اجتماعية يحتفلون بها كما في سائر الأديان والمذاهب لإضفاء حيوية خاصَّة على هذا المذهب، وفي هذا السياق جعل عيدين من الأعياد العربية باسم جابر الجعفي.

قال أبو سعيد الطبراني - وهو من أركان الغلاة - في كتاب مجموع الأعياد: (الأعياد العربية عشرة أعياد) ثم عدَّها وقال: (إنّها يوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم الغدير، والسبعة عدد الأيام السبعة التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ وعلا من جهة الأبواب).

وقال في السادس: (ومنها: اليوم (يوم الاثنين) الذي خاطب محمَّد الباقر منه السلام لجابر بن يزيد الجعفي، ووضع يده على صدره فوجد برد أنامله في ظهره، وقال:

ص: 316


1- لاحظ سلسلة التراث العلوي: 2/ 56.
2- نفس المصدر: 2/ 71.

جابر حجّة الله في أرضه وسماواته على أهلها، وكان ذلك يوم الاثنين لسبعة خلون من شهر ذي الحجَّة)(1).

وقال في التاسع منها: (ومنها اليوم الذي أمر الباقر منه السلام بالبيان لجابر بن يزيد الجعفي بالدعاء إلى الله جهراً فدعا، فأخذ فترك السندان المحمي على يده حتى حالت حمرته، ثم قتل، وكان ذلك اليوم يوم السبت لستة عشر يوماً خلون من ذي الحجَّة)(2).

وجعلوا في جملة ادعيتهم التوسّل بالأبواب ومنهم جابر الجعفي(3).

على أنَّ دستور العلوية الباطني لم يتضمَّن ذكر الأبواب عدا محمَّد بن نصير النميري وخلفائه، وهو دستور ترتّب لاحقاً وأدخل عليه تغييرات تدريجية. هذا ما أردنا بيانه في هذه الحلقة.

ويقع الكلام - إنْ شاء الله تعالى - في الحلقة القادمة في تكملة هذه الجهة في الآثار المنسوبة إلى جابر الجعفي عند الغلاة، ثمَّ في المقام الثاني في علوم جابر وكتبه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على خير خلقه محمَّد وآله الطيبين الطاهرين.

* * *

ص: 317


1- نفس المصدر: 3/ 231.
2- نفس المصدر والموضع.
3- سلسلة التراث العلوي: 9 (كتاب المشيخة)/ 172.

ص: 318

تعقیبات حول وثاقة رواة کامل الزیارات - الشيخ بشّار أبو كلل (دام عزه)

اشارة

وثاقة رواة كتاب (كامل الزيارات) من البحوث الرجاليَّة التي احتدم الجدل بشأنها بين الأعلام، وقد كتب فيها الأستاذ السيد محمَّد رضا السيستاني (دامت افاداته) بحثاً مطوَّلاً نُشر في مجموعة أبحاثه الرجاليَّة (قبسات من علم الرجال), وقد قام أحد تلامذته بتوضيح مرامه وتبيينه ومناقشة بعض ما كُتب مؤخّراً في الردّ عليه, وهذا البحث يشتمل على نقاط إضافية يجدر الاطلاع عليها.

ص: 319

ص: 320

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطيبين الطاهرين الغرّ الميامين. وبعد..

فقد ذهب أستاذ أساتذتنا السيد المحقّق الخوئي (قدس سره) في شطر من حياته المباركة إلى وثاقة من وقعوا في أسانيد كتاب (كامل الزيارات) لابن قولويه، وقد تبعه في ذلك عدد من تلامذته وغيرهم، ولكنه (قدس سره) عدل عن هذا المبنى لاحقاً وبنى على اختصاص التوثيق بمشايخ ابن قولويه بلا واسطة، وأصدر بياناً أوضح فيه وجه عدوله عن القول الأوَّل، ورد فيه ما نصّه:

(بعد ملاحظة روايات الكتاب والتفتيش في أسانيدها ظهر اشتماله على جملة وافرة من الروايات - لعلّها تربو على النصف - لا تنطبق عليها الأوصاف التي ذكرها (قدس سره) في المقدّمة, ففي الكتاب الشيء الكثير من الروايات المرسلة والمرفوعة والمقطوعة التي تنتهي إلى غير المعصوم والتي وقع في إسنادها من هو من غير أصحابنا. كما أنَّه يشتمل على الكثير من روايات أناس مهملين لا ذكر لهم في كتب الرجال أصلاً بل وجماعة مشهورين بالضعف كالحسن بن علي بن أبي عثمان ومحمَّد بن عبد الله بن مهران وأميّة بن علي القيسي وغيرهم. ومعلوم أنّ هذا كلّه لا ينسجم مع ما أخبر (قدس سره) في الديباجة لو كان مراده توثيق جميع من وقع في إسناد كتابه من أنَّه لم يخرج فيه حديثاً روي عن الشذّاذ من الرجال غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم. فصوناً لكلامه (قدس سره) عن الإخبار بما لا واقع له لم يكن بدّ من حمل العبارة على خلاف ظاهرها بإرادة مشايخه خاصَّة. وعلى هذا فلا مناص من العدول عمّا بنينا عليه سابقاً والالتزام باختصاص التوثيق بمشايخه بلا واسطة).

ص: 321

ولكنّ بعض المراجع الأعلام (دام ظله الوارف) بقي متمسكاً بالقول الأوَّل وأجاب عمّا أفاده السيد الخوئي (قدس سره) بما ملخّصه(1):

إنَّ عبارة ابن قولويه آبية عن الحمل المذكور. كيف وإنَّ الغرض من توثيق الرجال بيان اعتبار روايات الكتاب, ومن الظاهر أنَّ اعتبار الرواية إنَّما يكون بوثاقة جميع رجال سندها لا خصوص الراوي الأوَّل الذي يروي عنه ابن قولويه. بل قوله: (ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذّاذ من الرجال) كالصريح في خلافه، وإلّا كان يقول: (ولا أخرجت فيه حديثاً رواه الشذّاذ). وعليه لا بدّ من إبقاء كلامه على ظاهره من هذه الجهة, وحيث كان منزّهاً عن الكذب فلا بدَّ من توجيه كلامه بما يناسب الكتاب المذكور، وذلك بالنظر في نقاط الضعف التي أشير إليها واحدة واحدة..

1 - اشتمال الكتاب على الروايات المرسلة والمرفوعة والمقطوعة لا ينافي تعهّده, فإنَّ من القريب اطّلاعه على أنَّ الشخص الذي أرسل هو ممَّن لا يرسل إلّا عن ثقة - حيث لا يبعد مألوفية ذلك عند القدماء كما وصل ذلك إلينا من بعضهم صريحاً - أو على أنَّ الكتاب الذي اشتمل عليه الخبر المذكور هو من الكتب التي قامت القرائن الخارجية على صحَّة أخبارها لعرضها على الأئمَّة (علیهم السلام) أو على خواص أصحابهم ممَّن يحسن التمييز ونحو ذلك ممَّا قد يتيسّر له ولأمثاله من قدماء الأصحاب وذوي المقام منهم الاطلاع عليه وإن خفي علينا الكثير من ذلك لبُعد العهد وإثارة الشبه ونحو ذلك.

2 - انتهاء الروايات إلى غير المعصومين (علیهم السلام) إنَّما يكشف عن أنَّ تعهّده بالاقتصار على رواياتهم مبني على الغالب.. على أنَّه إنَّما التزم بذلك فيما إذا كان في الرواية عنهم ما يغني عن الرواية عن غيرهم. وعلى كل حال فلا دخل لذلك بالمهمّ في ما نحن فيه من وثاقة رجال السند.

ص: 322


1- مصباح المنهاج (كتاب التجارة): 1/ 461 وما بعدها.

ومثله الحال في الرواية عن غير أصحابنا إذا كان المراد منهم مَن هو بعيد عن أصحابنا, أما لو أريد به مَن هو مختلط بهم كالسكوني وأبي الجارود وطلحة بن زيد فهم ملحقون بأصحابنا في عرف أهل الحديث.

3 - اشتمال الكتاب على الكثير من روايات أناس مهملين لا ذكر لهم في كتب الرجال لا ينافي تعهّده, فإنَّ كتب الرجال قد أهملت الكثير من الرواة.

4 - اشتمال الكتاب على جماعة مشهورين بالضعف إن كان المراد به أنَّهم مشهورون عند غيره بنحو يمكن مخالفة ابن قولويه للمشهور في ذلك فهو لا يعدو أن يكون اختلافاً بين أهل الجرح والتعديل الذي يقع كثيراً.. وإن كان المراد أنَّهم مشهورون بالضعف عند الأصحاب عموماً بحيث لا يمكن خفاء ذلك على ابن قولويه ومخالفته لهم فيه فيهوّن الأمر إمكان جمع توثيقه لهم في كتابه مع تضعيفهم المذكور بأنَّه لمّا كان الغرض من توثيقهم هو توثيق رواياتهم فالظاهر أنَّ المراد بذلك وثاقتهم حين أدائهم الرواية وأخذها عنهم؛ لأنَّ ذلك كافٍ في حجيّة الرواية والاعتماد عليها، ولا ينافي ذلك أن يعرض ما يسقط روايته عن الحجيّة من ضعف في الذاكرة حتى صار يخلط ولا يضبط أو من هزّة وفتنة أخرجته عن مقام الوثاقة أي الكذب أو الغلوّ أو الكفر أو غير ذلك.

وإن لم يكن هذا الوجه هو الظاهر بدواً فلا أقل من لزوم الحمل عليه بعد ملاحظة واقع الكتاب ومراعاة مؤلّفه في الوثاقة والجلالة ورفعة المقام وقدم الطبقة، وهو أولى بكثير من حمل كلامه على توثيق خصوص مشايخه الذين يروي عنهم بلا واسطة.

هذا كلام بعض المراجع الأعلام (دام ظله الوارف) . وقد تعرَّض له بعض أساتذتنا (دامت افاداته) في بحوثه الرجالية وناقشه بكلام مفصَّل، ورد فيه ما نصّه(1):

ص: 323


1- قبسات من علم الرجال: 1/ 105 - 120.

(أمَّا ما ذكر في وجه إباء عبارة ابن قولويه عن الحمل على إرادة توثيق مشايخه المباشرين خاصَّة فيلاحظ عليه بأنَّه ربَّما كان (رحمة الله) يعتقد في مشايخه المذكورين في الكتاب أنَّهم من نقّاد الأخبار وكان يكتفي بذلك في الاعتماد على الرواية وإن كان في سندها ضعيف أو مجهول أو نحو ذلك, فلا يتعيّن عندئذٍ أن يكون مراده وثاقة جميع الرواة.

وأمَّا قوله: (ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذّاذ) فيحتمل فيه أن يكون مسوقاً لبيان أنَّ جميع رواة الكتاب إنَّما هم من المشهورين بالرواية لا كونهم جميعاً من الثقات, وكم من راوٍ مشهور بالحديث ولكنّه لم يوثقه الرجاليون بل ضعّفوه كسهل بن زياد.

وبالجملة: ما ذكر من أنَّ عبارة ابن قولويه آبية عن الحمل المذكور غير تام، نعم هو بحاجة إلى القرينة, فالعمدة إذاً النظر في ما أجيب به عن الأمور التي أشار إليها السيد الأستاذ (قدس سره).

1 - أمَّا ما ذكر من احتمال بناء ابن قولويه على أنَّ من أرسلوا المراسيل التي أوردها في كتابه هم ممَّن لا يرسلون إلّا عن ثقة - كما ذكر ذلك بشأن ابن أبي عمير وأضرابه - فهو في غاية الضعف، فإنَّ عدد هؤلاء يزيد على الستين شخصاً وفيهم العديد من الضعفاء كسلمة بن الخطّاب وعبد الله بن عبد الرحمن الأصم ومحمَّد بن جمهور العمي(1)، وفيهم بعض من صرّح بأنَّه يروي عن الضعفاء كمحمد بن خالد البرقي(2)، والبقيَّة بين موثَّق ومجهول ومهمل لم يذكر بشيء في كتب الرجال, ولو كان كلّ هؤلاء ممَّن لا يرسلون إلّا عن ثقة فكيف لا يوجد على ذلك شاهد في أي مصدر آخر؟! ولماذا لا يلاحظ أي تميّز لهؤلاء عن سائر من أرسلوا في المجاميع الروائية الأخرى من الكتب الأربعة وغيرها؟! مضافاً إلى أنَّ عدم إرسال الراوي عن غير ثقة لا يكون عادة إلّا فيما لو

ص: 324


1- كامل الزيارات: 14، 280، 174 ط: نجف.
2- المصدر السابق: 48 ط: نجف.

كان ملتزماً بعدم الرواية إلّا عن الثقات - كما قالوا ذلك بشأن ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي - وهو أمر قليل في الرواة وليس عادة مألوفة عند القدماء، ولذلك اعتنى علماء الرجال من الفريقين بالتنصيص على من يكون كذلك. ومن المؤكّد أنَّ معظم الذين أرسلوا في روايات كتاب الكامل لم يكونوا من هذا القبيل كما يظهر بتتبّع مشايخهم في الفهارس وأسانيد الروايات.

أضف إلى ذلك أنَّ العديد من المراسيل التي أوردها ابن قولويه قد وقع الإرسال فيها بأزيد من واسطة واحدة، وفي مثل ذلك يتعذّر عادة على المرسل التحقّق من وثاقة من لا يكون من مشايخه المباشرين.

وأمَّا ما ذكر من احتمال اطّلاع ابن قولويه على أنَّ الكتاب الذي اشتمل على الخبر المرسل أو المرفوع أو المقطوع هو من الكتب التي قامت القرائن الخارجية على صحّة أخبارها لعرضها على الأئمَّة (علیهم السلام)

.. فهو - على تقدير عدم استبعاده - غير مجدٍ، إذ لا يبرّر بوجه شهادته بأنَّ جميع رواته من ثقات أصحابنا كما لعلَّه واضح.

2 - وأمَّا ما ذكر من أنَّ التزام ابن قولويه بعدم الرواية عن غير المعصومين (علیهم السلام) إنَّما هو فيما إذا كان في الرواية عنهم ما يغني عن الرواية عن غيرهم فيلاحظ عليه بأنَّ هذا إنَّما هو مقتضى ما ورد في المطبوعة النجفيّة والقميّة(1)من ذكر لفظة (إذا) في قوله: (ولم أخرج فيه حديثاً روي عن غيرهم إذا كان في ما روينا عنهم من حديثهم (صلوت الله عليهم) كفاية عن حديث غيرهم). ولكنّ المذكور في المطبوعة الطهرانيّة وكذلك في البحار وخاتمة المستدرك(2) لفظة (إذ)، والظاهر أنَّها هي الأنسب بسوق العبارة.

ص: 325


1- المصدر السابق: 4 ط: نجف, 37 ط: قم.
2- المصدر السابق: 15. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمَّة الأطهار: 1/ 76. مستدرك الوسائل (الخاتمة): 3/251.

وأمَّا ما ذكر من أنَّ مَن كان من غير الإمامية مختلطاً بأصحابنا فهو ملحق بهم في عرف أهل الحديث فلا تخلّ رواية ابن قولويه عنه بتعهّده عدم الرواية عن غير الثقات من أصحابنا فهو غير تام أيضاً، لأنَّه لا شاهد على الإلحاق المذكور.

نعم ذكر الأصحاب في الفهارس جمعاً من رجال العامَّة وأضرابهم ممَّن رووا عن أئمَّة أهل البيت (علیهم السلام) وألّفوا الكتب من أحاديثهم إلحاقاً لهم بأصحابنا المصنّفين، وهذا أمر آخر لا تعلّق له بمورد الكلام.

وأمَّا ما ذكر من أنَّ رواية ابن قولويه عن غير أصحابنا ممَّن هو بعيد عنهم أو روايته عن غير المعصومين (علیهم السلام) إنَّما يكشف عن أنَّ تعهّده بالاقتصار على روايات الثقات من أصحابنا عن الأئمَّة (علیهم السلام) إنَّما هو مبني على الغالب، وعلى كل حال فلا دخل له بالمهمّ في ما نحن فيه من وثاقة رجال السند. فيلاحظ عليه بأنَّ الموارد المذكورة وأشباهها كالرواية عن الضعفاء والمجاهيل وإيراد المراسيل ونحوها إن لم تكن تشكّل بمجموعها رقماً معتداً به لأمكن أن يوجّه ما عثر عليه منها بما ذكر ويبنى على عدم كونه مضرّاً بما يستفاد من كلام ابن قولويه - حسب الفرض - من التعهّد بالاقتصار على إيراد روايات الثقات من أصحابنا عن الأئمَّة (علیهم السلام), ولكنّ واقع الحال أنَّ تلكم الموارد كثيرة جدّاً(1) ولا سبيل إلى توجيهها بما أشير إليه، بل لا بد من جعلها قرينة على أنَّه (رحمة الله) أراد معنى آخر غير التعهّد بما ذكر.

3 - وأمَّا ما ذكر من أنَّ اشتمال الكتاب على الكثير من روايات أناس مهملين لا ذكر لهم في كتب الرجال لا ينافي تعهّد ابن قولويه بالاقتصار على الرواية عن الثقات من أصحابنا؛ لأنَّ كتب الرجال قد أهملت الكثير من الرواة، فيمكن أن يناقش فيه بأنَّه لو

ص: 326


1- ورد في كلام السيد الأستاذ (قدس سره) أنّها (لعلّها تربو على النصف) ولكنّ الظاهر أنّها تربو على الربع, ومع ذلك فهي كثيرة جدّاً. منه (دامت افاداته) .

كان (رحمة الله) قد اقتصر على التعبير ب-(ثقات أصحابنا) لأمكن أن يوجّه إهمال ما يزيد على النصف من عدد رواة الكتاب بما ذكر - وإن كان لا يخلو عن إشكال أيضاً - ولكنّ الملاحظ أنَّه عبّر في ذيل عبارته بقوله: (المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم) ومن المؤكد أنَّ القسم الأعظم من رواة كتابه لم يكونوا كذلك وإلّا لتمثّل في سائر المصادر كما هو واضح للممارس.

4 - وأمَّا ما ذكر في توجيه اشتمال الكتاب على عدد غير قليل من المضعّفين فيلاحظ عليه بأنَّ الاختلاف في الجرح والتعديل وإن كان أمراً متعارفاً بين علماء الرجال ولكنّ المعهود منه هو تضعيف النجاشي بضعة من الرواة ممَّن وثّقهم الشيخ وانعكاس الأمر في بضعة رواة آخرين، وهكذا بالنسبة إلى الكشّي وابن الغضائري وسائر أرباب الجرح والتعديل, وأمَّا أن يوثّق أحدهم جمعاً كبيراً من الرواة ممَّن طعن الآخرون - كلاً أو بعضاً - فيهم فهذا غير معهود أصلاً.

والملاحظ أنَّ في أسانيد كامل الزيارات أكثر من ستين راوياً من هذا القبيل).

ثمَّ أورد الأستاذ (دامت افاداته) أسماء اثنين وستين شخصاً من رواة كامل الزيارات مع ما ورد في كلمات أعلام الرجاليين فيهم من القدح من دون معارض أو مع المعارض أحياناً، ثمَّ قال:

(فيلاحظ أنَّ مقتضى شمول التوثيق المذكور في مقدّمة الكامل لجميع رواته هو..

أوَّلاً: اختلاف ابن قولويه مع أعلام الرجاليين في وثاقة وضعف عدد كبير من الرواة ممَّا لا يعهد مثله بالنسبة إلى غيره.

وثانياً: توثيقه لعدد من مشاهير الكذّابين والوضّاعين كمحمَّد بن علي القرشي أبي سمينة، ومحمَّد بن عبد الله بن مهران، ويونس بن ظبيان، ومحمَّد بن جمهور العمي، ومحمَّد بن الحسن بن شمّون، وعبد الله بن عبد الرحمن الأصم، والحسن بن علي بن أبي

ص: 327

عثمان، وعبد الله بن القاسم الحضرمي، وأضرابهم. وهذا أيضاً مستبعد جدّاً.

وأمَّا ما قيل في توجيهه من أنَّه لمّا كان الغرض من توثيق هؤلاء هو توثيق رواياتهم فالظاهر أنَّ المراد بذلك وثاقتهم حين أدائهم الرواية.. فهو - مضافاً إلى مخالفته للظاهر - مبنيّ على أن يكون لأولئك الرواة دور وثاقة قبل دور الضعف وأنَّ الروايات المدرجة في الكتاب قد رويت عنهم في دور الوثاقة. ولكنّ هذا فرض في فرض، ولا شاهد عليه بوجه، بل الشواهد على خلافه. ومن ذلك أنَّ مضامين جملة من روايات هؤلاء تشهد بأنَّها من مختلقاتهم في دور الضعف، فلتراجع.

وبالجملة: إذا بني على أنَّ جعفر بن محمد بن قولويه (رحمة الله) لم يكن بعيداً عن معرفة أحوال الرواة بل كان خبيراً بها، ولا سيّما مع التنصيص على كونه من أجلّاء أصحابنا في الحديث(1). فإنَّه لا محيص من البناء على عدم كون مراده بالتوثيق المذكور في مقدّمة الكامل هو توثيق جميع رواة الكتاب كما تنبّه لذلك السيد الأستاذ (قدس سره) أخيراً).

هذا ما ذكره الأستاذ (دامت افاداته) في مناقشة ما ورد في كلام بعض المراجع الأعلام (دام ظله الوارف) في كتابه (مصباح المنهاج).

وقد نُشر أخيراً كتاب (الفوائد الرجاليَّة من مصباح المنهاج)، ولاحظت أنَّه قد ذُكر في هامش بعض صفحاته(2) ردٌّ مفصَّلٌ على أحد الوجوه التي أوردها الأستاذ (دامت افاداته) وهو الوجه الرابع المتقدّم.

ولكن بدا لي أنَّ ما ذكره الكاتب لا يفي بالجواب عنه, بل كأنَّه بعيد عن مرام الأستاذ (دامت افاداته), ومن هنا عنَّ لي أن أشرح مقصوده أوَّلاً, ثمَّ أعقّبه بالتعليق على ما ذكره الكاتب، فأقول:

ص: 328


1- رجال النجاشي: 124.
2- الفوائد الرجاليّة من مصباح المنهاج: 33- 38.

إنَّ اختلاف الرجاليين في التوثيق والتضعيف وإن كان أمراً متعارفاً ولكنّ المعهود منه - كما يتضح بمراجعة الأصول الرجاليَّة - هو أن يوثّق أحدهم بضعة أشخاص ممَّن يضعّفهم الآخرون أو ممَّن يضعّفهم بعضهم ويوثّقهم أو يسكت عن بيان حالهم بعض آخر، وأمَّا أن يوثّق الرجالي ما يزيد على ستين شخصاً ممَّن ورد تضعيفهم في كلمات غيره - سواء وافقه على توثيق بعضهم رجالي آخر أو لا - بحيث يشكّل حوالي (10%) من مجموع من وثّقهم فهذا غير معهود أصلاً، ولا سيما إذا كان فيهم عدد من المشهورين بالكذب والوضع.

فمثلاً: النجاشي وثّق في كتابه مئات الأشخاص - بما يقرب من عدد رواة كامل الزيارات - وليس فيهم من ضعّفه غيره إلّا عدد محدود جدّاً كإبراهيم بن عمر اليماني وحذيفة بن منصور والحسن بن الحسين اللؤلؤي وخلف بن حماد وسالم بن مكرم وسهل بن أحمد الديباجي وسليمان بن داود المنقري ومحمد بن إسماعيل البرمكي ومحمَّد ابن عيسى بن عبيد ويحيى بن عليم ويعقوب السراج وأبي طالب الأنباري، وليس في هؤلاء أيّ من الكذّابين المعروفين.

والشيخ وثّق في كتابي الفهرست والرجال مئات الأشخاص - وإن كانوا أقلّ من نصف من وثّقهم النجاشي - وليس فيهم من ضعّفه غيره إلّا بضع أشخاص كجعفر بن محمَّد بن مالك وداود بن كثير الرقي وسعد بن طريف وسهل بن زياد.

وابن أبي عمير الذي روى عن حوالي أربعمائة شخص - وهو توثيق لهم كما حقّق في محلِّه - لا يوجد في مشايخه من ضعّفه غيره إلّا سبعة أو ثمانية رواة هم: الحسين بن أحمد المنقري وعبد الرحمن بن سالم الأشل والمفضّل بن صالح والمفضّل بن عمر وإسحاق ابن عبد العزيز والحسن بن راشد وعلي بن أبي حمزة وزياد بن مروان القندي.

وصفوان بن يحيى الذي روى عمَّن يقرب من مائتي شخص - وهو توثيق لهم أيضاً -

ص: 329

لا يوجد في مشايخه ممَّن ضعّفه غيره إلّا أربعة رواة وهم: علي بن أبي حمزة والمفضّل بن صالح وعبد الله بن خداش وصالح النيلي.

وابن أبي نصر البزنطي الذي روى عمَّن يقرب من مائة شخص - وهو توثيق لهم أيضاً - لا يوجد في مشايخه من ضعّفه غيره إلّا المفضّل بن صالح وعبد الرحمن بن سالم.

فكيف يمكن تصديق أنَّ ابن قولويه قد قصد بما ذكره في مقدّمة كتابه توثيق مئات الرواة ممَّن وقعوا في أسانيده في حين أنَّ ما يقرب من (10%) منهم ممَّن ضعّفهم غيره، وإن كان فيهم بعض من وثّقه آخرون؟! فإنَّ هذا ممَّا لم يقع نظيره لأيّ من الرجاليين الآخرين.

وبهذا التوضيح يظهر الوجه في ما صنعه الأستاذ (دامت افاداته) من إدراج أسماء عدد ممَّن تعارض فيهم الجرح والتعديل - كجعفر بن محمَّد بن مالك والحسن بن الحسين اللؤلؤي وسهل بن زياد - وكذلك بعض من بنى (دامت افاداته) بنفسه على وثاقتهم - كمحمَّد بن عيسى ابن عبيد وسالم بن مكرم - في ضمن الأشخاص الاثنين والستين ممَّن روي عنهم في كامل الزيارات وقد ضُعّفوا في كلمات سائر الرجاليين كلاً أو بعضاً.

فإنَّ توثيق بعض الرجاليين لعدد من هؤلاء - وموافقته (دامت افاداته) لهم على ذلك في بعضهم - لا يغيّر شيئاً من حقيقة أنَّ توثيق ابن قولويه لأزيد من ستين راوياً ممَّن ورد تضعيفهم في كلمات غيره، يعني مخالفته لغيره من الرجاليين - كلاً أو بعضاً - في وثاقة وضعف هذا العدد الكبير من الرواة وهو أمر غريب؛ لأنَّه ممَّا لم يتفق مثله لأيّ رجاليّ آخر، بل غاية ما اتفق هو أن يكون بين من يوثّقهم أحدهم عشرة أشخاص - أو أقل أو أكثر بقليل - ممَّن ضعّفهم غيره سواء وافقه في توثيق بعضهم آخر أو لا، وهم في كل الأحوال لا يشكّلون إلّا نسبة ضئيلة جدّاً من مجموع من قام بتوثيقهم.

وهذا الأمر لوحده يشكّل شاهداً قوياً على أنَّه ليس مقصود ابن قولويه بما ذكره في

ص: 330

مقدّمة كتابه هو توثيق جميع رواة أسانيده؛ إذ من المستبعد جدّاً ممَّن يكون عارفاً بأحوال الرجال أن يكون حوالي (10%) من توثيقاته على خلاف ما صدر من سائر أئمَّة الرجال ممَّن سبقوه, ويفترض أنَّه اعتمد عليهم وعلى نظرائه في معلوماته الرجالية أو ممَّن أتوا من بعده وكانوا عيالاً عليه وعلى أمثاله في معرفة أحوال الأصحاب.

وهذا نظير أن تنسب إلى فقيه جليل القدر مجموعة من الفتاوى ويلاحظ أنَّ (10%) منها شاذّة لا قائل بها من الفقهاء أصلاً، أو أنَّه توجد بنسبة (3%) منها فقط موزعة في فتاوى الآخرين، أليس هذا يثير الاستغراب ويدعو إلى التشكيك في صحّة نسبة كل تلك الفتاوى الشاذّة إلى ذلك الفقيه الجليل؟

هذا مضافاً إلى أنَّه يمكن أن يقال: إنَّه إذا كان ابن قولويه قد عمد إلى تأليف كتابه الكامل من خصوص الروايات التي رواها الثقات فلماذا لا نجد أي تميّز لرواة هذه الروايات عن رواة سائر المجاميع الروائية المؤلّفة في موضوع الزيارات وما يلحق بها، كأبواب الزيارات من كتاب الكافي للكليني (قدس سره) وقسم المزار من كتاب التهذيب للشيخ (قدس سره) ؟

ألا يفترض أن نجد عند المقارنة أنَّ رواة الكامل يمتازون عن رواة زيارات الكافي ومزار التهذيب ولو من حيث قلَّة من يكون فيهم مطعوناً عليه في كلمات الرجاليين؟!

كما نجد عند المقارنة بين أحاديث كتاب منتقى الجمان للشيخ حسن نجل الشهيد الثاني (قدس سرهما) المخصّص لذكر الأحاديث الصحاح والحسان وبين أحاديث كتاب الوافي للفيض الكاشاني (قدس سره) الذي أورد فيه عامَّة روايات الكتب الأربعة أنَّ رواة أحاديث المنتقى يمتازون عن رواة أحاديث الوافي من حيث إنَّهم من الإمامية الموثقين أو الممدوحين وقلّما يوجد فيهم من طعن فيه أحد الرجاليين، بخلاف من ورد ذكرهم في الوافي فإنَّ فيهم الإمامي وغيره والموثّق وغيره والممدوح وغيره.

ص: 331

وبالجملة: متى تقيّد المؤلّف بإيراد روايات الثقات خاصّة فلا بدَّ أن يتميّز مؤلّفه عن سائر المؤلّفات المماثلة له في الموضوع، بأن يكون الرواة فيه مختلفين عن غيرهم من حيث سلامتهم - إلّا النادر منهم - من الجرح والطعن في كلمات الآخرين، وهذه الميزة لا نجدها بوجه في كتاب الكامل، بل نجد على العكس من ذلك أنَّ العديد ممَّن وردت رواياتهم في هذا الكتاب هم ممَّن قلّ أن يضاهيهم أحد في الضعف والسقوط، كعبد الله ابن عبد الرحمن الأصم الذي قال عنه النجاشي: (ضعيف غال ليس بشيء)، وقد أورد له ابن قولويه ما يزيد على ثلاثين رواية! والظاهر أنَّ مصدرها كتابه في الزيارات الذي قال عنه ابن الغضائري: (يدلّ على خبث عظيم ومذهب متهافت).

وكيونس بن ظبيان الذي عدّه الفضل بن شاذان من الكذّابين المشهورين، وقال عنه النجاشي: (ضعيف جدّاً لا يلتفت إلى ما رواه، كل كتبه تخليط) وقد أخرج له ابن قولويه خمس روايات!

وكمحمَّد بن علي القرشيّ الذي عدَّه الفضل بن شاذان من الكذّابين المشهورين أيضاً، وقال عنه النجاشي: (ضعيف جدّاً فاسد الاعتقاد لا يعتمد في شيء)، وقد أورد له ابن قولويه سبع روايات!

والحاصل: أنَّ عدم تميّز كتاب الكامل عن سائر كتب المزار في عدد من سلم من رواته عن الطعن في كلمات الرجاليين مؤشّر واضح آخر إلى أنَّ مؤلّفه (رحمة الله) لم يقصد بما أورده في مقدّمته توثيق جميع رواته، فليتدبّر.

هذا في ما يتعلَّق بتوضيح مرام الأستاذ (دامت افاداته) .

وأورد في ما يأتي نصّ ما ذكره الكاتب مع التعقيب على كلّ مقطع بما يناسبه.

ص: 332

قال بعد إيراد ما ذكره (دامت افاداته) في الوجه الرابع:

(قلت: بعد مراجعة هؤلاء تبيَّن أنَّ كيلهم بمكيال واحد ليس بسديد؛ وذلك لأنَّ..

1 - ثمانية منهم لا ظهور في كلمات الرجاليين على عدم وثاقتهم وإنَّما قدحهم راجع إلى جهات أخرى, وهم..

الحسن بن راشد: (قال النجاشي: (ضعيف)، ولكن قال ابن الغضائري: (ضعيف في روايته)، وكثيراً ما يرجع تضعيف الغضائري إلى ضعف الرواية بمعنى اسم المصدر لا المصدر، نظير حديثه يعرف وينكر، حديثه نعرفه وننكره، حديثه مضطرب، حديثه غير نقي).

أقول: الحسن بن راشد الذي قال فيه النجاشي: (ضعيف) هو الطفاوي وكان من الطبقة السادسة ولم يرد ذكره في كامل الزيارات، وأمَّا الذي وقع في أسناده وقد ضعّفه ابن الغضائري فهو مولى بني العباس الذي يروي عنه حفيده القاسم بن يحيى وكان من الطبقة الخامسة، فلا ينبغي الخلط بينهما.

ومهما يكن فإنَّ ما أشير إليه من أنَّ قول ابن الغضائري: (ضعيف في روايته) لا يدلّ على عدم وثاقة الرجل غير تام، فإنَّه في مقابل قولهم: (ثقة في حديثه)، والمتبادر منه إرادة ضعف الشخص في نقله لا ضعف ما يرويه من الروايات من حيث اشتمالها على المناكير ونحوها. بالإضافة إلى أنَّ ضعف الروايات بهذا المعنى لا يجتمع مع وثاقة راويها إذا لم يحتمل أن يكون غيره هو العلَّة فيها، ولذلك لا نجد في كلمات الرجاليين الجمع بينهما في شيء من الموارد، فلا يقال: (ثقة في نفسه ولكن يروي المناكير)، وإنَّما يقال: (ثقة في نفسه ولكن يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل) أو نحو ذلك.

وبذلك يعرف أنَّ قولهم: (حديثه يعرف وينكر) أو (حديثه غير نقي) أو (حديثه مضطرب) يدلّ على القدح في الوثاقة، فإنَّ الأوَّل ظاهر في كون المراد به هو أنَّه يروي

ص: 333

أحياناً ما يصادم العقل أو يخالف الكتاب أو السنَّة ممَّا لا يمكن القبول به إلّا بضرب من التأويل، ففيه إشارة واضحة إلى اتّهامه في نقله، وليس المراد به هو أنَّه قد يروي ما لا تقبله العقول المتعارفة - كما قد يدّعى - فإنَّه على خلاف الظاهر كما لا يخفى.

والثاني ظاهر في كون المراد من عدم النقاء هو الاشتمال على ما ينكر بالمعنى المتقدّم.

والثالث ظاهر في كون المراد به هو الاضطراب في النقل والحكاية، وهو ممَّا ينافي الوثاقة قطعاً.

ويرشد إليه قول ابن الغضائري في إسماعيل بن مهران السكوني: (ليس حديثه بالنقي يضطرب تارة ويصلح أخرى)، فإنَّه يدلّ بقرينة المقابلة على أنَّ المراد باضطراب الحديث هو الخلل في النقل وعدم سلامته وهو لا ينسجم مع الوثاقة.

ويؤيّده قول النجاشي في ترجمة الحسين بن أحمد البوشنجي: إنَّه كان (مضطرب المذهب، وكان ثقة في ما يرويه)، فإنَّه يلوح منه أنَّه أراد بالتنصيص على وثاقته نفي كونه مضطرب الرواية كما كان مضطرب المذهب.

(وزياد بن مروان القندي أحد أركان الوقف كما في الكشّي، والمستشكل ذهب إلى عدم قدحه في الوثاقة بل بنى على وثاقته، لاحظ قبسات من علم الرجال ج:1 ص:62).

أقول: البناء على ضعف زياد بن مروان ليس لمجرّد كونه من أركان الوقف، قال السيد بحر العلوم (قدس سره): (في الوجيزة: إنَّه موثق، جمعاً بين الوقف والتوثيق. ويشكل التوثيق بأنَّ المنقول عنه أنَّه سمع النصّ وأظهره ثمَّ خالفه وأنكره، وهذا لا يجتمع مع الوثاقة. قال الصدوق في العيون: حدّثنا أبي (رضی الله عنه) قال: حدّثنا سعد بن عبد الله عن محمَّد بن عيسى بن عبيد عن زياد بن مروان القندي قال: دخلت على أبي إبراهيم (علیه السلام) وعنده علي ابنه (علیه السلام) فقال لي: يا زياد، هذا كتابه كتابي وكلامه كلامي ورسوله رسولي وما قال فالقول قوله. ثمَّ قال: قال مصنّف هذا الكتاب: إنَّ زياد بن مروان روى هذا

ص: 334

الحديث ثمَّ أنكره بعد مضي موسى (علیه السلام) وقال بالوقف، وحبس ما كان عنده من مال موسى بن جعفر (علیه السلام) والطريق إليه صحيح؛ إذ ليس فيه من يتوقّف في شأنه سوى العبيدي. والأصحّ توثيقه.

وروى الشيخ (قدس سره) في كتاب الغيبة: عن ابن عقدة عن علي بن الحسن بن فضّال عن محمَّد بن عمر بن يزيد وعلي بن أسباط جميعاً قالا: قال لنا عثمان بن عيسى الرواسي: حدّثني زياد القندي وابن مسكان قالا: كنّا عند أبي إبراهيم (علیه السلام) إذ قال: يدخل عليكم الساعة خير أهل الأرض، فدخل أبو الحسن الرضا (علیه السلام) وهو صبيّ, فقلنا: هذا خير أهل الأرض؟ ثم دنا فضمّه إليه، فقبّله، وقال: يا بني تدري ما قال ذان؟ قال: نعم يا سيدي، هذان يشكّان فيّ. قال علي بن أسباط: فحدّث بهذا الحديث الحسن بن محبوب. فقال: بتر الحديث، لا ولكن حدّثني علي بن رئاب: أنَّ أبا إبراهيم (علیه السلام) قال لهما: إن جحدتماه حقّه أو خنتماه فعليكما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، يا زياد لا تنجب أنت وأصحابك أبداً. قال علي بن رئاب: فلقيت زياد القندي، فقلت له: بلغني أنّ أبا إبراهيم (علیه السلام) قال لك كذا وكذا. فقال: أحسبك قد خولطت، فمرّ وتركني، فلم أكلمه ولا مررت به. قال الحسن بن محبوب: فلم نزل نتوقع لزياد دعوة أبي إبراهيم (علیه السلام) حتى ظهر منه أيام الرضا (علیه السلام) ما ظهر، ومات زنديقاً.

وفى الروايتين دلالة واضحة على جحده للنصّ الصريح ومعاندته للحقّ الصحيح، وكذبه في الرواية وموته على الزندقة، والرواية الأخيرة معتبرة الإسناد كالأولى، فإنَّ الطريق إلى ابن محبوب موثّق.

وأيضاً فالتوثيق إنَّما يجتمع مع فساد المذهب لو كان السبب فيه اعتراض الشبهة، والمعروف في سبب وقف زياد وأضرابه من رؤساء الواقفة خلاف ذلك. قال الشيخ في كتاب الغيبة: روى الثقات أنَّ أوَّل من أظهر الوقف علي بن أبي حمزة البطائني وزياد بن

ص: 335

مروان القندي وعثمان بن عيسى الرواسي، طمعوا في الدنيا ومالوا إلى حطامها واستمالوا قوماً فبذلوا لهم شيئاً ممَّا اختانوه من الأموال، نحو حمزة بن بزيع وابن المكاري وكرام الخثعمي وأمثالهم... وقد استبان بما ذكرنا من كلام الأصحاب ورواياتهم ضعف زياد ابن مروان بالوقف وجحد النصّ والميل إلى الحطام واستمالة الناس إلى الباطل والخيانة في المال والدين. ومن هذا شأنه فلا ينبغي التوقّف فيه، ولا الالتفات إلى ما يرويه)(1).

هذا بعض كلام السيد بحر العلوم (قدس سره) وهو لا يخلو من وجاهة، وإن كان يظهر من الأستاذ (دامت افاداته) البناء على وثاقة الرجل لرواية ابن ابي عمير عنه، ولكن يمكن أن يقال: إنَّها كانت قبل انحرافه، فليتدبّر.

(وعبد الله بن أحمد الرازي: استثنى ابن الوليد روايته من نوادر الحكمة إلّا أنَّ الصدوق روى عنه في معاني الأخبار والخصال، ولعلّه كذلك في الفقيه في بيان طريقه إلى داود الرقّي، فراجع(2)).

أقول: إنَّ استثناء ابن الوليد روايته من كتاب نوادر الحكمة ظاهر في عدم وثاقة الرجل عنده، ويشهد له ما قاله أبو العباس ابن نوح بشأن من استثنى ابن الوليد رواياتهم من أنَّه (قد أصاب شيخنا أبو جعفر.. في ذلك كلّه.. إلّا في محمَّد بن عيسى بن عبيد فلا أدري ما رابه فيه؛ لأنَّه كان على ظاهر العدالة والثقة). فإنَّ التعليل في الذيل يدلّ على عدم وثاقة بقية من استثنيت رواياتهم - غير العبيدي - ولا أقلّ من بناء ابن

ص: 336


1- رجال السيد بحر العلوم: 2/355.
2- يظهر منه عدم الجزم بذلك ومنشؤه أنَّ المذكور في المطبوع من الفقيه (4/95) (المشيخة) هكذا: (محمَّد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد الرازي)، ولكنّ الصحيح كما ورد في الوسائل (30/50): (محمَّد ابن أحمد عن عبد الله بن أحمد الرازي)، ومحمَّد بن أحمد هو ابن يحيى صاحب نوادر الحكمة التي استثنيت روايات عبد الله بن أحمد الرازي من كتابه.

نوح على ذلك، وقد وافقه عليه النجاشي.

وبالجملة: تضعيف ابن الوليد ومن وافقه للرجل واضح، وأمّا رواية الصدوق (قدس سره) عنه فلا تدلّ على وثاقته عنده، فإنّه لا يتقيد بالرواية عن الثقات خاصّة وإن توهم ذلك بعضهم. ويشهد له أنّه ذكر في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) في ذيل بعض الروايات ما لفظه(1): (كان شيخنا محمَّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضی الله عنه) سيّء الرأي في محمَّد بن عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث, وإنَّما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب؛ لأنَّه كان في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي).

فإنَّه يظهر من هذه العبارة أنَّ الصدوق (قدس سره) كما يروي أحاديث الأشخاص الثقات كذلك يروي أحاديث الضعفاء إذا عرضت على شيخه ابن الوليد فلم ينكرها ورواها له.

ويتضح أيضاً ممَّا ذكره في مواضع من فهرسته - كما ورد في فهرست الشيخ (قدس سره) - أنَّه كان يروي أحاديث الضعفاء إذا خلت عن التخليط والغلوّ ولم تكن ممَّا انفردوا بها، فقد روى كتب محمَّد بن علي الصيرفي أبي سمينة باستثناء ما كان فيها من تخليط أو غلوّ أو تدليس أو ينفرد به ولا يعرف من غير طريقه، كما روى كتب محمَّد بن سنان إلّا ما كان فيها من تخليط وغلوّ، وأيضاً ذكر بشأن محمَّد بن عيسى بن عبيد أنَّه لا يروي ما يختص بروايته واستثنى من روايات محمَّد بن أحمد بن يحيى ما كان فيها من تخليط، معيِّناً ذلك في روايات عدد من الضعفاء والروايات المرسلة.

والحاصل: أنَّ إيراد الصدوق (قدس سره) رواية شخص في كتبه - حتى الفقيه فضلاً عن غيره - لا يدلّ على وثاقته عنده، بل عمله بالرواية لا يدلّ على ذلك أيضاً، فإنَّه يجوز أن يكون من جهة وثوقه بها لبعض القرائن، إذ كان المدار عندهم على حجيّة الخبر الموثوق

ص: 337


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 2 /24.

به. ولمزيد التوضيح راجع القبسات(1) في ترجمة محمَّد بن عيسى بن عبيد والبحث عن حجيّة مراسيل الصدوق.

وبما تقدَّم يظهر أنَّ ذكر عبد الله بن أحمد الرازي في عداد من لا ظهور في كلمات الرجاليين في عدم وثاقتهم في غير محلِّه - حتى لو ثبت قبول الصدوق (قدس سره) لروايته - إذ إنَّ استثناء رواياته من نوادر الحكمة يدلّ على القدح في وثاقته عند ابن الوليد وغيره كما تقدَّم.

(وعبد الله بن حمّاد الأنصاري، قال ابن الغضائري: وحديثه يعرف تارة وينكر أخرى ويخرّج شاهداً. وقال النجاشي: من شيوخ أصحابنا، فلاحظ).

أقول: قد تقدَّم آنفاً أنَّ قولهم: (يعرف حديثه تارة وينكر أخرى) يدلّ على القدح من حيث الوثاقة، ولذلك عقّبه بقوله: (ويخرّج شاهداً) أي لا يصلح حديثه للاستدلال به؛ لأنَّه متّهم في نقله، ولكن لا بأس بجعله شاهداً ومؤيّداً. وأمَّا قول النجاشي: إنَّه (من شيوخ أصحابنا) فلا دلالة فيه على مدحه من حيث كونه راوياً للحديث، وإنَّما يدلّ على كونه من المشايخ الذين يتلقّى منهم العلم، وهو لا يقتضي ثبوت وثاقته في النقل بوجه. مع أنَّه لو اقتضى ذلك لعارضه قول ابن الغضائري، فلا ينبغي إدراج اسم الرجل في هذا القسم.

(وعلي بن ميمون الصائغ، قال ابن الغضائري: حديثه يعرف وينكر ويجوز أن يخرّج شاهداً، إلّا أنَّه لا يبعد حسنه، لما رواه الكشّي بإسناده عن جعفر بن بشير عنه، فراجع).

أقول: تقدَّم آنفاً أنَّ عبارة ابن الغضائري تدلّ على الطعن في الوثاقة، وأمَّا الاستدلال برواية علي بن ميمون على حُسْن نفسه ففي غاية الغرابة. مضافاً إلى أنَّه لا دلالة فيها على الحسن من الجهة المبحوث عنها بوجه؛ إذ ليس فيها سوى دعواه أنَّه قال

ص: 338


1- قبسات من علم الرجال: 1/369، 2/36.

للصادق (علیه السلام): إنّي أدين الله بولايتك وبولاية آبائك وأجدادك فادع الله أن يثبّتني، فقال له (علیه السلام): (رحمك الله، رحمك الله). فإنَّ دعاء الإمام (علیه السلام) لأحد بالرحمة لا يدلّ على مدحه من حيث رواية الأحاديث ليقتضي حجيّة نقله.

(ومحمَّد بن صدقة، قال الشيخ: غالٍ، ولا تتوهم أنَّ الغلوّ يتنافى مع الوثاقة، لوضوح أنَّ للغلوّ درجات ومراتب ليست سواء).

أقول: ينبغي التمييز بين ما يراد بالغلوّ في كلمات المتقدّمين وما يراد به في كلمات المتأخّرين.

قال الأستاذ (دامت افاداته) (1): يتداول في كلمات الرجاليين كالكشّي والشيخ والنجاشي وابن الغضائري توصيف العديد من الرواة بأنَّهم من الغلاة، وبنى غير واحد من المتأخّرين على أنَّ المراد بالغلوّ عندهم هو ما يعمّ الاعتقاد في الأئمَّة (علیهم السلام) بالمقامات العالية، واستشهدوا لذلك بما حكاه الصدوق(2)عن

شيخه ابن الوليد من أنَّ أوَّل درجة في الغلوّ هو نفي السهو عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).

ولكنّ الصحيح - كما نبَّه عليه المحقق التستري (قدس سره) (3)- أنَّ المقصود به هو الاعتقاد في الأئمَّة (علیهم السلام) بالربوبية أو النبوة أو الاعتقاد بكفاية محبّتهم عن أداء الفرائض واجتناب الكبائر.

ويشهد لهذا عدد من الروايات وجملة من كلمات الأصحاب..

فقد روى الصدوق(4)بإسناده عن إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا (علیه السلام):

ص: 339


1- قبسات من علم الرجال: 1/35.
2- من لا يحضره الفقيه: 1/235.
3- قاموس الرجال: 1/66.
4- عيون أخبار الرضا (علیه السلام): 1/272.

يا ابن رسول الله إنَّ عندنا أخباراً في فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) وفضلكم أهل البيت وهي من رواية مخالفيكم ولا نعرف مثلها عندكم, أفندين بها؟ فقال: يا ابن أبي محمود.. إنَّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلوّ، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا.

وروى الكشّي(1)بإسناده عن أبي العلاء الخفّاف عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين

(علیه السلام): أنا وجه الله، أنا جنب الله، وأنا الأوَّل، وأنا الآخر، وأنا الظاهر، وأنا الباطن، وأنا وارث الأرض، وأنا سبيل الله وبه عزمت عليه). فقال معروف بن خرّبوذ: ولها تفسير غير ما يذهب فيها أهل الغلوّ.

وروى السيد ابن طاووس(2) بإسناده عن الحسين بن أحمد المالكي قال: (قلت لأحمد بن هليل الكرخي: أخبرني عمّا يقال في محمَّد بن سنان من أمر الغلو. فقال: معاذ الله، هو والله علَّمني الطهور، وحبس العيال، وكان متقشّفاً متعبّداً).

وقال أبو عمرو الكشّي(3):

وقالت فرقة بنبوة محمَّد بن نصير النميري، وذلك أنَّه ادعى أنَّه نبي رسول، وأنَّ علي بن محمَّد العسكري (علیه السلام) أرسله، وكان يقول بالتناسخ والغلوّ في أبي الحسن (علیه السلام)، ويقول فيه بالربوبية ويقول بإباحة المحارم، ويحلّل نكاح الرجال بعضهم بعضاً في أدبارهم، ويقول: إنَّه من الفاعل والمفعول به أحد الشهوات والطيبات، وأنَّ الله لم يحرّم شيئاً من ذلك.

ص: 340


1- اختيار معرفة الرجال: 2/471.
2- فلاح السائل: 13.
3- اختيار معرفة الرجال: 2/805.

وذكر الكشّي(1) أنَّه سأل محمد بن مسعود العياشي عن أحوال عدد من الرجال، فقال في ضمن جوابه: (وأمَّا علي بن عبد الله بن مروان فإنَّ القوم - يعني الغلاة - يمتحنون في أوقات الصلاة، ولم أحضره في وقت صلاة).

وروى ابن الغضائري(2) عن الحسن بن محمَّد بن بندار القمي قال: سمعت مشايخي يقولون: إنَّ محمَّد بن أورمة لمّا طعن عليه بالغلوّ اتفقت الأشاعرة ليقتلوه، فوجدوه يصلّي الليل من أوَّله إلى آخره ليالي عديدة فتوقّفوا عن اعتقادهم.

فهذه النصوص والكلمات تشير بوضوح إلى أنَّه كان معنى الغلوّ عند المتقدّمين هو الاعتقاد في الأئمَّة (علیهم السلام) بالربوبية ونحو ذلك أو الاعتقاد بكفاية معرفتهم (علیهم السلام) وعدم الحاجة إلى الإتيان بالصلاة والصيام ولا غيرهما من الفرائض، وأيضاً عدم الضير في ممارسة المحرّمات حتى ما يمسّ العرض والشرف!

وأمَّا ما تقدَّم من أنَّ ابن الوليد كان يعدّ نفي السهو عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أوَّل درجة في الغلوّ، فلا يبعد أن يكون المراد به أنَّ الالتزام بعدم وقوع السهو من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أوَّل خطوة في طريق الغلوّ في الاعتقاد لا أنَّه بنفسه غلوّ، ولو سلّم أنَّ هذا هو المراد به فهو لا يقتضي كون الغلوّ في كلمات الآخرين بمعنى الاعتقاد في المعصومين بالمقامات العالية كما ادّعي.

ثمَّ إنَّ الغلوّ لا ينفك عادة عن الكذب..

أوَّلاً: من جهة أنَّ الغالي بالمعنى المتقدّم يبيح المحرمات، ومن أهونها عنده الكذب.

وثانياً: من جهة أنَّ الغالي لا يمكنه الاستغناء عن الكذب في تثبيت مذهبه وترويجه، كما هو واضح لمن تتبّع أحوال كبار الغلاة في كتب الرجال، حيث يلاحظ أنَّهم يكذبون

ص: 341


1- المصدر السابق: 2/812.
2- رجال ابن الغضائري: 94.

على الأئمَّة (علیهم السلام) وينسبون إليهم الغرائب والأعاجيب دعماً لعقائدهم الفاسدة.

وعلى ذلك يكاد أن يكون الجمع بين كون الرجل غالياً وكونه ثقة جمعاً بين متنافيين.

(والمعلّى بن محمَّد البصري، قال ابن الغضائري: يعرف حديثه وينكر ويروي عن الضعفاء ويجوز أن يخرّج شاهداً. ولكن في الفهرست في ترجمة أبان بن عثمان رواية ابن الوليد - المعروف حاله - عنه).

أقول: تقدَّم أنَّ عبارة ابن الغضائري دالّة على القدح من حيث الوثاقة، وكذلك قول النجاشي في الرجل (مضطرب الحديث).

وأمَّا رواية ابن الوليد عنه مباشرة فلم تثبت، لوقوع السقط في الموضع المذكور من الفهرست، فإنَّ ابن الوليد من الطبقة التاسعة والمعلّى من السابعة فلا بدّ من الواسطة بينهما، وهو الحسين بن محمَّد بن عامر في عدَّة مواضع منها: طريق الصدوق إلى المعلّى في المشيخة، ومنها: طريق النجاشي إلى سالم بن مكرم في كتابه.

هذا مضافاً إلى أنَّ رواية ابن الوليد عن شخص لا تدلّ على وثاقته عنده، لعدم الدليل على تقيّده بعدم الرواية إلّا عن الثقات. وأمَّا استثناؤه لروايات عدد من الرجال من كتاب نوادر الحكمة فلا يعني وثاقة الباقين كما هو موضح في محلِّه.

(والمنصور بن العباس، قال النجاشي: مضطرب الأمر).

أقول: الاضطراب إمَّا أن يكون في الحديث والرواية وهو ينافي الوثاقة كما مرَّ قريباً، وإمَّا أن يكون في المذهب فيقتضي الانحراف في العقيدة، وإمَّا أن يكون في كليهما كما ذكره النجاشي بالنسبة إلى المعلّى بن محمَّد البصري. وينبغي أن يكون المراد بكون المنصور ابن العباس مضطرب الأمر هو الأخير من جهة البناء على إطلاق الكلام، إذ لولاه يكون مجملاً، ومقتضى الأصل عند دوران الأمر بين الإطلاق والإجمال هو الأوَّل، فليتدبّر.

وهكذا يتبيَّن أنَّ جميع الرواة الثمانية الذين ادعى الكاتب أنَّه لا ظهور في كلمات

ص: 342

الرجاليين في عدم وثاقتهم هم ممَّن يمكن استظهار القدح في وثاقتهم من بعضها، سواء بني على ذلك بعد التحقيق والتمحيص أو لا.

(وأربعة عشر منهم قد تعارض فيهم الجرح والتعديل).

أقول: قد أشار الأستاذ (دامت افاداته) إلى من تعارض فيه الجرح والتعديل من المذكورين عند إيراد اسمه، كجعفر بن محمَّد بن مالك والحسن بن الحسين اللؤلؤي وداود بن كثير الرقّي وسالم بن مكرم وسعد بن طريف وسهل بن زياد ومحمَّد بن أورمة ومحمَّد بن عيسى بن عبيد والمفضّل بن عمر.

فلم يغفل (دامت افاداته) عن تعارض أقوال الرجاليين بشأن هؤلاء - ليكلّف الكاتب نفسه ببيانه - ولكن بالرغم من ذلك فقد أورد أسماءهم للوجه الذي تقدّم في توضيح مرامه، فراجع.

(وهم: أحمد بن الحسين بن سعيد، برأه ابن الغضائري من الغلوّ).

أقول: من الغريب عدّ الرجل ممَّن تعارض فيه الجرح والتعديل، فإنَّ جرحه معلوم؛ إذ استثناه ابن الوليد من رجال نوادر الحكمة ووافقه عليه الصدوق وابن نوح، والظاهر أنَّه هو مستند ما ذكره النجاشي من تضعيف القميّين له وما ذكره الشيخ من تضعيف ابن بابويه إياه. وأمَّا تعديله فأين هو في كلماتهم؟!

أقصى ما هناك هو أنَّ ابن الغضائري حكى عن القميّين أنَّه كان غالياً وعلّق عليه بقوله: (وحديثه - في ما رأيته - سالم)، وهذا لا يدلّ إلّا على عدم تمثّل الغلوّ فيما اطلع عليه ابن الغضائري من رواياته، وهو لا يصلح دليلاً قاطعاً على نفي الغلوّ عنه، ولذلك عقّبه بقوله: (والله أعلم)، مضافاً إلى تصريح النجاشي والشيخ بأنَّ حديثه يعرف وينكر، ممَّا يقتضي عدم نقائه من الغلوّ والتخليط.

ويضاف إلى هذا: أنَّ العبرة في المتّهمين بالغلو إنَّما هي بأعمالهم دون رواياتهم،

ص: 343

ولذلك يلاحظ أنَّ محمَّد بن أورمة الذي اتّهم بالغلوّ لم يشفع له في دفع هذا الاتهام عنه كون رواياته صحيحة خالية من معاني الغلوّ والتخليط، ولكن لما بعث إليه من يفتك به ووجده يصلّي من أوَّل الليل إلى آخره توقّف عن قتله حيث تبيّن له أنَّه ليس غالياً؛ لأنَّ الغالي لا يصلّي كما مرّ.

(وجعفر بن محمَّد بن مالك، وثّقه الشيخ).

أقول: نعم قد وثّقه الشيخ في كتاب الرجال - بالرغم من اعترافه بأنَّه روى في مولد القائم (علیه السلام) أعاجيب! - ولكن ينبغي أن يعدّ ذلك هفوة منه (قدس سره) أو ممَّن اعتمد عليه في توثيقه، فإنَّه يظهر من النجاشي أنَّ ضعف الرجل كان بمثابة من الوضوح والجلاء حتى أنَّه استغرب مجرد أن يروي عنه اثنان من الأجلّاء، قال (قدس سره): (جعفر بن محمَّد بن مالك.. كان ضعيفاً في الحديث. قال أحمد بن الحسين: كان يضع الحديث وضعاً ويروي عن المجاهيل، وسمعت من قال: كان أيضاً فاسد المذهب والرواية، ولا أدري كيف روى عنه شيخنا النبيل الثقة أبو علي ابن همام وشيخنا الجليل الثقة أبو غالب الزراري (رحمة الله) وليس هذا موضع ذكره). وقال ابن الغضائري: (كذّاب متروك الحديث جملة، وكان في مذهبه ارتفاع، ويروي عن الضعفاء والمجاهيل، وكل عيوب الضعفاء مجتمعة فيه).

(والحسن بن الحسين اللؤلؤي، وثّقه النجاشي).

أقول: ذكر النجاشي في ترجمة محمَّد بن أحمد بن يحيى أنَّ ابن الوليد كان يستثني من روايته ما رواه عن جماعة منهم الحسن بن الحسين اللؤلؤي في ما ينفرد به، ثمَّ حكى عن ابن نوح أنَّ تلميذه الصدوق قد تبعه في ذلك وأنَّهما قد أصابا في كل من استثنياه إلّا في محمَّد ابن عيسى بن عبيد (لأنَّه كان على ظاهر العدالة والثقة)، وهذا الكلام يقتضي عدم وثاقة الآخرين - ومنهم اللؤلؤي - في نظر الجماعة، وظاهر النجاشي موافقته لابن نوح في ذلك.

ولكنّ الملاحظ أنَّه ترجم للحسن بن الحسين اللؤلؤي، وقال: (كوفي ثقة كثير الرواية

ص: 344

له كتاب مجموع نوادر). وعلَّق المحقّق التستري (قدس سره) على هذا قائلاً: (التحقيق أنَّ من وثّقه النجاشي غير من ضعّفه ابن الوليد وابن بابويه وابن نوح وقرّرهم النجاشي.. فإنَّ الحسن بن الحسين اللؤلؤي اثنان كما يدلّ عليه قول الفهرست في باب أحمد - أحمد بن الحسن بن الحسين اللؤلؤي ثقة وليس بابن المعروف بالحسن بن الحسين اللؤلؤي - ثمَّ أنهى طريقه إليه بالحسن بن الحسين اللؤلؤي، ومثله النجاشي، فإنَّ كلامهما دال على أنَّ الحسن بن الحسين اللؤلؤي اثنان: أحدهما والد أحمد ذاك والثاني راويه وهو المعروف الذي استثني، وحيث إنَّه ليس في النجاشي ذكر طريق إلى الذي عنونه يحمل كلامه على والد أحمد صوناً لكلامه عن التناقض، فلو كان أراد المعروف وعقيدته فيه التوثيق كانت القاعدة أن يرسل ذلك ويشير إلى الاختلاف فيه بعد تضعيف أولئك الفحول).

وبناءً على ما أفاده (قدس سره) عليه فليس اللؤلؤي الذي ضعّفه ابن الوليد وغيره ممَّن تعارض فيه الجرح والتعديل، بل هو مضعّف قولاً واحداً.

ولكنّ السيد الخوئي (قدس سره) لم يرتضِ تعدّد اللؤلؤي قائلاً(1): الصحيح أنَّ الحسن بن الحسين اللؤلؤي اسم لرجل واحد وهو الراوي عن أحمد، وأمّا والد أحمد فهو لم يوصف باللؤلؤي، فإنَّ اللؤلؤي وصف لأحمد نفسه باعتبار أنَّه صنّف كتاب اللؤلؤة لا أنَّه وصف والده.

وما أفاده (قدس سره) وجيه، ولا سيّما أنَّ النجاشي قال في من ترجمه: إنَّه كثير الرواية، مع عدم العثور على رواية لوالد أحمد المذكور في شيء من جوامع الحديث بخلاف من استثنيت رواياته من نوادر الحكمة، فإنَّه كثير الرواية كما لا يخفى.

وعلى ذلك فاللؤلؤي المعروف هو ممَّن تعارض فيه الجرح والتعديل، ولكن من رجاليّ واحد هو النجاشي، وقد التزم بعضهم في مثله بتساقط قوليه بالتعارض وكون

ص: 345


1- معجم رجال الحديث: 4/319.

المرجع قول غيره من المضعّفين، وهذا بحث مفصَّل، فراجعه في القبسات(1).

وعلى كلِّ حال يمكن أن يدّعى أنَّ هذا خارج عن محلِّ الكلام؛ إذ مورده ما إذا تعارضت أقوال الرجالين - لا رجالي واحد - في جرح راوٍ وتعديله، فليتأمّل.

(وداود بن كثير الرقّي، وثّقه الشيخ).

أقول: وقد وثّقه المفيد وغيره أيضاً، ولكن قدح فيه النجاشي وابن الغضائري قدحاً شديداً.

(وسالم بن مكرم أبو سلمة، وثّقه النجاشي، ومن الغريب أنَّ المستشكل بنى على وثاقته أيضاً، فلاحظ بحوث في شرح مناسك الحج ج:3 ص:385).

أقول: وقد وثّقه ابن أبي عمير أيضاً بروايته عنه كما شهد ابن فضّال بصلاحه، ولم يضعّفه إلّا الشيخ، وقد رجّح الأستاذ (دامت افاداته) وثاقته. ولا غرابة في ذلك في حدّ ذاته، ويبدو أنَّ مقصود الكاتب هو الاستغراب من ذكر الرجل بعد البناء على وثاقته في عداد غيره ممَّن ضعّفهم الرجاليون، ولكن لا محلّ له مع الالتفات إلى مرامه (دامت افاداته) الذي تقدَّم شرحه آنفاً، فليلاحظ.

(وسعد بن طريف، قال الشيخ: صحيح الحديث).

أقول: قال ابن الغضائري: ضعيف، وقال النجاشي: يعرف وينكر. وأمَّا دلالة قول الشيخ (قدس سره) على وثاقته فهي محلّ خلاف بينهم، قال المحقّق الشيخ محمَّد سبط الشهيد الثاني (قدس سرهما) (2): إنَّه يحتمل أن يكون المراد به كون حديثه معتمداً، لظهور قرائن على ذلك وإن كان في نفسه ليس بثقة. وممَّا يؤيّد المغايرة بين الأمرين الجمع بينهما في موارد شتّى في كتب الرجال، فتراهم يقولون: فلان ثقة صحيح الحديث.

ص: 346


1- قبسات من علم الرجال: 1/285 وما بعدها.
2- استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار: 3/271-272.

ولكنّ الإنصاف أنَّه لا يمكن المساعدة عليه، فإنَّه إذا كان توصيف حديث الراوي بالصحة مختصّاً بكتاب معيّن كما في قول النجاشي في الحسن بن علي بن النعمان: (له كتاب نوادر صحيح الحديث) أمكن أن يراد به ما ذكره

(قدس سره)، وأمَّا مع توصيف حديثه بذلك بصورة عامَّة فلا بدَّ أن يراد به خلوّه من التخليط والمناكير ونحوها، اللّهم إلّا أن يقال: إنَّ هذا لا يلازم الوثاقة، فليتأمّل.

(وسهل بن زياد الآدمي، وثّقه الشيخ في الرجال وإن عارض نفسه).

أقول: هناك من شكّك في اشتمال كتاب الرجال على التوثيق؛ لعدم حكايته عنه في رجال ابن داود بالرغم من أنَّه كان عنده هذا الكتاب بخط الشيخ (قدس سره)، ورجّح السيد الخوئي (قدس سره) كون التوثيق سهواً من قلم الشيخ (قدس سره) ؛ لأنَّه صرّح في الاستبصار بأنَّ الرجل ضعيف عند نقّاد الأخبار، الظاهر في أنَّ ضعفه كان متسالماً عليه بينهم، ومع ذلك كيف يمكن أن يوثّقه في موضع آخر؟!

ولكنّ كلا البيانين غير تامّ، كما أوضحه الأستاذ (دامت افاداته) في القبسات(1)، فراجع.

نعم, يمكن أن يقال: إنَّ هذا من موارد تعارض الجرح والتعديل في كلام رجاليّ واحد، فيجري عليه ما تقدَّم قريباً في ترجمة الحسن بن الحسين اللؤلؤي، فليراجع.

(ومحمَّد بن أورمة، برأه ابن الغضائري من الغلوّ، ويحتمل أنَّه كان مستقيماً لما نقله الكشّي عن ابن الوليد في ترجمته، فراجع).

أقول: الرجل ممَّن ضعّفه الشيخ في كتاب الرجال، وقال في الفهرست: إنَّ في رواياته تخليطاً، وليس في كلام ابن الغضائري دلالة على وثاقته(2).

ص: 347


1- قبسات من علم الرجال: 1/292.
2- تجدر الإشارة إلى أنَّه ورد في المطبوع من كتاب الرجال لابن الغضائري (ص:93) هكذا: (رأيت كتاباً من أبي الحسن علي بن محمَّد (علیهما السلام) إلى القميّين في براءته ممَّا قذف به وحسن عقيدته وقرب منزلته) وأشير في الهامش إلى اختلاف النسخ في ذيل هذه العبارة، والملاحظ خلوّ ما نقله العلّامة في خلاصة الرجال (ص: 253), وابن داود في رجاله (ص:500) عن ابن الغضائري من تمام ما في الذيل بعد قوله: (قذف به).

وأمَّا ما حكاه النجاشي - وليس الكشّي - عن جماعة من شيوخ القميّين عن ابن الوليد من أنَّه قال: (محمَّد بن أورمة قد طعن عليه بالغلوّ، فكل ما كان في كتبه ممّا وجد في كتب الحسين بن سعيد وغيره فقل به، وما تفرّد به فلا تعتمده) فلم يظهر كيف يستفاد منه استقامة الرجل؟ بل هو أقرب إلى الدلالة على الطعن في وثاقته من حيث النهي عن الاعتماد على ما يتفرد بنقله.

(ومحمَّد بن سنان، وثّقه المفيد في الإرشاد ورسالة لمح البرهان التي ينقل عنها السيد ابن طاووس وإن عارض نفسه في موضع آخر).

أقول: أمَّا توثيقه في لمح البرهان فقد رجع عنه في رسالة جوابات أهل الموصل في العدد والرؤية، قائلاً فيها: إنَّ (محمَّد بن سنان مطعون فيه، لا تختلف العصابة في تهمته وضعفه). وأمَّا توثيقه في الإرشاد ففي كونه مقصوداً له ومعتبراً كلام للمحقّق الشيخ محمَّد سبط الشهيد الثاني (قدس سرهما)، وهو في محلِّه، وقد تعرَّض له الأستاذ (دامت افاداته) في القبسات(1)، فراجع.

وبالجملة: ليس في مقابل تضعيف الرجل والطعن فيه بالغلوّ من قبل عدد من الأعلام كالفضل بن شاذان وأيوب بن نوح والكشّي وابن داود القمي وابن الغضائري والشيخ والنجاشي توثيق معتدّ به للرجل من قبل أيّ من الرجاليين، فلاحظ.

(ومحمَّد بن عيسى بن عبيد، وثّقه الفضل بن شاذان والكشّي والنجاشي وابن نوح وآخرون، والغريب أنَّ المستشكل وثّقه أيضاً، فلاحظ قبسات من علم الرجال ج:1

ص: 348


1- قبسات من علم الرجال: 1/21.

ص:517 !!).

أقول: بل لعلَّ الغريب أنَّ الكاتب لم يتّضح له مرام الأستاذ (دامت افاداته) والضابطة التي اعتمدها في إعداد قائمة المطعون فيهم من رجال كامل الزيارات، فاعتقد أنَّه إذا كان أحد المطعون فيهم موثّقاً في كلمات بعض الرجاليين أو موثّقاً عنده (دامت افاداته) فلا ينبغي إدراج اسمه في تلك القائمة، ولو كان قد اتّضح له مرامه لم يقع منه الاستغراب المذكور.

(والمعلّى بن خنيس، ذكره الشيخ في الممدوحين).

أقول: الرجل ضعّفه النجاشي وابن الغضائري تضعيفاً شديداً، ولكن ذكره الشيخ (قدس سره) في كتاب الغيبة في عداد الوكلاء الممدوحين قائلاً(1): (ومنهم المعلّى بن خنيس، وكان من قوام أبي عبد الله (علیه السلام)، وإنَّما قتله داود بن علي بسببه، وكان محموداً عنده، ومضى على منهاجه، وأمره مشهور. فروي عن أبي بصير قال: لما قتل داود بن علي المعلّى بن خنيس فصلبه، عظم ذلك على أبي عبد الله (علیه السلام) واشتد عليه وقال له: (يا داود، على ما قتلت مولاي وقيّمي في مالي وعلى عيالي؟ والله إنَّه لأوجه عند الله منك) في حديث طويل. وفي خبر آخر أنَّه قال: (أما والله لقد دخل الجنة)).

ويظهر من كلامه أنَّه اعتمد على الروايتين المذكورتين ونحوهما في عدّ المعلى من الممدوحين.

ولكن لا دلالة فيهما ولا في غيرهما على ما يقتضي وثاقته والاعتماد على روايته، كما أوضحه الأستاذ (دامت افاداته) في القبسات(2)، فراجع. فإذا كان مقصود الشيخ (قدس سره) استفادة مدحه بما يشمل توثيقه من الروايات الواردة بشأنه فلا يمكن المساعدة عليه، ومن الواضح أنَّه إذا تبيّن خطأ الرجالي في مستنده فلا يعتد برأيه، فتدبّر.

ص: 349


1- الغيبة للطوسي: 347.
2- قبسات من علم الرجال: 1/539.

(والمفضّل بن صالح، روى عنه البزنطي.. وهذا توثيق سلّم به المستشكل، فلاحظ بحوث في شرح مناسك الحج ج:6 ص:69 بالهامش).

أقول: نعم هذا ممَّن تعارض فيه الجرح والتعديل - وفق مختار الأستاذ (دامت افاداته) - ولكن تقدَّم أنَّ المناط في من يصحّ إدراج اسمه في القائمة المذكورة هو كونه مطعوناً في كلمات بعض الرجاليين سواء وثّقه غيره أو لا.

(والمفضّل بن عمر، ذكره الشيخ في الممدوحين).

أقول: نعم ذكره الشيخ (قدس سره) في كتاب الغيبة في الوكلاء الممدوحين قائلاً(1): ومنهم المفضّل بن عمر، بهذا الإسناد عن أحمد بن إدريس عن أحمد بن محمَّد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن محمَّد بن أبي عمير عن الحسين بن أحمد المنقري عن أسد بن أبي علاء عن هشام بن أحمر قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) وأنا أريد أن أسأله عن المفضّل بن عمر، وهو في ضيعة له في يوم شديد الحر والعرق يسيل على صدره، فابتدأني فقال: (نعم، والله الذي لا إله إلّا هو الرجل المفضّل بن عمر الجعفي، نعم والله الذي لا إله إلّا هو الرجل هو المفضّل بن عمر الجعفي) حتى أحصيت بضعاً وثلاثين مرَّة يكررها، وقال: (إنَّما هو والد بعد والد). وروي عن هشام بن أحمر قال: حملت إلى أبي إبراهيم (علیه السلام) إلى المدينة أموالاً فقال: (ردها فادفعها إلى المفضّل بن عمر) فرددتها إلى جعفي فحططتها على باب المفضّل. وروي عن موسى بن بكر قال: كنت في خدمة أبي الحسن (علیه السلام) فلم أكن أرى شيئاً يصل إليه إلّا من ناحية المفضّل، ولربَّما رأيت الرجل يجيء بالشيء فلا يقبله منه ويقول: (أوصله إلى المفضّل).

ويظهر منه أنَّه اعتمد على هذه الروايات وما شاكلها في عدّ المفضّل من الممدوحين.

ص: 350


1- الغيبة للطوسي: 346.

ولكنها لا تخلو من مناقشات تعرَّض لها الأستاذ (دامت افاداته) في القبسات(1)، فيجري في المقام ما مرّ آنفاً بشأن المعلّى بن خنيس. علماً أنَّ هناك وجوهاً أخرى ذكرت لوثاقة المفضّل ولكنها أيضاً محلّ تأمّل أو منع، فراجع القبسات.

(ويونس بن ظبيان، روى عنه ابن أبي عمير: تهذيب الأحكام ج:5 ص:32 ح:24، الاستبصار فيما اختلف من الأخبار ج:2 ص:175 ح:21. وهذا توثيق عند المستشكل واحتماله السقط أو التعدد ليس بشيء).

أقول: الرجل ممَّن ضعّفه أعلام الرجاليين، فقد عدّه الفضل بن شاذان من الكذابين المشهورين، وقال عنه النجاشي: (ضعيف جدّاً، لا يلتفت إلى ما رواه، كل كتبه تخليط)، وقال ابن الغضائري: (غال وضّاع للحديث) وقد وردت روايات - وبعضها صحيحة السند - في لعنه ويستفاد منها خبثه وضلاله.

وأمَّا رواية ابن أبي عمير عنه فهي غير ثابتة، قال الأستاذ (دامت افاداته) (2)بشأن ما يوجد في النسخ الواصلة إلينا من التهذيبين من المورد المشار إليه: إنَّ السند في هذا المورد هكذا: (صفوان ومحمَّد بن أبي عمير عن بريد ويونس بن ظبيان قالا: سألنا أبا عبد الله (علیه السلام)). وفي هذا السند سقط لا محالة، فإنَّ ابن أبي عمير من الطبقة السادسة ولا يروي عن بريد - وهو بريد بن معاوية العجلي - بلا واسطة؛ لأنَّه من الطبقة الرابعة، وقد توفّي في حياة الصادق (علیه السلام) أو بعده بقليل، أي في عام (150ﻫ)(3)، فيعرف من عطف يونس بن ظبيان على بريد في هذا السند وقوع سقط في البين.

أي أنَّ هناك واسطة محذوفة بين صفوان ومحمَّد بن أبي عمير وبين بريد ويونس بن

ص: 351


1- قبسات من علم الرجال: 1/553.
2- لاحظ المصدر السابق: 1/86.
3- رجال النجاشي: 112.

ظبيان، ولعلَّ تلك الواسطة هو جميل بن دراج الذي توسّط بين ابن أبي عمير ويونس بن ظبيان في بعض الموارد(1)، وهو ممّن يروي عن بريد أيضاً(2). وقد روى عنه صفوان كذلك(3).

نعم, توجد رواية ابن أبي عمير عن بريد في موضع من الوسائل(4). ولكن فيه سقط كما يظهر بمراجعة مصدره وهو الكافي(5)، والاسم الساقط (عمر بن أذينة).

هذا مع أنَّه يظهر من بعض الروايات(6)

أنَّ يونس بن ظبيان كان أيضاً ممَّن توفّي في

حياة الصادق (علیه السلام)، وعلى هذا التقدير فلا محيص من وجود الواسطة بينه وبين ابن أبي عمير؛ لأنَّ الأخير لم يدرك عصر الصادق (علیه السلام) كما حقّق في محلّه.

والحاصل: أنَّ نفي وقوع السقط في السند المذكور ممَّا لا ينبغي صدوره ممَّن له خبرة بطبقات الرواة.

(3 - وخمسة منهم علم لهم حالة استقامة).

أقول: لم يذكر الكاتب إلّا أربعة أشخاص، ولعلَّ اسم الخامس سقط عند التنضيد.

ومهما يكن فإنَّ وجود حالة استقامة سابقة لبعض المطعونين غير ناهض بدفع

الإشكال؛ إذ لا يمكن أن يكون ابن قولويه ناظراً في توثيقه المزعوم لهم إلى حال

ص: 352


1- الكافي: 6/473.
2- تهذيب الأحكام: 10/28. وتجدر الإشارة إلى أنَّ المذكور فيه رواية (جميل عن بريد)، ولكن حيث إنَّ الراوي عن (جميل) هو (ابن أبي نصر) الذي روى عن (جميل بن دراج)، ولم تعثر له رواية عن (جميل بن صالح) كان ذلك قرينة على كون المراد ب-(جميل) فيه هو (ابن دراج)، فتأمّل.
3- المصدر السابق: 5/82.
4- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: 18/170.
5- الكافي: 7/361.
6- اختيار معرفة الرجال: 2/658.

استقامتهم خاصَّة، فإنَّ عدداً من الروايات التي أوردها عنهم مروية عن أناس شاركوهم في الانحراف، كما في علي بن أبي حمزة الذي أخرج له عدَّة روايات عن القاسم بن محمَّد الجوهري وكان واقفياً مثله، وبعض الروايات عن الحسن بن علي الوشاء الذي قضى شطراً من عمره على القول بالوقف، فبطبيعة الحال لم يكن لابن قولويه طريق لإحراز كون تلك الروايات مروية عن ابن أبي حمزة في حال استقامته، فكيف أدرجها في (ما وقع له من جهة الثقات من أصحابنا) إذا كان يرى وثاقة الرجل في حال استقامته خاصة؟!

مضافاً إلى أنَّه لو فرض تمكنه من إحراز كون تلك الروايات مأخوذة منهم قبل انحرافهم المذهبي، إلّا أنَّه لو كان يرى ضعفهم وعدم وثاقتهم بعد الانحراف لم يصح منه إطلاق القول بأنَّ روايات كتابه مروية عن الثقات من أصحابنا، كما سيأتي توضيحه في أواخر هذا البحث، فراجع.

(وهم: أحمد بن هلال العبرتائي، قال النجاشي: صالح الرواية. واحتمال التصحيف تخرّص لا شاهد عليه).

أقول: لا شكّ في أنَّ الرجل كانت له حالة استقامة من حيث العقيدة قبل أن ينحرف في أواخر حياته، ولكن وقع الخلاف بين الرجاليين في وثاقته وعدمها حتى بعد انحرافه، ولو ثبت أنَّ النجاشي قال في حقّه: إنَّه (صالح الرواية) لاقتضى ذلك وثاقته مطلقاً كما ذهب إليه جمع، لا التفصيل بين حالة استقامته وما بعدها.

ولكنّ الملاحظ أنَّ النجاشي عقّب كلامه ذاك بقوله: (يعرف منها وينكر)، وقد ذكر السيد الخوئي (قدس سرهما) (1) أنَّه لا ينافي قوله: (صالح الرواية)؛ إذ لا تنافي بين وثاقة الراوي

وروايته أموراً منكرة من جهة كذب من حدّثه بها.

ص: 353


1- معجم رجال الحديث: 2/436.

وقال بعض المراجع الأعلام (دام ظله الوارف) (1): (ليس المراد بإنكار حديثه عدم وثاقته بل اشتمال حديثه على المناكير التي يصعب على العقول تحمّلها).

ولا يخفى ضعف كلا التوجيهين، فإنَّه إذا كانت العلّة في المناكير التي يرويها الشخص هي غيره فلا بدّ من التنبيه على ذلك، ولا يصحّ إطلاق القول بأنَّه يروي المناكير أحياناً فإنَّه يفهم منه القدح فيه، بل لا بدّ من أن يضاف إليه مثل قولهم: (والعلّة فيها غيره).

وأمَّا دعوى أنَّ المراد بالمناكير هو المطالب الحقّة التي يصعب على العقول تحمّلها فمن الظاهر ضعفها، فإنَّ الحديث المنكر هو الحديث الذي يشتمل على ما لا يقبله العقل أو يخالف واضح الشرع من الغلوّ والتخليط وأمثال ذلك، وأمَّا ما يشتمل على المعارف العالية التي هي فوق مستوى الأفهام المتعارفة فلا يعبّر عنه بذلك.

وبالجملة: المتداول في كلماتهم استخدام التعبير ب-(يعرف حديثه وينكر) للإشارة إلى عدم الوثوق بالراوي تماماً، كما قال النجاشي(2) في عبد الرحمن بن أحمد بن نهيك: (لم يكن في الحديث بذاك، يعرف منه وينكر)، وقال(3)

في عمر بن توبة: (في حديثه بعض الشيء، يعرف منه وينكر)، وقال الشيخ(4)

في إسماعيل بن علي بن رزين: (كان مختلط الأمر في الحديث، يعرف منه وينكر).

وبذلك يظهر أنَّ قول النجاشي: (صالح الرواية يعرف منها وينكر) لا يخلو من تدافع بين صدره وذيله، ولو قال: (صالح الرواية وينكر منها أحياناً) كان خالياً من

ص: 354


1- مصباح المنهاج (كتاب الطهارة): 1/350.
2- رجال النجاشي: 236.
3- المصدر السابق: 284.
4- فهرست كتب الشيعة وأصولهم: 50.

الإشكال، وقد نبّه المحقق التستري (قدس سره) (1)على

ما وقع من الإشكال في كلام النجاشي قائلاً: (كان من الصواب أن يقول: كثير الرواية، يعرف منها وينكر)، وهو في محلّه.

ولعلَّ لفظ (صالح) في كلامه مصحّف (واسع)(2)،

وبه يندفع الإشكال عنه، وهو المناسب مع ما ذكر من رواية العبرتائي لأكثر أصول أصحابنا.

لا يقال: ولكن نسخ رجال النجاشي والمصادر التي نقلت عنه كلّها متّفقة على لفظة (صالح) فلا يمكن الاعتداد باحتمال التصحيف.

فإنَّه يقال: الظاهر أنَّ النسخ الموجودة من رجال النجاشي ونسخة السيد ابن طاووس التي اعتمدها في كتابه حلّ الإشكال ونسخ المتأخرين عنه ترجع كلّها إلى نسخة واحدة هي برواية السيد ابن الصمصام ذي الفقار بن محمَّد بن معبد الحسني، واحتمال التصحيف فيها وارد لا دافع له، وقد لوحظ وقوعه في عدَّة موارد. ولذلك فمن الصعب الاعتماد في وثاقة ابن هلال وقبول رواياته على التعبير ب-(صالح الرواية) المذكور في تلك النسخة مع تعقّبه بقوله: (يعرف منها وينكر).

وبهذا يظهر أنَّ احتمال التصحيف ليس مجرّد تخرّص كما زعم الكاتب بل هو من جهة رفع التدافع بين قوله: (صالح الرواية) وقوله: (يعرف منها وينكر)، فتدبّر.

هذا, والحديث عن العبرتائي طويل الذيل، وما تقدَّم هو بعض ما تعرَّض له الأستاذ (دامت افاداته) في القبسات (3)، فراجعه إن شئت.

ص: 355


1- قاموس الرجال: 1/676.
2- ويحتمل سقوط لفظ (غير) من العبارة بأن كانت في الأصل هكذا: (غير صالح الرواية يعرف منها وينكر)، فتأمّل.
3- قبسات من علم الرجال: 1/184.

والحسن بن علي بن أبي حمزة، روى عنه ابن أبي نصر البزنطي: تهذيب الأحكام ج:8 ص:262 ح:16، ص:310 ح:26، فهذا توثيق عند المستشكل نفسه، فإن أبيت فأدرجه في من تعارض فيه الجرح والتعديل، وإلّا فذره في سنبله).

أقول: يرد عليه..

أوَّلاً: أنَّ الرواية الأولى وهي ما رواه الشيخ بإسناده عن ابن أبي نصر عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن (علیه السلام) قال: قلت له: إنَّ أبي هلك وترك جاريتين قد دبّرهما وأنا ممَّن أشهد لهما، وعليه دين كثير فما رأيك؟ فقال: (رضي الله عن أبيك ورفعه مع محمَّد (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهله، قضاء دينه خير له إن شاء الله) ممَّا ينبغي الجزم بوقوع اشتباه في سندها، فإنَّه لا يمكن أن يكون الراوي لها هو الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني؛ إذ إنَّ أباه كان من رؤوس الواقفة وقد هلك بعد الإمام الكاظم (علیه السلام)، فينبغي أن يكون المراد بأبي الحسن هو الإمام الرضا (علیه السلام)، ولكن كيف يسأل الحسن بن علي بن أبي حمزة الإمام الرضا (علیه السلام) عن حكم شرعي مع أنَّه - كأبيه - كان يناصبه العداء ولا يؤمن بإمامته؟! وكيف يقول (علیه السلام) في علي بن أبي حمزة: (إنَّه رضي الله عن أبيك ورفعه..)؟ بل قد قال(1) فيه عندما أبلغ خبر هلاكه بأنَّه قد دخل النار.

وبالجملة: لا ينبغي الريب في عدم صحّة النسخة المذكورة(2)، فلا يمكن أن تثبت بها رواية البزنطي عن الحسن بن علي بن أبي حمزة المضعّف في كلمات غير واحد من الرجاليين كابن فضّال والكشّي وابن الغضائري(3).

ص: 356


1- اختيار معرفة الرجال: 2/742.
2- يحتمل أن يكون قوله: (الحسن بن) زيادة في السند المذكور، فالمروي عنه هو علي بن أبي حمزة والمتوفّى هو سالم والده، والرواية عن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) فيندفع الإشكال.
3- لاحظ قبسات من علم الرجال: 2/31.

وأمَّا الرواية الثانية فهي ما رواه الشيخ بإسناده عن أبي عبد الله الرازي عن أحمد بن محمَّد بن أبي نصر عن الحسن بن علي عن أبي الحسن (علیه السلام) قال: قلت له: إنَّ لي جارية...

ولا قرينة على أنَّ المراد بالحسن بن علي في سندها هو ابن البطائني، بل ذكر الشهيد الثاني والفاضل الهندي(1) أنَّه الوشّاء، مع أنَّ الرازي المذكور ضعيف جدّاً فلا يمكن أن تثبت بنقله رواية البزنطي عن شخص ضعيف كما هو واضح.

وثانياً: أنَّه إن ثبتت رواية البزنطي عن الحسن بن علي بن أبي حمزة فلا يبعد أنَّها كانت قبل أن يرجع البزنطي عن القول بالوقف، فإنَّه كان واقفيّاً ثمَّ قال بإمامة الرضا (علیه السلام) كما نصَّ على ذلك الشيخ في كتاب الغيبة، وعلى ذلك يشكل جعل روايته عن ابن علي بن أبي حمزة دليلاً على وثاقته، فليتأمّل.

وثالثاً: أنَّه إن غضَّ النظر عمَّا تقدَّم فإنَّ رواية البزنطي عن الرجل تصلح أن تكون دليلاً على وثاقته مطلقاً، من غير اختصاص بما قبل انحرافه وقوله بالوقف، ولا أثر لكونه مستقيماً في العقيدة مدَّة وانحرافه لاحقاً في ما هو محلّ الكلام من ضعفه ووثاقته. وهذا واضح جدّاً.

(وأبوه علي بن أبي حمزة البطائني، له حال استقامة كما هو واضح عند الطائفة، وروى عنه المشائخ الثلاثة: صفوان بن يحيى.. وابن أبي عمير.. وابن أبي نصر، وهذا توثيق كما مرّ وتكرّر).

أقول: نعم, الظاهر أنَّ علي بن أبي حمزة كان على ظاهر الاستقامة والصلاح قبل استشهاد الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام)، ولكن لا أثر لذلك في ما هو محلّ الكلام، لما مرّ آنفاً من أنَّ توثيق ابن قولويه لرجال الكامل ليس ناظراً إلى خصوص زمان تلقّي ما أورده من الروايات عنهم، مع أنَّ في رواياته عن علي بن أبي حمزة ما رواه عنه بعض

ص: 357


1- مسالك الأفهام: 11/360، كشف اللثام: 9/73.

الواقفة - كالقاسم بن محمَّد الجوهري - ويجوز أن يكون تلقّيها عنه بعد انحرافه.

(وعبد الله بن القاسم الحارثي، قال النجاشي: ضعيف غالٍ كان صحب معاوية بن عمّار ثم خلط وفارقه. إلّا أنَّ ابن الغضائري لم يشر إلى صحبته لمعاوية بن عمّار قبل التخليط، فلاحظ).

أقول: إنَّ أقصى ما يستفاد من كلام النجاشي هو أنَّ الرجل لم يكن مخلطاً أيام صحبته لمعاوية بن عمّار، ولا يستفاد منه أنَّه كان ثقة آنذاك، وحمل توثيق ابن قولويه إياه - على تقدير تسليمه - على كونه ناظراً إلى ما قبل تخليطه وعدم شموله لما بعده حتى لا يعارض تضعيف النجاشي وابن الغضائري جمع اقتراحي لا عبرة به.

هذا وتجدر الإشارة إلى أنّه قد وردت رواية ابن أبي عمير عن عبد الله بن القاسم - بهذا العنوان - في بعض الموارد، فربّما يقال: إنّ المراد به هو الحارثي المذكور أو الحضرمي المضعّف كذلك الذي هو من رواة الكامل أيضاً، والرواية المشار إليها مذكورة في موضع من الفقيه، حيث روى فيه الصدوق بإسناده عن محمَّد بن أبي عمير عن عبد الله بن القاسم عن الصادق (علیه السلام) (1).

وقد أوردها بعينها في الأمالي عن جعفر بن محمَّد بن مسرور عن الحسين بن محمَّد ابن عامر عن عمّه عبد الله بن عامر عن محمَّد بن أبي عمير عن عبد الله بن القاسم عن الصادق (علیه السلام) (2).

أقول: الظاهر أنَّ الذي روى عنه ابن أبي عمير تلك الرواية هو غير الحارثي والحضرمي المذكورين، بل هو الجعفري الذي ذكر في بعض نسخ رجال الشيخ(3).

ص: 358


1- من لا يحضره الفقيه: 4/284.
2- الأمالي للصدوق: 178 (وفيه: محمَّد بن أبي عمر)، وهو تصحيف.
3- رجال الطوسي: 229.

والوجه في ذلك: أنَّ هذه الرواية قد أوردها الكليني بإسناده عن علي بن محمَّد القاساني عمَّن ذكره عن عبد الله بن القاسم(1)، فيعلم بذلك اتّحاد عبد الله بن القاسم الذي روى عنه ابن أبي عمير مع من روى عنه القاساني مرسلاً.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى توجد للقاساني روايات متعدّدة مسندة ومرسلة عن عبد الله بن القاسم الجعفري في المحاسن والكافي والتوحيد ومعاني الأخبار(2).

فيظهر بذلك أنَّ الذي روى عنه ابن أبي عمير هو عبد الله بن القاسم الجعفري، واتحاده مع الحضرمي بكون أحد اللفظين محرّفاً عن الآخر غير معلوم بل الظاهر خلافه(3).

(4 - ومنهم من لا دليل على جرحه أصلاً، وهو علي بن أحمد بن أشيم، غاية الأمر أنَّه مجهول كما ذكر الشيخ، ولكنّه كما ترى ليس بشيء؛ إذ المجهول عرفاً ولغة من لا يعرف لا غير، وأمَّا كونه دالاً على من تضاربت فيه الأقوال من جرح وتعديل - على فرض عدم استبعاده وغرابته - فيحتاج إلى عناية زائدة مفقودة في المقام).

أقول: قال الأستاذ (دامت افاداته) ما لفظه(4): (هذا التعبير - أي مجهول - ورد في كلمات المتقدّمين والمتأخّرين من الرجاليين بشأن الكثير من الرواة.

وأشار المحقق التستري (قدس سره) (5) إلى أنَّه من ألفاظ الجرح في كلمات المتقدّمين، وأمَّا في كلمات المتأخّرين من الشهيد الثاني والمجلسي الثاني وغيرهما فالمراد به الأعم من المجروح ومن المهمل الذي لم يذكر فيه قدح ولا مدح.

ص: 359


1- الكافي: 5/83.
2- المحاسن: 1/246، 266، 274، 2/387، 528. الكافي: 1/44، 3/569، 4/50، 5/125، 151. التوحيد: 406. معاني الأخبار: 239.
3- قبسات من علم الرجال: 1/69.
4- المصدر السابق: 1/37.
5- قاموس الرجال: 1/44.

ولكنّ السيد الأستاذ (قدس سره) بنى في غير مورد(1)على

وثاقة من قال فيه المفيد أو الشيخ: إنَّه مجهول إذا ورد توثيقه من طريق آخر.

والصحيح ما أفاده المحقّق التستري (طاب ثراه)، أي أنَّه لا يراد ب-(المجهول) في كلمات المتقدّمين مجرّد عدم التعرّف على حال الشخص، لئلا يقع تعارض عندئذٍ بين قول أحدهم: (مجهول) وبين قول آخر: إنَّه (ثقة).

والشاهد على ذلك أنَّ الشيخ (قدس سره) ذكر بهذا الوصف حوالي خمسين شخصاً من أصحاب الأئمَّة (علیهم السلام) في كتاب الرجال، ولو كان المراد به مجرّد عدم الاطلاع على حال الراوي وأنَّه ثقة أو غير ثقة لكان ينبغي أن يذكره بالنسبة إلى عشرات آخرين أيضاً، فإنَّه من المؤكد أنَّه لم يكن يعرف حال الكثيرين من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمَّة (علیهم السلام) ممَّن ذكرهم في كتاب الرجال.

وبالجملة: ليس المراد ب-(المجهول) في كلمات المتقدّمين هو من لم يطّلع الرجاليّ على حاله، بل الظاهر أنَّ المراد به من تتضارب بشأنه مؤشّرات الوثاقة والضعف، ولذلك لا يمكن البناء على كونه ثقة أو ضعيفاً، فالمجهول من ألفاظ الذم والقدح ويقع التعارض بينه وبين قول التوثيق الصادر من شخص آخر).هذا ما أفاده (دامت افاداته) بلفظه، وهو واضح لمن تدبّر.

(5 - واثنين منهم لا يعلم فيهما المضعّف، وهما: محمَّد بن أسلم الجبلي، قال النجاشي: يقال: كان غالياً فاسد الحديث).

أقول: يرد عليه..

أوَّلاً: أنَّه لا يبعد أن يكون نظر النجاشي في ما حكاه إلى ابن الغضائري، وذلك بملاحظة مجموعة أمور..

ص: 360


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى (كتاب الصلاة): 1/244، مستند الناسك: 1/82.

1 - قال العلّامة في الخلاصة(1): محمَّد بن أسلم الطبري الجبلي.. وقال ابن الغضائري الحلبي:.. أبو جعفر أصله كوفي كان يتّجر إلى طبرستان، يقال: إنَّه كان غالياً فاسد الحديث، روى عن الرضا (علیه السلام).

وذيل هذه العبارة من قوله: (أبو جعفر..) إنَّما هو للنجاشي، ويظهر ممَّا قبله أنَّ ابن الغضائري كان قد ترجم لمحمَّد بن أسلم المذكور في كتاب الضعفاء، والظاهر أنَّه كان قد قدح فيه بما لم يجد العلّامة حاجة إلى نقله بعد نقل ما ذكره النجاشي كما هو دأبه في الموارد المماثلة.

2 - ذكر المولى عبد الله التستري - الذي انتزع كتاب الضعفاء لابن الغضائري من كتاب حلّ الإشكال للسيد ابن طاووس - أنَّ السيد قال في كتابه(2): (ومن كتاب ابن الغضائري الميم ثمانية وثلاثون رجلاً) ثمَّ قال في نهاية الباب: (لعلَّه قد سقط من عدّتها المذكورة أوَّلاً؛ إذ لا غلط أنَّ الموجود هنا أربعة وثلاثون).

ويظهر بمراجعة خلاصة العلّامة ورجال ابن داود أسماء الأربعة الآخرين، والظاهر أنَّ منهم محمَّد بن أسلم المذكور. ويبدو أنَّ منشأ السقط هو أنَّ نسخة حلّ الإشكال التي كانت بخط السيد ابن طاووس وانتزع منها المولى التستري كتاب الضعفاء كان قد أصابها التلف في بعض موارد النقل فيها عن هذا الكتاب فلم يتيسّر له انتزاع جميع ما ذكره السيد نقلاً عن ابن الغضائري(3).

3 - الملاحظ أنَّ النجاشي ربَّما يكون ناظراً في ما يورده إلى ما ذكره ابن الغضائري من دون أن ينسبه إليه بالاسم، مثلاً: قال في محمَّد بن أورمة: (قال بعض أصحابنا: إنَّه

ص: 361


1- خلاصة الأقوال: 255.
2- الرجال لابن الغضائري: 87، 99.
3- لاحظ قبسات من علم الرجال: 2/77.

رأى توقيعاً من أبي الحسن الثالث (علیه السلام) إلى أهل قم في معنى محمَّد بن أورمة وبراءته ممَّا قذف به)، وهذا مطابق لما ذكره ابن الغضائري بقوله: (رأيت كتاباً خرج من أبي الحسن علي بن محمَّد (علیه السلام) إلى القميّين في براءته ممَّا قذف به). وقال النجاشي في محمَّد بن بحر الدهني: (قال بعض أصحابنا: إنَّه كان مذهبه ارتفاع، وحديثه قريب من السلامة، ولا أدري من أين قيل ذلك) قال السيد الخوئي (قدس سره): الظاهر أنَّه يريد بذلك ما ذكره ابن الغضائري بقوله: (ضعيف في مذهبه ارتفاع). وهناك شواهد أخرى لما ذكر يمكن ملاحظتها في القبسات(1).

وفي ضوء ما تقدَّم لا يستبعد أنَّ ابن الغضائري كان قد قدح في محمَّد بن أسلم بالغلوّ وفساد الحديث، ويكون النجاشي ناظراً في قوله: (يقال: إنَّه كان غالياً..) إلى ما ذكره، فليتدبَّر.

وثانياً: أنَّه لو غضَّ النظر عمَّا تقدَّم فإنَّه يمكن الاطمئنان بأنَّ ابن الغضائري كان قد قدح في هذا الرجل عند ترجمته في كتاب الضعفاء، وإلّا لم يقتصر العلّامة على إيراد ما ذكره النجاشي كما هو دأبه في سائر الموارد، وعلى ذلك فلا يكون المضعّف للرجل منحصراً في من أشار إليه النجاشي، ليقال إنَّه مجهول.

(وزكريا المؤمن، قال النجاشي: حكي عنه ما يدلّ على أنَّه كان واقفاً وكان مختلط الأمر في حديثه، والجملة الثانية فيها احتمالات في العطف: على قوله: ما يدلّ..، وعلى قوله: كان واقفاً..، وعلى قوله: حكي عنه.. فلاحظ وتدبّر، وعلى تقدير ظهوره في كونها جملة استئنافية ليست ظاهرة في سلب الوثاقة).

أقول: إنَّ قوله: (وكان مختلط..) ظاهر في كونه جملة استئنافية، وإلّا لم يناسب أن يكرّر الفعل (كان) بل كان ينبغي أن يقول: (حكي عنه ما يدلّ على أنَّه كان واقفاً ومختلط

ص: 362


1- المصدر السابق: 2/84.

الأمر في حديثه).

وأمَّا المناقشة في دلالة قوله: (مختلط الأمر في حديثة) على الخدش في وثاقة الرجل فهي في غير محلّها أيضاً، بل ظاهره أنَّه أراد به كونه ممَّن يروي الغثّ والسمين وما يعرف وما ينكر، ممَّا يثير الريب في وثاقته بطبيعة الحال.

وهذا هو ما يظهر من قول الشيخ(1)

في ترجمة إسماعيل بن علي بن رزين: إنَّه (كان مختلط الأمر في الحديث يعرف منه وينكر)، وقول ابن الغضائري(2) في شأن خلف بن حمّاد: (أمره مختلط، يعرف حديثه تارة وينكر أخرى، ويجوز أن يخرّج شاهداً).

تبقى الإشارة إلى أنَّ النجاشي عقّب ما تقدَّم بقوله: (له كتاب منتحل الحديث)، وهذا يمكن أن يقرأ على وجهين..

أحدهما: ما يظهر من المحقّق الشيخ آغا بزرك الطهراني (طاب ثراه)(3) من جعل قوله: (منتحل الحديث) اسماً للكتاب، قال (قدس سره): (منتحل الحديث لأبي عبد الله المؤمن) فكأنّ الرجل ألّف كتاباً في الأحاديث المنتحلة، فكان ذلك اسماً لكتابه بلحاظ كونه موضوعه.

ثانيهما: ما ربَّما يظهر من المحقّق التستري (قدس سره) (4)من كون قوله: (منتحل الحديث) وصفاً للكتاب، ليكون المقصود أنَّه انتحل أحاديث غيره في هذا الكتاب، يقال: انتحل الشعر ادعاه لنفسه وهو لغيره، وكذلك الحديث ونحوه. وعليه فإنَّه يدلّ على قدح كبير في الرجل، فليلاحظ(5).

ص: 363


1- فهرست كتب الشيعة وأصولهم: 32.
2- الرجال لابن الغضائري: 56.
3- الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 22/362.
4- قاموس الرجال: 4/476.
5- قبسات من علم الرجال: 1/249.

(6 - نعم يبقى منهم اثنان وثلاثون راوياً قد يستظهر من كلمات الرجاليين عدم وثاقتهم وهم: إبراهيم بن إسحاق.. ومحمَّد بن يحيى المعاذي...

هذا ولم يتضح الوجه في حساب من تعارض فيهم الجرح والتعديل، إذ يكفي في موافقة بعض الأعلام لابن قولويه رحمه الله تعالى في توثيقهم.

وعلى كل حال فالذي يهمّنا في المقام هو القسم الأخير، وهم عبارة عن اثنين وثلاثين شخصاً لا غير، وهو عدد ليس بالمهول، ولا يشكّل أضعاف تضعيفات ابن الغضائري كما قيل).

أقول: أمَّا قوله (قد يستظهر من كلمات الرجاليين عدم وثاقتهم) باستخدام كلمة )قد) التي تدلّ عند دخولها على الفعل المضارع على التقليل - وكأنّ البعض فقط استظهر منها التضعيف - فهو في غاية الغرابة، فإنَّ جلّ الأعلام إن لم يكن كلّهم سلّموا دلالتها على ضعف المذكورين، فراجع.

وأمَّا قوله: (لم يتضح الوجه في حساب من تعارض فيهم الجرح والتعديل..) فقد مرَّ الجواب عنه في بداية هذه المقالة، فلاحظ.

وأمَّا قوله: (وهو عدد ليس بالمهول، ولا يشكّل أضعاف تضعيفات ابن الغضائري كما قيل) فيلاحظ عليه بما تبيَّن ممَّا تقدَّم من أنَّ جميع الاثنين والستين شخصاً الذين ذكرهم الأستاذ (دامت افاداته) ممَّن ورد في كلمات الرجاليين ما يمسّ وثاقتهم، فالعدد مهول حقاً

- بالإضافة إلى اشتماله على جملة من كبار الوضّاعين والكذّابين - إذ يشكّل حوالي (10%) من مجموع من وردت أسماؤهم في أسانيد كامل الزيارات. وهم أضعاف من وثّقهم بعض الرجاليين ممَّن ضعفهم ابن الغضائري مع أنَّه قد وافقه في بعضهم غيره.

(وهؤلاء المضعّفين أيضاً ليسوا بدرجة واحدة فيمكن فيهم الميز والفرز، فمنهم من ضعّفه القميّون وهم اثنان على الأقلّ: محمَّد بن أبي عبد الله الجاموراني ومحمَّد بن موسى

ص: 364

الهمداني بناءً على رجوع تضعيف ابن الغضائري إلى ما اشتهر عند القميّين؛ إذ لم يعهد غيره في غيره كالنجاشي والشيخ).

أقول: الرجلان هما ممَّن استثنى ابن الوليد والصدوق رواياتهم من كتاب نوادر الحكمة، وقد حكى النجاشي في ترجمة محمَّد بن أحمد بن يحيى عن أستاذه ابن نوح أنَّه قال: (وقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمَّد بن الحسن بن الوليد في ذلك كلّه وتبعه أبو جعفر بن بابويه (رحمة الله) على ذلك إلّا في محمَّد بن عيسى بن عبيد فلا أدري ما رابه فيه؛ لأنَّه كان على ظاهر العدالة والثقة).

وهذا الكلام واضح الدلالة على أنَّ ابن نوح - الذي وثّقه الشيخ وقال عنه النجاشي: كان ثقة في حديثه متقناً لما يرويه فقيهاً بصيراً بالحديث والرواية - قد وافق ابن الوليد والصدوق على عدم وثاقة من عدا محمَّد بن عيسى بن عبيد، ويظهر من النجاشي عدم مخالفته في ذلك، فكيف يقال بأنَّ المضعّف للجاموراني - وهو محمَّد بن أحمد أبو عبد الله لا محمَّد بن أبي عبد الله كما ذكره الكاتب - والهمداني ينحصر في القميّين؟!

وأمَّا ابن الغضائري فهو أجلّ من أن يتبع القميّين في تضعيفاتهم من غير تمحيص وتحقيق، كيف وقد ردّ عليهم في غير موضع.

قال المحقّق التستري (قدس سره) - ونِعْمَ ما قال -: (هذا الرجل لا نقّاد مثله بعد ابن الوليد الناقد لنوادر الحكمة وغيره، بل هو فوقه، فتراه قوّى ممّن ضعّفه ابن الوليد وابن بابويه: أحمد بن الحسين بن سعيد والحسين بن شاذويه ومحمَّد بن أورمة وزيد الزراد وزيد النرسي).

والملاحظ أنَّه حكى تضعيف القميّين للجاموراني ولم يعلّق عليه، وإنَّما عقّبه بقوله: (وفي مذهبه ارتفاع). وأمَّا الهمداني فقد ضعّفه بنفسه قائلاً: (ضعيف يروي عن الضعفاء

ص: 365

ويجوز أن يُخرَّج شاهداً) ثمَّ حكى استثناء القميّين لما رواه من نوادر الحكمة، ولا دلالة في ذلك على رجوع تضعيفه إلى ما ذكره القميّون، كما لا دلالة لعدم ورود التضعيف في كلام النجاشي والشيخ على ذلك.

(ومنهم من هو غير مسلَّم الضعف عند جميع الرجاليين، ولا أقلّ من عدم الاتفاق على ضعفه من الثلاثة الشيخ والنجاشي والغضائري، وهم الغالبية سوى أربعة فقط وهم: إبراهيم بن إسحاق النهاوندي والحسن بن علي بن أبي عثمان ومحمَّد بن سليمان الديلمي، ومحمَّد بن عبد الله بن مهران).

أقول: لا خصوصية لاتفاق الثلاثة الشيخ والنجاشي وابن الغضائري على تضعيف هؤلاء الأربعة، فإنَّ هناك من هم أشدّ ضعفاً من بعض المذكورين ولم يضعّفه بعضهم كالشيخ، مثل محمَّد بن علي القرشي أبي سمينة، الذي عدّه الفضل بن الشاذان من الكذّابين المشهورين بل أشهرهم, وقال عنه النجاشي: (ضعيف جدّاً فاسد الاعتقاد لا يعتمد عليه في شيء، وكان وَرَد قم وقد اشتهر بالكذب بالكوفة)، وقال ابن الغضائري: (كذّاب غالٍ.. كان شهيراً في الارتفاع لا يُلتفت إليه ولا يُكتب حديثه)، ومثله يونس ابن ظبيان الذي عدّه الفضل بن شاذان من الكذّابين المشهورين أيضاً, وقال النجاشي: (ضعيف جدّاً لا يلتفت إلى ما رواه، كلّ كتبه تخليط)، وقال ابن الغضائري: (غالٍ وضّاع للحديث.. لا يلتفت إلى حديثه). فهل ترى أنَّ عدم تضعيف الشيخ لهذين الراويين يضعِّف من احتمال كونهما من الكذّابين الوضّاعين؟!

(ومنهم من اتّهم بالغلوّ والمذاهب الفاسدة وهم تسعة).

أقول: ليس فيهم من ضعّف بالغلوّ وحده إلّا محمَّد بن صدقة، وأمَّا بقيَّة مَن عدّوا من الغلاة وفاسدي المذهب فقد ضعّفوا أيضاً تضعيفاً مطلقاً أو من جهة خصوص الكذب وفساد الحديث والتفرّد بالغرائب ونحو ذلك.

ص: 366

هذا, مضافاً إلى ما تقدَّم من أنَّ الغالي لا يستغني عادة عن الكذب، ولذلك يكاد أن يكون الجمع بين كون الرجل غالياً وكونه ثقة جمعاً بين متنافيين.

(ومنهم من تفرّد بتضعيفهم واحد من الرجاليين، فابن الغضائري ما يقارب العشرة، والنجاشي ما يقارب الأربعة، ومنهم من تفرّد بتضعيفهم الشيخ أيضاً).

أقول: تقدَّم أنَّ هذا لا يضرّ بالمقصود، فإنَّ استبعاد أن يوثّق ابن قولويه أزيد من ستّين شخصاً ممَّن وَرَد تضعيفهم في كلمات الرجاليين - وفيهم كبار الوضّاعين والكذّابين - ممَّا لا يختلف بوجود تضعيف بعضهم في كلام واحد أو أكثر؛ إذ إنَّ مثل هذا لم يقع لأيّ من الرجاليين الآخرين كما مرّ شرحه.

(ومنهم من طعن عليه أهالي قم بالغلوّ كمحمَّد بن موسى الهمداني مع أنَّ له كتاباً في ردّ الغلاة ممَّا يكشف أنَّ وراء الأكمة ما وراءها).

أقول: تأليف الهمداني كتاباً في الرد على الغلاة ليس دليلاً قاطعاً على عدم غلوّه، فإنَّ بعض الغلاة لا يرى نفسه غالياً بل يعدّ من يقول بما دون قوله مقصّراً ويرى الغلوّ في ما يتبناه من هو أشدّ تطرّفاً منه، ومن شواهد ذلك أنَّ علي بن العباس الجراذيني الذي رمي بالغلوّ هو صاحب كتاب في الردّ على السلمانية الذين هم طائفة من الغلاة كما قال النجاشي.

نعم, الملاحظ أنَّ النجاشي نسب تضعيف الهمداني بالغلوّ إلى القميّين، وكذلك قال ابن الغضائري: إنَّه تكلّم فيه القميّون بالغلوّ، ولا يظهر من أيّ من العَلَمين الموافقة على ذلك، فهذا يصلح أن يورث بعض الشكّ في غلوّ الرجل.

وعلى أيّ حال فليس الأساس في تضعيف هذا الرجل هو اتّهامه بالغلوّ ليناقش في صحته، بل تصريح ابن الوليد بأنَّه كان يضع الحديث وكان كذّاباً غير ثقة، وموافقة ابن نوح على استثناء رواياته من نوادر الحكمة وتضعيف ابن الغضائري إيّاه، فراجع.

ص: 367

(ومنهم مَن روى عنه اثنان من أصحاب الإجماع وهو صالح بن الحكم النيلي).

أقول: الظاهر أنَّه قصد بالاثنين..

1 - صفوان بن يحيى الذي هو ممَّن قال الشيخ في كتاب العدّة: إنَّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة، ولكن أقصى ما يقتضي ذاك هو تعارض الجرح والتعديل في هذا الرجل، فلماذا أورد الكاتب اسمه هنا ولم يورده في القسم الثاني المتقدم؟!

2 - حمّاد بن عثمان الذي هو من جماعة ادعى الكشّي إجماع أصحابنا على تصحيح ما يصح عنهم، ولكن أين هذا من الدلالة على وثاقة من يروون عنهم؟! بل أقصى ما يمكن أن يدّعى هو اقتضاؤه اعتبار رواياتهم بغض النظر عن حال من يروونها عنهم، مع أنَّ هذا غير تام أيضاً كما حقّق في محلِّه.

(ومنهم من يحتمل رجوعه عن الغلوّ وهو صالح بن سهل كما في اختيار الكشّي، ويظهر منه حسن حاله كما فهم منه ابن داود المدح).

أقول: هذا الكلام غريب، فإنَّ ابن الغضائري قد ضعّف الرجل بقوله: (غالٍ كذّاب وضّاع للحديث.. لا خير فيه ولا في سائر ما رواه)، فيلاحظ أنَّ تضعيفه لم يقتصر على عدّه من الغلاة بل اتّهمه بالكذب ووضع الحديث أيضاً، فلو فرض أنَّ هناك ما يدلّ على رجوعه عن الغلوّ فما الذي يدلّ على كفّه عن الكذب والوضع؟!

وأمَّا رواية الكشّي فهي مرسلة ومروية عن الرجل نفسه أنَّه قال: كنت أقول في أبي عبد الله (علیه السلام) بالربوبية فدخلت عليه فلمّا نظر إلي قال: (يا صالح إنا والله عبيد مخلوقون، لنا ربّ نعبده وإن لم نعبده عذّبنا). وهذه الرواية إن صحّت فأقصى ما تدلّ عليه هو رجوع الرجل عن القول بربوبية الصادق (علیه السلام)، وأمَّا عدم قوله بالغلوّ بنحو آخر فلا يستفاد منها أبداً، فضلاً عن أن يستفاد منها حسن حاله. وأمَّا ابن داود فقد ذكره بعنوان صالح بن سهل وقال: (كش: ممدوح) وذكره بعنوان صالح بن سهيل وقال: (كش:

ص: 368

كان يعتقد في الصادق (علیه السلام) الربوبية وأنَّه دخل عليه فأقسم أنَّه ليس بربّ). وعلى كل حال لا عبرة بفهمه المدح من الرواية، مع أنَّه لا يمكن أن يعتمد على مدح المضعَّف لنفسه، فتدبّر.

(ومنهم من لا يخفى على أي ناظر للكتب والمصنّفات ومن جاس خلال الديار وتصفح الآثار والأخبار كثرة مروياته بدرجة لا تتناسب مع اشتهاره بالغلوّ والكذب والفساد في الحديث إلّا أن تكون له حالة استقامة فيما قبل).

أقول: بل إنَّ من له إلمام كافٍ بطريقة المتقدّمين من أعلام المحدّثين يعلم أنَّهم كانوا لا يتحاشون عن إيراد روايات الضعفاء المشهورين فضلاً عن غير المشهورين في كتبهم إذا لم يستنكروا مضامينها، بل وكانوا يعملون بها متى حصلت لهم القناعة بها بمقتضى الشواهد والقرائن، ومن ذلك تصحيح بعض نقّاد الأخبار لها، هذه طريقتهم التي لا يحيدون عنها، وعليها تمّ تأليف الكتب الأربعة وغيرها من كتب الأحاديث الواصلة إلينا.

وأمَّا أن يستكشف من كثرة روايات بعض المشهورين بالكذب في كتب الحديث أنَّه كانت له حالة سابقة اعتمد الأصحاب على ما تمَّ تلقّيه منه في تلك الحالة، فهو لعمري من العجب العجاب، ولا يقوله قائله إلّا من ضيق الخناق.

ونظيره ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) (1) أيام كان يرى وثاقة رجال كامل الزيارات، حيث لاحظ أنَّ أبا سمينة ممَّن لا ريب في ضعفه واشتهاره بالكذب ومع ذلك ورد اسمه في أسانيد الكامل فالتجأ إلى القول بأنَّ محمَّد بن علي القرشي الواقع في سند كامل الزيارات لم يُعلم أنَّه أبو سمينة، فإنَّ أبا سمينة وإن كان قرشياً واسمه محمَّد بن علي إلّا أنَّه لا يلازم انحصار المسمّى بهذا الاسم فيه، فمن الممكن أنَّه رجل آخر، ورواية محمَّد

ص: 369


1- معجم رجال الحديث: 16/337.

ابن أبي القاسم ماجيلويه عنه لا تدلّ على الاتحاد، لإمكان روايته عن كلا الرجلين!!

وكذلك لاحظ (قدس سره) التسالم على ضعف محمَّد بن عبد الله بن مهران ومع ذلك وقع في أسانيد كامل الزيارات فقال(1): (يمكن أن يقال: إنَّ محمَّد بن عبد الله بن مهران الواقع في إسناد كامل الزيارات هو غير هذا الرجل وإنَّما هو محمَّد بن أحمد بن عبد الله ابن مهران الثقة) مع وضوح أنَّ الأخير متأخّر طبقة عمّن ذكر في الكامل، فراجع.

(ومن هذه التضعيفات ما يستشم منها رائحة الحدس).

أقول: إذا كان ابن قولويه قد وثّق كل أولئك المضعّفين في كلمات غيره - وهو عندي أجلّ من ذلك - فإنَّه ينبغي أن تستشم منه رائحة الحدس بدرجة أقوى؛ إذ كيف يمكن أن يكون توثيقه لكلّهم مستنداً إلى الحسّ عن طريق نقل كابر عن كابر، وكلمات من سبقه ومن لحقه مشحون بتضعيف الكثيرين منهم؟!

(فلو فتحنا كل هذه الأبواب التي أوصدها المستشكل لتضاءل هذا العدد وتلاشى، فلا محلّ للبعد و لا الاستبعاد).

أقول: قد اتضح ممَّا مرّ بيانه أنَّ الباحث المحقّق لا يجد مناصاً من الإقرار بأنَّ الأبواب المشار إليها كلّها مؤصدة أمامه، وأنَّ الاستبعاد المتقدّم في محلّه تماماً، ولذلك لا محيص من البناء على أنَّ ابن قولويه لم يقصد بما ذكره في المقدّمة توثيق جميع رواة كتابه.

(لا سيّما مع ما بيّنه سماحة السيد (دام عمره الشريف) من أنَّ الغرض من توثيق هؤلاء هو توثيق رواياتهم.

ولا يقال: إنَّ ادّعاء كون التوثيق حال أداء الرواية خلاف الظاهر، ثمَّ إنَّ هذا مبنيّ على كونهم مستقيمين زمناً ما, وهذا فرض في فرض ولا شاهد عليه بوجه.

لأنّا نقول: أمَّا ادّعاء كون توثيق ابن قولويه لهؤلاء حال أداء الرواية خلاف الظاهر

ص: 370


1- المصدر السابق: 16/277.

فغريب جدّاً! لأنَّ ظاهر حال كلّ موثِّق حكاية وثاقة الراوي حال أدائه للرواية لا مطلقاً، والتنبيه على حاله في غير هذه الحال - كما لو انحرف بعد ذلك وتُركت الرواية عنه - خارج عن حيطة علم الرجال، بل هو من شؤون علم التراجم وما أشبه).

أقول: دعوى أنَّ ابن قولويه أراد وثاقتهم حين تلقّي روايات الكتاب عنهم، لا قبل ذلك ولا بعده، لأنَّ غرضه من التوثيق إنَّما كان بيان اعتبار وحجيّة تلكم الروايات، وهو لا يقتضي أزيد من وثاقة كلّ راوٍ حين نقله الرواية لمن بعده، وهذا محتمل حتى في المشهورين بالغلوّ والكذب، بأن كانت لهم حالة استقامة رووا فيها الأحاديث، ويكون ما أورده ابن قولويه في كتابه إنَّما هو من تلك الأحاديث خاصَّة دون ما رووها قبل ذلك أو بعده.

مردودة..

أوَّلاً: بأنَّ كون غرض ابن قولويه هو التنبيه على اعتبار روايات كتابه لا يشكّل قرينة على أنَّه قصد توثيق رواتها في زمان تلقّي تلكم الروايات عنهم فقط، فإنَّ المنساق من قوله: (ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته) كونهم موصوفين بالوثاقة ومعدودين من أصحابنا ومستحقين لطلب الرحمة لهم من الله تعالى، بحيث ختمت حياتهم بذلك، ولا يستساغ التعبير المذكور إذا كان لبعضهم دور وثاقة واستقامة ثمَّ خرجوا من المذهب أو أصبحوا يمارسون الكذب والوضع واشتهروا به واستحقوا بذلك اللعن والعذاب، وإن كانت الروايات المدرجة في الكتاب مأخوذة منهم قبل ذلك، بل في مثل هذه الحالة ينبغي التنبيه على المعنى المذكور بنحو قولهم كما في موضع من الكافي(1)

(عن طاهر بن حاتم في حال استقامته)، وفي موضع من كمال الدين(2) (عن

ص: 371


1- الكافي: 1/86.
2- كمال الدين: 204.

أحمد بن هلال في حال استقامته)، وما حكاه ابن الغضائري(1) من قولهم: (حدّثنا أبو الخطّاب في حال استقامته)، وقول النجاشي(2):

(حدّثنا الحسين بن عبيد الله بن سهل في حال استقامته).

وثانياً: أنَّه لو سلّم ظهور كلام ابن قولويه في توثيق رواة الكامل في حين تلقّي الروايات المدرجة في الكتاب عنهم، إلّا أنَّ الجمع بين توثيقه وتضعيف غيره بحمل توثيقه على كونه ناظراً إلى حالة استقامة محتملة كانت للشخص - وقد تمّ النقل عنه في الكامل في تلك الحالة - وحمل التضعيف على كونه ناظراً إلى حالة الانحراف اللاحقة، جمع اقتراحي تبرعي ولا عبرة به، ولا أقلّ من جهة عدم قرينة على كون التضعيف ناظراً إلى خصوص تلك الحالة، ومن الواضح أنَّ المقام ليس من موارد حمل المطلق على المقيّد، فإنَّ ذلك يختص بما إذا كان المطلق والمقيّد صادرين من شخص واحد أو من شخصين هما بمنزلة الواحد كإمامين معصومين.

وثالثاً: أنَّه لو غضَّ النظر عمَّا تقدَّم فإنَّ الجمع المذكور غير متّجه من جهة أخرى، وهي ما أشار إليه الأستاذ (دامت افاداته) من أنَّ مضامين جملة من روايات الكذّابين والوضّاعين المذكورة في الكامل تشهد بأنها من مختلقاتهم(3) في دور الضعف لا من رواياتهم قبل ذلك في دور الاستقامة - إن كان لهم دور من هذا القبيل - مع أنَّ الملاحظ عدم اختلاف الرواة عنهم فيها عن رواة سائر رواياتهم، فكيف اقتنع ابن قولويه أنَّها رويت عنهم في

ص: 372


1- الرجال لابن الغضائري: 88.
2- رجال النجاشي: 61.
3- ولعلَّ منها جملة من روايات عبد الله بن عبد الرحمن الأصمّ، ولا سيّما بعض ما روي في باب نوادر الزيارات، فراجعها إن شئت، والظاهر أنَّها مقتبسة من كتابه في الزيارات الذي قال عنه ابن الغضائري: (يدلّ على خبث عظيم ومذهب متهافت).

حال الاستقامة؟!

وأيضاً تقدَّم أنَّ عدداً من الروايات التي أوردها عن المنحرفين مروية عن أناس شاركوهم في الانحراف، كما في علي بن أبي حمزة الذي أخرج له عدَّة روايات عن القاسم بن محمَّد الجوهري وكان واقفياً مثله، وبعض الروايات عن الحسن بن على الوشّاء الذي قضى شطراً من عمره على القول بالوقف، فبطبيعة الحال لم يكن لابن قولويه طريق لإحراز كون تلك الروايات مروية عن ابن أبي حمزة في حال استقامته، فكيف أوردها في كتابه إذا لم يكن يوثّق الرجل حتى بعد انحرافه؟!

ورابعاً: أنَّ لازم كون ابن قولويه ناظراً في توثيقه المزعوم إلى زمان تلقّي الروايات المدرجة في الكامل عن الرواة المذكورين فيه هو أن لا يصح الاستناد إلى توثيقه في البناء على اعتبار سائر ما ورد في جوامع الحديث من روايات للمذكورين في أسانيد الكامل، ممَّا يحتمل أنَّه تمَّ تلقّيها منهم قبل زمن تلقّي رواياتهم في الكامل مع عدم ثبوت وثاقتهم آنذاك.

مثلاً: عبد الرحمن بن سيابة له رواية واحدة في الكامل رواها عنه علي بن النعمان وله عشرات الروايات في الكتب الأربعة وغيرها رواها عنه آخرون، والرجل ممَّن لم يوثّق في كتب الرجال، فإذا بني على كون التوثيق المزعوم لابن قولويه ناظراً إلى زمان تلقّي علي بن النعمان تلك الرواية عنه، فلا ينفع ذاك التوثيق في الاعتماد على سائر رواياته إلّا مع إحراز تلقّيها عنه في زمن تلقّي تلك الرواية أو في ما بعده. وأمَّا مع احتمال تلقّيها قبل ذلك فحيث لا مثبت لوثاقته في حينه - لعدم حجيّة الاستصحاب القهقرى - لا سبيل إلى البناء على حجيّتها، وبذلك تقل جدوى الالتزام بوثاقة رواة كامل الزيارات.

وهو أيضاً على خلاف ما سلكه بعض المراجع الأعلام (دام ظله الوارف) في مصباحه، مثلاً: تراه

ص: 373

اعتمد على رواية لسليمان بن حفص المروزي وردت في مفطّرية إدخال الغبار في الحلق من جهة ورود اسمه في أسانيد كامل الزيارات(1), مع أنَّ الراوي عنه في هذه الرواية هو محمَّد بن عيسى في حين أنَّ الراوي عنه في الكامل في موضع هو الحسين بن زكريا وفي موضع آخر علي بن محمَّد عن بعض أصحابه(2) والظاهر أنَّ المراد بعلي بن محمَّد هو الأشعث بقرينة كون الراوي عنه سلمة بن الخطاب وقد روى عن الأشعث في موضع من معاني الأخبار(3).

ومن الواضح أنَّه لا سبيل إلى إحراز أنَّ رواية محمَّد بن عيسى عن سليمان بن حفص لم تكن متقدّمة زماناً على رواية الحسين بن زكريا والواسطة المبهمة عنه فكيف يمكن البناء على اعتبار روايته الواردة في مفطّرية الغبار إذا كان توثيق ابن قولويه إيّاه ناظراً إلى حال تلقّي الحسين بن زكريا والواسطة المبهمة ما ورد عنه في الكامل؟

(ولا يبعد كون أغلب التضعيفات التي طعن فيها على الغلاة ممَّن تأخّر عن ابن قولويه بعشرات السنين ناشئاً عن اغترارهم بما ذكر من أحوالهم بعد انحرافهم من مقالاتهم الباطلة وترويج بضائعم الكاسدة وعقائدهم الفاسدة، غافلين عن هجران الأصحاب للرواية عنهم حينها وكون ما روي عنهم في كتبنا المعروفة المشهورة إنَّما كان حال استقامتهم ووثاقتهم في الحديث).

أقول: في هذا الكلام إساءة بالغة لأئمَّة الرجال: الشيخ والنجاشي وابن الغضائري, الذين هم تلامذة ابن قولويه بواسطة واحدة, فإنَّ أساتذتهم وهم أعلام الإمامية: الحسين بن عبيد الله والمفيد وابن عبدون كانوا من تلامذة ابن قولويه والراوين

ص: 374


1- مصباح المنهاج (كتاب الصوم): 73.
2- كامل الزيارات: 209, 210.
3- معاني الأخبار: 158.

عنه كتبه ومصنفاته.

فكيف يتصوّر أنَّهم اغتروا بكذا وغفلوا عن كذا وعَلم بذلك من جاء بعدهم بألف عام مع قلّة المصادر وضياع معظم الكتب والأصول؟!

هذا, مع أنَّ الكلام المذكور غير صحيح من أصله ولا يبتني على التتبع والتحقيق، فإنَّ من له إلمام بطريقة الأصحاب في تأليف كتب الروايات والأحاديث يعلم أنَّهم لم يكونوا يقتصرون فيها من روايات الغلاة والفاسدين على ما تمَّ تلقّيها منهم قبل انحرافهم. ومن شواهد ذلك أنَّ كتاب نوادر الحكمة لمحمَّد بن أحمد بن يحيى الذي كان من أشهر كتب الحديث عند الإمامية، وقد عدّه الصدوق (قدس سره) في مقدمة الفقيه(1) من (الكتب المشهورة التي عليها المعوّل وإليها المرجع) استثنى منه بنفسه عند روايته إياه في فهرسته(2) (ما كان فيه من غلوّ وتخليط) مصرّحاً بأنَّه يقصد به ما كان من روايات من ذكرهم أستاذه ابن الوليد.

ومن الشواهد عليه أيضاً ما تقدَّم آنفاً من التقييد بحال الاستقامة في بعض روايات الغلاة ومنحرفي المذهب، فإنَّه إذا كان دأبهم الإعراض عن روايات هؤلاء بعد انحرافهم فما الوجه في التقييد المذكور؟! ولحشد سائر الشواهد على هذا محلّ آخر.

(وأمَّا ادعاء كون الاستقامة في كثير من المنحرفين فرضاَ لا شاهد عليه فيدفعه كلام الشيخ الطوسي (رحمة الله) في عدّته: وأمَّا ما ترويه الغلاة والمتّهمون والمضعّفون وغير هؤلاء فما يختص الغلاة بروايته فإن كانوا ممّن عرف لهم حال استقامة وحال غلوّ عمل بما رووه في حال الاستقامة وترك ما رووه في حال خطئهم، ولأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطّاب محمَّد بن أبي زينب في حال استقامته وتركوا ما رواه في حال تخليطه، وكذلك

ص: 375


1- من لا يحضره الفقيه: 1/4.
2- فهرست كتب الشيعة وأصولهم: 410.

القول في أحمد بن هلال العبرتائي وابن أبي عذافر وغير هؤلاء، فأمَّا ما يرويه في حال تخليطهم فلا يجوز العمل به على كلّ حال، وكذلك القول فيما ترويه المتّهمون والمضعّفون.

وكلامه (رحمة الله) إن دلّ على شيء فإنَّما يدلّ على حالة متفشّية في كثير من الرواة، بنحو يتناسب معها الرواية عنهم وإدراج مروياتهم في كتب الأصحاب الذين يحترزون عادة عن أخبار من اشتهر بالكذب والوضع والغلوّ لولا كونها منقولة عنهم زمن الاستقامة، ولا يسع المجال لحشد الشواهد وجلب الموارد).

أقول: إنَّ احتمال وجود حالة استقامة لأولئك المضعّفين المذكورين في كامل الزيارات كانوا فيها من ثقات أصحابنا لا يعدو كونه مجرّد احتمال لا شاهد عليه بوجه، بل ينبغي القطع بخلافه في أكثرهم، فإنَّه لو كانت لأكثرهم حالتان من هذا القبيل لتمثّل ذلك في كتب الرجال، كما نجده بالنسبة إلى بعض الرواة ممَّن كانوا منحرفين ثمَّ اهتدوا أو كانوا مهتدين ثمَّ انحرفوا.

ومن الغريب الاستشهاد للمدّعى المذكور بكلام الشيخ (قدس سره) في العدّة ودعوى دلالته على أنَّ ذلك كان أمراً متفشّياً، فإنَّه لا يستفاد من كلامه (قدس سره) تفشّي الحالة المذكورة، بل مجرّد وجودها بمقدار معتدّ به، وهذا لا ينكر. ولذلك نبَّه على ضرورة الاقتصار في العمل برواياتهم على ما كانت من مروياتهم في زمان الاستقامة إلّا مع احتفافها بالقرائن.

ولكنّ الكاتب ضمَّ إلى ذلك ما زعمه من تحرّز الأصحاب عادة عن أخبار المشهورين بالكذب والوضع والغلوّ، فاستنتج منه أنَّ روايات هؤلاء المبثوثة في كتبنا إنَّما هي منقولة عنهم في زمن الاستقامة.

إلَّا أنَّ هذا وهم محض، بل هي بقسميها مبثوثة في كتبنا، ومتى أُريد التمييز بينهما قُيّد النقل عنهم بحال الاستقامة كما مرَّ بعض نماذجه.

ص: 376

(ثمَّ كلامه (رحمة الله) صريح في مفروغية الأصحاب عن ترك ما رواه الغلاة وأضرابهم حال انحرافهم وفسادهم، فما ورد في كتبنا يحمل على ذاك المحمل الحسن، وأمَّا ادعاء كونها كلّها مروية عنهم في حال الانحراف لأنَّها اقترنت بقرائن الاطمئنان بالصدور فبعيد جدّاً في مثل هذه الموارد الكثيرة التي لا تخفى على من راجعها من روايات وكتب ومصنّفات وأصول لم تهجر ولم تُستثنَ، وهذا باب وسيع يحتاج إلى فرصة أخرى إن شاء الله تعالى).

أقول: ما ذكره الشيخ (قدس سره) إنَّما هو عدم العمل بروايات الغلاة وأمثالهم إذا كانت مروية عنهم حال تخليطهم، لا عدم إيرادها في كتب الحديث، بل يظهر منه المفروغية عن تداول إيرادها فيها، ولذلك احتاج إلى التنبيه على ضرورة عدم العمل بهذا القسم من رواياتهم.

وهذا أيضاً ليس على إطلاقه بل فيما إذا لم تكن قرينة على صحّتها، وقد بتر الكاتب كلامه (قدس سره) وحذف المقطع الدال على هذا المعنى، وهو قوله(1): (وإنْ كان هناك ما يعضد روايتهم ويدلّ على صحّتها وجب العمل به، وإن لم يكن هناك ما يشهد لروايتهم بالصحّة وجب التوقف في أخبارهم).

وذكر (قدس سره) في موضع آخر من العدّة(2)

ما لفظه: (فأمَّا ما رواه الغلاة ومن هو مطعون عليه في روايته ومتّهم في وضع الأحاديث فلا يجوز العمل بروايته إذا انفرد، وإذا انضاف إلى روايته رواية بعض الثقات جاز ذلك ويكون ذلك لأجل رواية الثقة دون روايته).

وبما ذكره في الموضعين يظهر الوجه في ما يلاحظ من وجود أعداد غير قليلة من روايات الضعفاء والمطعونين في كتب المتقدّمين حتى ما كانت معدّة للعمل بها

ص: 377


1- العدّة في أصول الفقه: 1/151.
2- المصدر السابق: 1/135.

كالكافي والفقيه.

(فظهر جلياً كون الاستبعاد المدّعى في غير محلّه، والحمد لله).

أقول: بل تجلّى بأوضح من ذي قبل تماميَّة الاستبعاد المذكور وأنَّه في محلِّه جدّاً، بل يبدو لي كونه مع سائر الشواهد والقرائن موجباً للاطمئنان بعدم كون ابن قولويه قاصداً بما أورده في مقدّمة الكامل توثيق جميع رواته.

وقد تمَّ تحرير هذه التعقيبات وإعادة صياغتها والإضافة عليها بمراجعة السيد الأستاذ (دامت افاداته), وأرى لزاماً عليَّ أن أقدِّم له خالص شكري وامتناني على بالغ عنايته وجميل رعايته لإنجازها بهذه الصورة.

والحمد لله أوَّلاً وآخراً وصلّى الله على نبيّه وآله الأطهار.

* * *

ص: 378

المصادر

1. اختيار معرفة الرجال, محمَّد بن عمر بن عبد العزيز الكشّي, مع تعليقات الميرداماد الأسترآبادي, تحقيق: السيد مهدي الرجائي, الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث, 1404 ﻫ, قم.

2. استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار, الشيخ محمَّد بن الحسن بن الشهيد الثاني, الناشر: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث, 1419ﻫ, ط 1 قم.

3. الأمالي, الشيخ الصدوق, الناشر: مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة, 1417ﻫ, ط1 قم.

4. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمَّة الأطهار, العلّامة محمَّد باقر المجلسي, الناشر: مؤسسة الوفاء, 1403ﻫ, ط2 بيروت.

5. التنقيح في شرح العروة الوثقى (كتاب الصلاة), الميرزا علي الغروي التبريزي, تقرير أبحاث السيد الخوئي, الناشر: مؤسسة أنصاريان, 1417ﻫ, ط4 قم.

6. تهذيب الأحكام, الشيخ محمَّد بن الحسن الطوسي, الناشر: دار الكتب الإسلامية, 1377ﻫ, ط2 النجف الأشرف.

7. التوحيد, الشيخ الصدوق, تصحيح السيد هاشم الحسيني الطهراني, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم.

8. خلاصة الرجال, العلّامة الحلّي, تحقيق: السيد محمَّد صادق آل بحر العلوم, منشورات المطبعة الحيدرية, 1381ﻫ, ط2 النجف الأشرف.

9. الذريعة إلى تصانيف الشيعة, الشيخ آغا بزرك الطهراني, الناشر: دار الأضواء, 1403ﻫ, ط3 بيروت.

10. رجال ابن داود, الحسن بن علي بن داود الحلّي, منشورات جامعة طهران, 1383ﻫ,

ص: 379

طهران.

11. الرجال لابن الغضائري, أحمد بن الحسين بن عبيد الله البغدادي, تحقيق: السيد محمَّد رضا الحسيني الجلالي, الناشر: دار الحديث, 1422ﻫ, ط1 قم.

12. رجال السيد بحر العلوم, السيد محمَّد مهدي بحر العلوم, تحقيق: السيد محمَّد صادق والسيد حسين بحر العلوم, 1405ﻫ, ط طهران.

13. رجال الطوسي, الشيخ محمَّد بن الحسن الطوسي, تصحيح: جواد القيّومي الأصفهاني, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم, 1427ﻫ, ط3 قم.

14. رجال النجاشي, أحمد بن علي النجاشي, تصحيح: السيد موسى الشبيري الزنجاني,, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم, 1407ﻫ, قم.

15. العدّة في أصول الفقه, الشيخ محمَّد بن الحسن الطوسي, تحقيق: محمَّد رضا الأنصاري القميّ, 1417ﻫ, ط1 قم.

16. عيون أخبار الرضا (علیه السلام), الشيخ الصدوق, تصحيح: الشيخ حسين الأعلمي, منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات, 1404ﻫ, بيروت.

17. الغيبة للطوسي, الشيخ محمَّد بن الحسن الطوسي, تحقيق: الشيخ عباد الله الطهراني والشيخ علي أحمد ناصح, الناشر: مؤسسة المعارف الإسلامية, ط1 قم.

18. فلاح السائل, السيد علي بن موسى بن طاووس, منشورات المكتبة الحيدرية, 1385ﻫ, النجف الأشرف.

19. فهرست كتب الشيعة وأصولهم, الشيخ محمَّد بن الحسن الطوسي, تحقيق: السيد عبد العزيز الطباطبائي, إعداد مكتبة المحقّق الطباطبائي, 1420ﻫ, ط1 قم.

ص: 380

20. الفوائد الرجالية من مصباح المنهاج, السيد محمَّد سعيد الطباطبائي الحكيم, إعداد وترتيب: السيد أحمد بن زيد الموسوي, منشورات دار الهلال, 1436ﻫ, قم.

21. قاموس الرجال, الشيخ محمَّد تقي التستري, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم, 1431ﻫ, ط3 قم.

22. قبسات من علم الرجال, أبحاث السيد محمَّد رضا السيستاني, جمعها ونظمها السيد محمَّد البكاء, نسخة أوّليّة محدودة التداول, 1436 ﻫ, النجف الأشرف.

23. الكافي, محمَّد بن يعقوب الكليني, تحقيق: علي أكبر الغفاري, منشورات دار الكتب الإسلامية, 1379ﻫ, طهران.

24. كامل الزيارات, جعفر بن محمَّد بن قولويه القمي, تحقيق: الشيخ عبد الحسين الأميني, المطبعة المرتضوية في النجف الأشرف, 1356ﻫ, و ط قم منشورات مؤسسة نشر الفقاهة, و ط طهران بإشراف علي أكبر الغفاري منشورات مكتبة الصدوق.

25. كشف اللثام, الشيخ محمَّد بن حسن الأصفهاني المعروف بالفاضل الهندي, تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم, 1416ﻫ, ط1 قم.

26. كمال الدين, الشيخ الصدوق, تحقيق: علي أكبر الغفاري, منشورات دار الكتب الإسلامية, 1395ﻫ, طهران.

27. المحاسن, أحمد بن محمَّد بن خالد البرقي, تحقيق السيد جلال الدين المحدّث, منشورات دار الكتب الإسلامية, 1370ﻫ, طهران.

28. مسالك الأفهام, الشهيد الثاني, تحقيق: مؤسسة المعارف الإسلامية, 1413ﻫ, ط1 قم.

29. مستدرك الوسائل (الخاتمة), الميرزا حسين النوري, تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام)

ص: 381

لإحياء التراث, 1415ﻫ, ط 1 قم.

30. مستند الناسك, الشيخ مرتضى البروجردي, تقريرات السيد الخوئي, منشورات دار المؤرخ العربي, 1435ﻫ, بيروت.

31. مصباح المنهاج (كتاب التجارة), السيد محمَّد سعيد الطباطبائي الحكيم, الناشر: دار الهلال, 1427ﻫ, قم.

32. مصباح المنهاج (كتاب الصوم), السيد محمَّد سعيد الطباطبائي الحكيم, الناشر: دار الهلال, 1425ﻫ, قم.

33. مصباح المنهاج (كتاب الطهارة), السيد محمَّد سعيد الطباطبائي الحكيم, الناشر: مؤسسة المنار, 1417ﻫ, قم.

34. معاني الأخبار, الشيخ الصدوق, تحقيق: علي أكبر الغفاري, منشورات دار الكتب الإسلامية, 1379ﻫ, ط طهران.

35. معجم رجال الحديث, السيد أبو القاسم الخوئي, ط النجف الأشرف.

36. من لا يحضره الفقيه, الشيخ الصدوق, الناشر: دار الكتب الإسلامية, 1377ﻫ, النجف الأشرف.

37. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة, الشيخ محمَّد بن الحسن الحرّ العاملي, ط المكتبة الإسلامية, 1391ﻫ ط بيروت, و ط مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لاحياء التراث, 1409 ﻫ. ط1 قم.

ص: 382

رسالة اللباس المشکوک - الشیخ محمد اسماعیل الغروی المحلاتی (قدس سره)

اشارة

رسالة

اللباس المشکوک

تألیف

آیة الله المحقق

الشیخ محمد اسماعیل الغروی المحلاتی (قدس سره)

تحقیق

مجلة دراسات علمیة

ص: 383

ص: 384

المقدمة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطيبين الطاهرين الهداة المهديين.

وبعد: فإنَّ ممَّا يشترط في لباس المصلّي - كما دلّت عليه النصوص(1) وتطابقت عليه الفتاوى(2)- هو أنْ لا يكون مأخوذاً من أجزاء ما لا يجوز أكل لحمه من الحيوانات أو من خصوص السباع منها.

وقد طرح في كلمات الفقهاء (قدس سرهم) منذ عصر العلّامة الحلّي (طاب ثراه)(3) بحثٌ في حكم اللباس المشكوك كونه مأخوذاً من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، وأنَّه هل تجوز الصلاة فيه أو لا؟

والمشهور بينهم منذ ذلك العصر إلى زمان آية الله المجدّد السيّد ميرزا محمَّد حسن الشيرازي (قدس سره) هو القول بعدم الجواز، وكان القائل بالجواز نادراً كالمحقّق الأردبيلي(4) والسيّد صاحب المدارك(5) والشيخ البهائي(6)

(قدس سرهم)، ولكن لمّا ذهب المجدّد الشيرازي إلى القول بالجواز وأقامه على أسس جديدة انعكس الحال وأصبح هو القول المعروف بين من تأخّر عنه وشذّ القائل بالمنع.

قال المحقّق النائيني (قدس سره) في مقدّمة رسالته في اللباس المشكوك ما لفظه: (حيث

ص: 385


1- لاحظ الكافي: 3/ 397 وما بعدها، وتهذيب الأحكام: 2/ 205 وما بعدها.
2- لاحظ الخلاف: 1/ 511، ومنتهى المطلب: 4/ 206، وجواهر الكلام: 8/ 74.
3- لاحظ منتهى المطلب: 4/ 236.
4- لاحظ مجمع الفائدة والبرهان: 2/ 95.
5- لاحظ مدارك الأحكام: 3/ 167.
6- لاحظ الحبل المتين: 181.

عمّت البلوى في أزمنتنا هذه بما يُشكّ في اتخاذه من أجزاء غير المأكول - لكثرة ما يجلب إلينا من بلاد الكفر - وكانت الشهرة السابقة قائمة على عدم جواز الصلاة فيه إلى أنْ انتهت رئاسة الإمامية وسياستها إلى طود عزّها وسنام فخارها، واحد دهورها وأعصارها، ربانيّ علومها وقطب رحاها.. مجدّد المذهب في رأس المائة الرابعة عشر، علّامة دهره وآية الله العظمى في عصره، بيضاء شيراز وغرّة الغري، حضرة الميرزا محمَّد حسن الحسيني العسكري أفاض الله تعالى على تربته الزكيَّة من الرحمة أزكاها.. فلقد أصلح في الدنيا والدين أمر الأمَّة وأحسن الخلافة للأئمَّة وأعطى كلّ مسألة من أمهات المسائل ومعضلاتها حقّها من التحقيق وأتى فيها بما لا ينفكّ تصوره عن التصديق، فمن ذلك أنَّه (قدس سره) بنى في المشكوك على جواز الصلاة فيه وأسسه على أتقن أساس وجدّده بعد الهجر والاندراس، فباختياره له خرج عن الشذوذ وانعكس الأمر وعادت المسألة كمسألة ماء البئر)(1).

والملاحَظ أنَّ مسألة الصلاة في اللباس المشكوك قد حظيت باهتمام كبير وشغلت مساحة مهمَّة من أبحاث المحقّقين منذ أنْ بنى فيها المجدّد الشيرازي على القول بالجواز، فكتب فيها عدد من الأعلام بحوثاً مفصَّلة ورسائل خاصَّة، وضمَّنها بعضهم أهمَّ آرائه الأصوليَّة وتحقيقاته العلميَّة.

وممَّن ألَّف فيها من معاصري المجدّد الشيرازي العلمان الكبيران الشيخ حبيب الله الرشتي والشيخ محمَّد حسن الآشتياني (قدس سرهما)، وأمَّا بعده فقد ألَّف فيها غير واحد من

ص: 386


1- هذا ما ورد في النسخة المخطوطة من رسالة المحقّق النائيني التي هي مصحَّحة بخطّه الشريف وكانت في مكتبة آية الله السيّد ميرزا علي آقا نجل المجدّد الشيرازي, وقد ذكرها العلّامة الطهراني في الذريعة (18/ 295)، ولكن المطبوع منها مع منية الطالب سابقاً وبصورة مستقلّة مؤخّراً يختلف عن المخطوطة لأنَّه (قدس سره) أجرى عليها تغييرات وتعديلات لاحقاً.

الأعاظم كالمحقّق النائيني - كما أسلفنا - والمحقّق العراقي والعلّامة الشهيدي والمحقّق الإيرواني والعلّامة البلاغي والسيّد الخوئي (رضوان الله تعالی علیهم) وغيرهم.

وممَّن ألَّف فيها أيضاً العلّامة الكبير آية الله المحقّق الشيخ محمَّد إسماعيل المحلّاتي (طاب ثراه) مسطِّراً هذه الرسالة التي بين أيدينا، وحيث إنَّه لم يسبق طبعها - كمعظم آثاره وتراثه - فقد ارتأينا تحقيقها ونشرها، ليستفيد منها المعنيّون بمثلها من الدراسات العلميَّة.

وقد صدّرناها بمقدّمة تتضمّن أمرين:

1 - موجز في ترجمة المؤلِّف (قدس سره).

2 - التعريف بالمؤلَّف, أي هذه الرسالة.

نرجو أنْ نكون قد وفّقنا لإنجاز ما قصدناه، وما التوفيق إلّا بالله عليه توكّلنا وإليه أنبنا وإليه المصير.

ص: 387

آية الله المحقّق الشيخ محمَّد إسماعيل الغروي المحلّاتي (طاب ثراه)

ص: 388

موجز في ترجمة المؤلف (طاب ثراه)

اشارة

موجز في ترجمة المؤلف (طاب ثراه)(1)

1. نسبه ونسبته

هو الشيخ محمَّد إسماعيل ابن المولى محمَّد علي بن زين العابدين الغروي المحلّاتي.

كان والده من أجلّة علماء عصره، ذكر المحدِّث النوري (رحمة الله) أنَّه لازمه عدَّة أعوام، ثمَّ أثنى عليه ثناءً بالغاً، قائلاً: كان عالماً جليلاً، عابداً، ورعاً، متبحّراً في الأصول، بارعاً في الفقه، مجانباً لأهل الدنيا ولذائذها، مشغولاً بنفسه وإصلاح رمسه، ولم يدخل في مناصب الحكومة والفتوى وأخذ الحقوق وغيرها.

2. ولادته ونشأته

ولد (قدس سره) في عصر يوم الأربعاء 28 جمادى الأولى عام 1269 ﻫ في بلدة (محلّات) التي هي من توابع مدينة أصفهان الشهيرة في إيران، وقد نشأ فيها في كنف والده المعظّم ووالدته الجليلة التي كانت - كما وصفها بنفسه - من النساء الصالحات في عصرها وذات صفات حسنة مع المواظبة على العبادات والأذكار ولا سيَّما صلاة الليل.

وقد بدأ في الخامسة من عمره بتعلّم القرآن الكريم وبعض الكتب الفارسية المتداول - آنذاك - تعليمها للصغار.

ص: 389


1- عمدة المصادر التي استقينا منها هذه الترجمة هي: أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين، أنوار العلم والمعرفة للشيخ محمَّد إسماعيل المحلّاتي (ترجمة المؤِّلف)، الذريعة إلى تصانيف الشيعة للشيخ آغا بزرك الطهراني، طبقات أعلام الشيعة للشيخ آغا بزرك الطهراني، تنقيح الأبحاث عن أحكام النفقات الثلاث للشيخ محمَّد إسماعيل المحلّاتي (ترجمة المؤلف بقلم السيّد هاشم الرسولي المحلّاتي)، مستدرك وسائل الشيعة (الخاتمة) للشيخ ميرزا حسين النوري، گفتارخوش يارقلي للشيخ محمَّد المحلّاتي (ترجمة المؤلف بقلم السيّد شهاب الدين المرعشي)، كتاب الاستصحاب للسيّد مرتضى النجومي (المقدّمة)، گلشن أبرار (ترجمة شيخ إسماعيل محلّاتي بقلم نور الدين علي لو).
3. دراسته وحياته العلميَّة

لمّا بلغ (طاب ثراه) الثامنة من عمره تصدّى والده بنفسه لتعليمه العلوم العربية من النحو والصرف والبلاغة وغيرها، وعند بلوغه الثانية عشرة درس على يده كتب السطوح في علم أصول الفقه كالمعالم والقوانين وغيرهما.

وفي أوائل بلوغه غادر مسقط رأسه (محلّات) إلى العاصمة طهران وتعلَّم كتاب (الرسائل) للشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) على يدي عَلَمين بارزين من تلامذته، وهما الميرزا أبو القاسم النوري الطهراني صاحب (مطارح الأنظار) والميرزا محمَّد حسن الآشتياني صاحب الحاشية الكبيرة على الرسائل، واشتغل إلى جنب ذلك بتعلّم عدد من الكتب المؤلّفة في العلوم العقليَّة والرياضيات.

وفي عام 1289ﻫ غادر طهران إلى العراق - وهو في غاية الفقر والعسر - فورد كربلاء المقدَّسة في أوَّل شهر رمضان المبارك، وحضر في هذا الشهر الفضيل عند العَلَمين الجليلين المولى حسين الأردكاني والشيخ زين العابدين المازندراني (رضی الله عنه)، ثمَّ توجّه نحو النجف الأشرف في الثاني من شهر شوّال المكرّم، وسكن المدرسة التي تقع في جنب الصحن الحيدري الشريف(1) أربعة أشهر، ثمَّ انتقل إلى مدرسة الصدر الأعظم الواقعة في السوق الكبير.

واختار في النجف الأشرف الحضور عند ثلاثة من أجلّ تلامذة الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره), وهم: الميرزا محمَّد حسن الشيرازي، والشيخ حبيب الله الرشتي، والسيّد حسين الكوهكمري (قدس سرهم)، ثمَّ اختصّ بالأوَّل منهم إلى أنْ غادر المدينة المقدَّسة في أواخر

ص: 390


1- هكذا ذكر (قدس سره) فيما كتبه بقلمه في ترجمة نفسه, وأضاف أنَّ تلك المدرسة خراب في الوقت الحاضر, ولم يُعلم مراده بها, ولعلَّ المقصود ما يعرف في زماننا بالمدرسة الغرويّة التي أُعيد تعميرها في السنوات الأخيرة وأصبحت مدرساً لإلقاء الدروس الحوزويّة.

عام 1291ﻫ إلى إيران وتوقّف فيها قريباً من عامين، ثمَّ رجع إلى العراق عام 1293ﻫ فالتحق بالسيّد المجدِّد الشيرازي الذي كان قد انتقل إلى سامراء واستقر فيها مع جمع من الفضلاء والطلّاب.

وفي أواسط عام 1294ﻫ غادر سامراء إلى إيران وسكن مدينة (بروجرد) عدَّة أعوام اشتغل خلالها بتدريس كتاب الرسائل وسائر كتب الشيخ الأعظم الأنصاري، بالإضافة إلى اشتغالاته العلميَّة الأخرى.

ولكنَّه عزم على العود إلى العراق مرَّة أخرى، فوصل سامراء المقدَّسة في شهر ربيع الثاني عام 1312ه-، إلّا أنَّ السيّد المجدِّد الشيرازي توفّي بعد ذلك ببضعة أشهر، فارتأى الانتقال إلى النجف الأشرف وتمَّ له ذلك في أوائل شعبان عام 1313ﻫ واستقر فيها مشتغلاً بالتدريس والتأليف إلى آخر عمره الشريف.

4. آثاره ومؤلّفاته

قال العلّامة الشيخ آغا بزرك الطهراني (طاب ثراه): (له تصانيف كثيرة في الفقه والأصول والكلام والرجال وغيرها) ثم أورد أسماء عدد منها، وما اطّلعنا عليه أو ورد ذكره في المصادر المتاحة لنا هو:

1. أنوار العلم والمعرفة، قال العلّامة الطهراني: (فارسي ملمّع في الكلام، أثبت فيه الأصول الدينيَّة ببيانات وافية ونكات دقيقة وشرح بعض الآيات والأحاديث المشكلة في هذه الأبواب وردّ على أكثر الفرق من أهل الضلال).

وقد طبع الجزء الأوَّل منه في (162) صفحة بالحجم الوزيري في المطبعة المرتضويّة في النجف الأشرف في عام 1342ﻫ، وتوجد عدَّة نسخ خطّية منه في مكتبة السيّد المرعشي في قم المقدَّسة.

ص: 391

2. اللآلئ المربوطة في وجوب المشروطة، وهو من أشهر مؤلّفاته، كَتَبه باللغة الفارسية في نصرة الحركة الدستورية في إيران، وقد طبع في بندر بوشهر على الحجر في عام 1327ﻫ في (59) صفحة.

ومن الغريب أنَّه ذُكر في بعض المصادر بعنوان ( اللآلئ المربوطة في حقيقة المشروطة الذهنية وإنْ امتنع وجودها خارجاً كشريك الباري)!

3. تنقيح الأبحاث في النفقات الثلاث، أي نفقة الزوجة والأقارب والمِلْك، قال العلّامة الطهراني: (بسط فيه القول في مقتضى الأدلة في هذه النفقات وتكلّم في الفروع المتفرّعة عليها عند الأصحاب، وقد ألَّفه في حياة ولده البارع آغا محمَّد المتوفّى سنة 1337ﻫ).

وظاهر كلامه أنَّه تامّ، ولكن المطبوع منه في عام 1383ﻫ - بالحجم الرقعي في (152) صفحة في مطبعة حكمت بقمّ بتصحيح السيّد هاشم الرسولي المحلّاتي - لا يشتمل إلّا على أحكام نفقة الزوجة والأقارب، ولعلَّ الباقي فُقِدَ بعد التدوين. وهكذا نسخته المخطوطة في مكتبة السيّد المرعشي في قمّ المقدَّسة برقم (9587).

4. الدرر اللوامع، قال العلّامة الطهراني: (رأيته بخطّه، أوَّله بعد الخطبة المختصرة: (فهذه جملة من الدرر اللوامع الغرويَّة من شتات القضايا الفقهيَّة والأصوليَّة والرجاليَّة) وفيه فوائد جليلة وأفكار رائعة في مسائل العلوم المذكورة.

وتوجد أوراق منه - تتضمَّن الفرق بين الهديّة والرشوة وجواز حكم الحاكم بعلمه وهما باللغة الفارسية - منضمَّة إلى رسالة تنقيح الأبحاث المتقدِّمة في مكتبة السيّد المرعشي في قمّ المقدَّسة بالرقم المتقدِّم.

5. رسالة اللباس المشكوك، وهي التي بين أيدينا، وسيأتي الكلام حولها إنْ شاء الله تعالى.

6. لباب الأصول بإسقاط الزوائد والفضول، قال (قدس سره) في ما ترجم به لنفسه في عام

ص: 392

1342ﻫ: أنا مشغول بتأليفه في هذه الأيام ويقول بعض العارفين من أهل الخبرة أنَّه لو تمَّ لما رئي مثله في كتب هذا العلم.

ولكن لم يمهله الأجل لإتمامه، فقد ذكر العلّامة الطهراني أنَّه خرج منه جملة من مباحث الألفاظ، وقال السيّد الأمين أنَّه خرج منه إلى مقدّمة الواجب.

7. نفائس الفوائد في أصول الفقه، قال العلّامة الطهراني إنَّه ألَّفه قبل لباب الأصول، وذكره السيّد الأمين وسمّاه ب- (نفائس الأصول).

8. الكلمات الموجزة، قال العلّامة الطهراني: (هي فوائد كلاميَّة وأخلاقيَّة وسياسيَّة وتاريخيَّة وفوائد أخرى نافعة وبعض القصائد ومدائح أهل البيت ومراثيهم).

9. الحاشية على الملل والنحل للشهرستاني، قال العلّامة الطهراني: (إنَّها حاشية مبسوطة على الجزء الثالث من الكتاب عند البحث عمّا يتعلَّق بالإمامة).

10. ديوان شعر، ذكره بعض الباحثين، والذي ذكره العلّامة الطهراني هو (أنَّ له شعراً كثيراً في مدائح الأئمَّة ومراثيهم).

11. الحاشية على الرسائل.

12. الحاشية على المكاسب.

13. رسالة في الردّ على الشبهة الألمانية.

14. رسالة في الردّ على المسيحيَّة والماديَّة.

وهذه الأربعة الأخيرة ذكرها السيّد الأمين ولم نجد ذكرها في كلمات العلّامة الطهراني.

5. فكره ونشاطه السياسي

يعدّ العلّامة المحلّاتي (طاب ثراه) أحد أهمّ المنظّرين من علماء الدين للحركة الدستورية المسمّاة ب- (المشروطة) التي جرت أحداثها في إيران في أوائل القرن الماضي، وقد بذل

ص: 393

جهداً كبيراً في دعمها وتأييدها من خلال تأليف كتابه (اللآلئ المربوطة في وجوب المشروطة) المارّ ذكره، وكذلك إصدار العديد من البيانات التي حظيت باهتمام العلماء البارزين المؤيّدين للمشروطة كآية الله المحقّق الشيخ محمَّد كاظم الخراساني وآية الله الشيخ عبد الله المازندراني (رضی الله عنه).

وقد أصدر الأوَّل بياناً طلب فيه من المسلمين أنْ يرجعوا إلى ما كتبه العلّامة المحلّاتي لمعرفة ما على عواتقهم من التكاليف الشرعيّة في حفظ بيضة الإسلام وفَهْم حقيقة ما صدر منه - أي من آية الله الخراساني - من الحكم بأنَّ المخالف لأساس المشروطة بمنزلة المحارب مع إمام العصر أرواحنا فداه، على حدّ ما ورد في بيانه.

وقد صدرت عدَّة دراسات ومقالات حول رؤية العلّامة المحلّاتي إلى المشروطة ونظريته السياسيَّة في الحكم في زمن الغيبة الكبرى، والمقارنة بينها وبين نظريَّة معاصره المحقق النائيني (قدس سره) مؤلِّف (تنبيه الأمَّة وتنزيه الملَّة).

ومن تلك الدراسات والمقالات (در پرتو مشروطه خواهي) بقلم: محسن هجري، و(مروري بر حيات وانديشه سياسي شيخ محمَّد إسماعيل غروي محلاتي) بقلم: أحمد حسين زاده، و(علّامة شيخ إسماعيل محلاتي انديشمند نامدار مشروطه) بقلم: إسماعيل روحانى، و(مشروطه ومشروطه خواهى از ديد عالم وارسته شيخ محمَّد إسماعيل محلّاتى) بقلم: جواد روحاني.

تبقى الإشارة إلى أنَّ تأييد ودعم العلّامة المحلّاتي لحركة المشروطة كان في إطار اهتمامه وسعيه لإحداث تغيير في أحوال المسلمين، بالنظر إلى ما كان - ولا يزال - يعانونه من استبداد الحكّام وتفشّي الجهل والفرقة والفقر في صفوفهم.

وكان (طاب ثراه) يؤمن بأنَّ بإمكان المسلمين أنْ يحظوا بحكم رشيد يوفّر لهم جميع حسنات المدنيَّة الحديثة من دون المساس بمعتقداتهم الدينيَّة، وقد طلب من الشيخ آغا بزرك

ص: 394

الطهراني أنْ يترجم إلى الفارسية كتاب (تعريف الأنام بحقيقة المدنيَّة والإسلام) لمحمَّد فريد وجدي الذي حاول أنْ يثبت فيه ملائمة الإسلام للتمدّن، وقد تمَّت الترجمة ونشر جزء منها في مجلَّة (درَّة النجف) التي كانت تصدر آنذاك.

6. خصاله وصفاته الحميدة

كان (رضوان الله علیه) معروفاً بالورع والزهد وكثرة العبادة والابتعاد عن الشهرة، وقد هاجر من إيران إلى العتبات المقدَّسة في العراق مع ما كان يتهيأ له في إيران من رفاهيَّة نسبيَّة بسبب أنَّه رأى - كما كتب بنفسه - أنَّ العِشرة مع الناس هناك لا تنسجم مع حقيقة العبوديَّة لله تعالى، في إشارة إلى ما كان يقتضيه ذلك من استعمال المداهنة والمجاملة ونحوهما ممّا لم يكن تطيقه نفسه.

وكان (طاب ثراه) يعاني في النجف الأشرف من فقر مدقع وضيق شديد في المعيشة وهو صابر على هذا الحال، وممّا يحكى بهذا الصدد أنَّ بعض الأجلّة ممّن كان مطّلعاً على حالته طلب من مرجع الشيعة الإمامية في وقته آية الله السيّد محمَّد كاظم الطباطبائي اليزدي (قدس سره) أنْ يخصّص له راتباً شهرياً يعينه على مصاعب الزمان، فطلب السيّد (طاب ثراه) أنْ يكتب المترجَم له رسالة في أحكام النفقات الثلاث حتى يقف بنفسه على مبلغه من العلم، فكتب (قدس سره) رسالته المعروفة (تنقيح الأبحاث) التي مرَّ ذكرها، فلمّا اطّلع عليها السيّد الطباطبائي أكبر مكانته العلميَّة وخصّص له راتباً شهرياً مناسباً، ولكن لم تطل أيام السيّد وتوفّي بعد ذلك ببضعة أشهر فانقطع ذلك الراتب.

7. كلمات الثناء عليه

قال آية الله المحقّق الشيخ محمَّد كاظم الخراساني في توصيفه: (صفوة الفقهاء والمجتهدين، ثقة الإسلام والمسلمين، العالم الكامل العادل آقاي آقا شيخ إسماعيل

ص: 395

مجتهد محلّاتي نجفي..).

وقال عنه العلّامة الطهراني: (عالم كبير ومحقّق متفنن).

ووصفه السيّد الأمين بقوله: (كان مجتهداً محقّقاً دقيق النظر جيّد التأليف).

وقال الشيخ ميرزا محمَّد باقر الزنجاني: (الحبر المعتمد، والعلّامة الأوحد، عماد الأعلام، أكمل المتبحّرين، وأفضل المتكلّمين حجّة الإسلام الشيخ إسماعيل المحلّاتي).

وقال السيّد شهاب الدين المرعشي: (العلّامة النحرير، زاهد الزمان، المحقّق المدقّق في السمعيّات والعقليّات، آية الله العظمى الشيخ محمَّد إسماعيل المحلّاتي النجفي..).

8. طلّابه وتلامذته

لقد كان العلّامة المحلّاتي (قدس سره) مشتغلاً بالبحث والتدريس عقوداً من الزمن، سواءً في بروجرد، أو سامراء، أو النجف الأشرف، ومن المؤكّد أنَّه حضر عنده أعداد كبيرة من الطلّاب، ولكن التاريخ لم يحفظ لنا إلّا أسماء عدد محدود منهم، وممّن اطلعنا على أسمائهم:

1. نجله الشيخ محمَّد المحلّاتي.

2. الشيخ محمود شريعتمدار الأسترآبادي الطهراني، قال العلّامة الطهراني: له

رسالة في إمكان الترتّب والأمر بالضدين على سبيل الترتيب، كتبها أوَّلاً على ترتيب بحث أستاذه المحلّاتي المصرّ على القول بإمكان الأمر الترتّبي وذلك في حدود نيّف وعشرين وثلاثمائة وألف في النجف، ثمَّ لمّا هاجر إلى سامراء كتب المسألة ثانياً على ترتيب تقرير بحث أستاذه شيخنا الميرزا محمَّد تقي الشيرازي المصرّ على القول بامتناع الأمر الترتّبي، فكان يقرّر أوَّلاً دليل الامتناع، ثمَّ يردّه ببيانات وافية ويثبت إمكانه على ما يراه المولى المحلّاتي.

3. الميرزا حسن السيادتي السبزواري.

ص: 396

4. الشيخ محمَّد بن عبد الله المعروف بعرب الترشيزي الكاشمري المظفرآبادي.

5. السيّد محمَّد جواد الطباطبائي التبريزي.

6. الشيخ ميرزا محمَّد باقر الزنجاني.

7. السيّد شهاب الدِّين المرعشي.

8. السيّد محمَّد صادق بحر العلوم.

9. إخوانه وأولاده

من إخوان شيخنا المترجَم له (قدس سره):

1. العالم الكامل الخطّاط الشيخ زين العابدين المحلّاتي (رحمة الله)، كان يسكن مدرسة الصدر بطهران، وقد صرف أكثر عمره في كتابة المصحف الشريف وكتب الأدعية والفقه وسائر العلوم، وانتقل إلى بلدته (محلّات) في مرضه في عام 1330 ﻫ وتوفّي ودفن هناك.

2. العالم الجليل الشيخ علي المحلّاتي الكتبي، وكان يسكن بومباي من بلاد الهند وطبع بها عدداً من الكتب المهمَّة كرجال الكشّي ورجال النجاشي ومناقب آل أبي طالب وغيرها، وقد توفّي ودفن في مقبرة المسلمين هناك في عام 1320 ه-.

وأمَّا أولاد شيخنا المترجَم له (قدس سره) فهم:

1. العالم المتبحّر الحاج الشيخ محمَّد المحلّاتي، وكان من تلامذة أبيه والمحقّق صاحب الكفاية (قدس سرهما)، وقد امتاز بالنبوغ الفائق والذكاء الشديد، ومن أهم مؤلفاته (گفتار خوش يارقلى) الذي ردّ فيه على البهائية، وهو يدلّ على علمه الواسع بمختلف المذاهب وكيفيَّة الاحتجاج على أهلها.

وقد أصدر مجلَّة سياسيَّة تاريخيَّة باللغة الفارسيَّة سمّاها (درَّة النجف) خرج منها

ص: 397

ثمانية أعداد ثمَّ توقّفت عن الصدور.

وقد توفّي (رحمة الله) في الأربعين من العمر في عام 1337 ﻫ ودفن في بلدته (محلّات) بجوار عمّه الشيخ زين العابدين المحلّاتي.

2. العالم الجليل الشيخ حسين المحلّاتي الشهير بالروحاني، وكان قد درس في النجف الأشرف ثم هاجر منها إلى إيران عام 1345 ﻫ وأصبح يمارس مهام العالم الديني في بلدته (محلّات) إلى أنْ توفّي بها.

3. العلّامة الشيخ علي المحلّاتي وكان ممّن درس في النجف الأشرف أيضاً وهاجر منها إلى إيران عام 1327 ﻫ وقتل على يد مجهول في كرمانشاه عام 1335 ه-.

4. المحامي حسن الروحاني، وكان من سكنة طهران يمارس فيها المحاماة، ومن قبل ذلك درس في قمّ المقدَّسة على عدد من الأعلام منهم آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري (قدس سره).

5. المهندس أبو تراب الروحاني، وكان أيضاً ممّن درس في قم ثمَّ انتقل إلى طهران ودرس الهندسة وامتهنها.

10. وفاته ومدفنه

انتقل (رضوان الله علیه) إلى جوار ربِّه الكريم بعد عمر حافل بالعطاء - علماً وعملاً - في الثالث عشر من شهر ربيع الأوَّل عام 1343 ﻫ في النجف الأشرف، فخسرت بذلك الحوزة العلميَّة أحد العلماء الأفذاذ وفَقَدَ طلّاب العلم والمعرفة أحد الأساتذة الكبار، وقد دفن (قدس سره) في الصحن العلوي المطهَّر بالغرفة الأولى على يمين الخارج من الباب المعروف ب- (الباب السلطاني) من جهة منطقة العمارة. فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً.

ص: 398

التعريف برسالة اللباس المشكوك

كان من مقتنيات مكتبة العالم الجليل آية الله السيّد ميرزا علي آقا نجل السيّد المجدِّد الشيرازي (قدس سرهما) كرّاس صغير الحجم يتضمَّن بحثاً حول مسألة اللباس المشكوك، وقد كتب عليه (طاب ثراه) بخطّه الشريف: (من تحريرات المرحوم المبرور العلّامة المحلّاتي قدِّس سرُّه). وفوقه العدد (110) الذي يساوي اسمه الشريف (علي) بحساب الجمل.

وهذا الكرّاس انتقل بعد وفاته إلى ملك ولده المرحوم حجّة الإسلام والمسلمين السيّد ميرزا حسن الشيرازي طاب ثراه، ولمّا ارتحل إلى الرفيق الأعلى اشتراه من ورثته وصيّه وصهره سيدنا المرجع الديني الأعلى السيّد علي السيستاني (دام ظله العالی) وكتب عليه بخطّه الشريف:

(هذه رسالة في اللباس المشكوك فيه للعلّامة الحاج الشيخ محمَّد إسماعيل المحلّاتي النجفي صاحب كتابي أنوار العلم والمعرفة والنفقات المتوفّى سنة 1343، والظاهر أنَّها من أجزاء كتابه الموسوم ب- الدرر اللوامع الغروية من شتات القضايا الفقهية والأصولية، كما يعلم من مقدِّمة تنقيح الأبحاث عن أحكام النفقات الثلاث).

وما استظهره (دام ظله العالی) في محلِّه، فإنَّ الملاحظ أنَّ المؤلِّف (قدس سره) ابتدأ بحثه بعنوان (درَّةٌ لامعةٌ غرويَّةٌ) ممَّا يدلّ بوضوح على كونه جزءاً من كتابه ( الدرر اللوامع الغرويَّة) وليس رسالة مستقلة.

وبذلك يظهر الوجه في عدم عدّ العلّامة الطهراني هذه الرسالة في عداد تصنيفات العلّامة المحلّاتي لا في الذريعة ولا في طبقات أعلام الشيعة، كما يظهر أنَّ عدَّه منها في أعيان الشيعة وغيره مبني على عدم الاطلاع عليها.

ومهما يكن فإنَّ الكرّاس المشار إليه يقع في ستّة عشرة صفحة بقياس (20سم ×

ص: 399

13سم) ومساحة الكتابة في كلّ صفحة (16سم × 9سم) وتشتمل على واحد وعشرين سطراً.

وقد كُتِب بخطّ التعليق الجيّد نسبياً، ولكنَّه يشتمل على بعض السقط والأخطاء الإملائية وغيرها، بالرغم ممَّا يظهر من غير واحدة من صفحاته من أنَّه صُحِّح وتمَّت مقابلته مع نسخة أخرى.

وحيث لم يتيسّر لنا الحصول على غيره من نسخ الرسالة - بالرغم من البحث والفحص في عدد من المكتبات العامَّة في العراق وإيران - اعتمدنا عليها وحدها في تحقيقها، وتلخّص عملنا في ما يلي:

1. تقطيع النصّ وإضافة عناوين إليه بين معقوفين.

2. تقويمه بتصحيح ما وقع فيه من السقط والخطأ مع الإشارة إلى ذلك في الهامش إلّا ما كان واضحاً جداً.

3. تخريج الأحاديث الشريفة و الأقوال الفقهيَّة والأصوليَّة من مصادرها.

وفي الختام نتقدَّم بخالص شكرنا وعظيم امتناننا إلى سماحة المرجع الديني الأعلى السيّد علي الحسينيّ السيستانيّ (دام ظله العالی) حيث وفّر لنا هذه النسخة الفريدة للرسالة, سائلين المولى القدير أن لا يحرمنا من بركات وجوده الشريف إنَّه سميع مجيب, والحمدُ لله أوَّلاً وآخراً وصلَّى الله على محمَّد وآله الطاهرين.

ص: 400

صورة

ما كتبه آية الله السيّد ميرزا علي آقا الشيرازي (قدس سره) وسيدنا المرجع الديني الأعلى السيّد علي الحسيني السيستاني (دام ظله العالی) بخطهما الشريف على المخطوطة

ص: 401

صورة

الصفحة الأولى من المخطوطة

ص: 402

صورة

الصفحة الأخيرة من المخطوطة

ص: 403

متن الرسالة

اشارة

ص: 404

رسالة

اللباس المشکوک

تألیف

آیة الله المحقق

الشیخ محمد اسماعیل الغروی المحلاتی (قدس سره)

تحقیق

مجلة دراسات علمیة

ص: 405

ص: 406

بسم الله الرحمن الرحیم

[الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وآله الطاهرين.]

درَّةٌ لامعةٌ غرويَّةٌ

وليعلم أنَّ المركّبات الشرعيّة إنَّما هي ملتئمة من أفعال خاصَّة قد أمر الشارع بالإتيان بها وجمعها في الوجود على نحو خاصّ سواء اعتبرت جزءاً في المركّب أو شرطاً له، ومن تروك خاصَّة أيضاً لا بمعنى كون كلّ واحد من تلك التروك بما هو معنى عدميّ مطلوباً نفسيّاً في المركّب أوَّلاً وبالذات، بل هنا أفعال وجوديّة خاصَّة موجبة للإخلال بالمركّب لو اقترنت معه، فلذلك نهى الشارع عن الإتيان بها في ضمن المركّب صوناً له عن الاختلال المترتّب على وجودها، لا أنَّ أعدامها بما هي تلك الأعدام لها(1) تأثير في تماميّة المركّب، كما هو كذلك في الأجزاء والشرائط الوجوديّة التي أمر الشارع بإيجادها في المركّب، فإنَّ لكلّ واحد منها تأثيراً خاصَّاً في قوام المركّب وتماميّة وجوده في نفسه.

فصار الحاصل أنَّ المركّبات الشرعيّة ملتئمة من وجودات، و من أعدام(2) لا لكونها كذلك بل لكون نقائضها وهو كلّ واحد من الأفعال الوجوديّة الخاصَّة مضرّاً في قوامه فلذلك يُقال إنَّ المركّب لا يتمّ إلّا بعدم تلك الوجودات, وخلاصته أنَّ الموانع بوجودها مضرَّة في المركّب لا أنَّ أعدامها(3) شرط فيه، كما لا ينبغي أن يُرتاب فيه بأدنى تأمّل.

ص: 407


1- في الأصل: (إنَّ عدمها بما هو تلك الأعدام له) والأنسب ما أثبتناه.
2- في الأصل: (وأعدام) والأصح ما أثبتناه.
3- في الأصل: (لا بأعدامها) والصحيح ما أثبتناه.

الاختلاف في جريان أصالة البراءة في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء والشرائط والموانع

ثمَّ إنَّ القسم الأوَّل - وهو الأفعال المؤثّرة في قوام المركّب - لو علم بكونها كذلك فلا إشكال ولا كلام، وأمَّا لو شكّ في فعل أنَّه هل يجب الإتيان به في المركّب أم لا - فتكون كبرى الشرطيّة والجزئيّة مشكوكة من قبل الشارع - فهو المسألة المعروفة، أي دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر والزيادة والنقيصة في المركّب، التي اختلفوا فيها(1) وأنَّ الزائد المشكوك هل ينفى بالبراءة لكونه شكّاً في التكليف الزائد أو يجب الإتيان به للاشتغال بالمركّب الثابت في الجملة؟ كلٌّ على مذهبه.

وكذلك في القسم الثاني أيضاً لو شُكّ في فعل أنَّه هل نهى الشارع عن الإتيان به في ضمن المركّب أم لا - فتكون كبرى المانعيّة مشكوكة - وهو أيضاً داخل في المسألة المذكورة، ويجري الخلاف الثابت فيها، كلٌّ على قوله.

عدم جريان أصالة البراءة في الشبهة المصداقيّة للجزء والشرط]

وأمَّا إذا علم كبرى الجزئيّة والشرطيّة وكذا المانعيّة وشُكّ في كون شيء مصداقاً لذلك الجزء أو الشرط الثابت جزئيّته أو شرطيّته أو للمانع المعلوم، ففي الأوَّل - وهو الجزئيّة والشرطيّة اللتان بهما قوام المركّب كما عرفت - لا إشكال في وجوب الاحتياط فيه وعدم الاكتفاء بالإتيان بمشكوك الجزئيّة والشرطيّة، بل لا بدَّ من الإتيان بما هو المعلوم كونه كذلك، للعلم بالتكليف بالجزء والشرط المقتضي للعلم بالبراءة الذي لا يحصل إلّا بالإتيان بما هو المعلوم كونه كذلك لا المشكوك، فالآتي بما هو المشكوك كونه من سور القرآن مع قطعه بوجوب السورة في الصلاة أو ما هو بمنزلة القطع لم يقطع

ص: 408


1- لاحظ فرائد الأصول: 2/315.

بفراغ ذمّته عن الجزء المعلوم جزئيّته كما هو واضح.

وإن شئت قلت: بعد ما علم جزئيّة شيء أو شرطيّته فقد علم كون وجوده مقوّماً لوجود المركّب المعلوم وجوبه، بحيث يفوت أصل تقوّمه بفوت هذا الجزء أو الشرط، وحينئذٍ فإحراز هذا المركّب لا يمكن إلّا بإحراز جميع مقوّماته، و الشاكّ في وجود واحد من المقوّمات شاكّ في أصل وجوده الواجب عليه إحرازه، ولا إشكال في ذلك.

تقريب عدم جريان أصالة البراءة في الشبهة المصداقيّة للمانع]

وإنَّما الإشكال في القسم الثاني - وهو المانعيّة - فلو شكّ في صغرى المانعيّة بعد العلم بالكبرى وأنَّ هذا الشيء هل هو من مصاديق المانع المعلوم مانعيّته أم ليس من المصاديق فهل يجب فيه الاحتياط - كما في الأوَّل - للقطع بكبرى التكليف المقتضي للقطع بالفراغ عنه الحاصل بترك المانع المشكوك؟

ومجرّد الفرق بأنَّ التكليف في الأوَّل وجوديّ - وهو الأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط - وفي الثاني عدميّ - وهو النواهي المتعلّقة بالموانع - غير فارق في هذا الباب، لاشتراك القسمين في كون كلٍّ منهما تكليفاً غيريّاً راجعاً إلى إحراز المركّب المعلوم وجوبه، فكما يجب إحراز المركّب من طرف الأوامر المعلوم تعلّقها به، كذلك في طرف النواهي الراجعة إليه من غير فرق.

وبعبارة أخرى: كما أنَّ الشكّ في امتثال تلك الأوامر الثابتة من طرف المولى شكّ في إحراز المركّب المعلوم وجوبه، كذلك الشكّ في امتثال تلك النواهي حرفاً بحرف.

وإن شئت قلت: التكليف بالمركّب في الحقيقة عبارة عن مجتمع أوامر ونواهٍ راجعة إلى مركّب واحد، وامتثال تلك الأوامر والنواهي امتثال لذلك المركّب الوحدانيّ، والشكّ في امتثالها شكّ في امتثاله بعد ما ثبت التكليف به بقيوده شرطاً وجزءاً ومانعاً.

ص: 409

وخلاصته: وجوب إحراز القيود وامتثالها بعد العلم بالتقييد من غير فرق بين القيود الأمريّة والقيود النهييّة.

هذه خلاصة ما هو الملاك في وجوب الاحتياط في الشكّ في صغرى المانعيّة كالشكّ في صغرى الشرطيّة والجزئيّة.

تقريب جريان أصالة البراءة في الشبهة المصداقيّة للمانع

وقد يقال(1): إنَّ النواهي الغيريَّة نظير النواهي النفسيّة، فكما أنَّ النهي النفسيّ كقوله (لا تشرب الخمر) - مثلاً - ينحلّ في الحقيقة إلى نواهٍ متكثّرة بتكثّر الأفراد، وكلّ فرد من أفراد الخمر يتعلّق به نهي في الحقيقة ويكون حراماً ومورداً للإطاعة والعصيان برأسه مع قطع النظر عن الفرد الآخر، وفي الحقيقة عنوان (الخمريّة) الواقع في تلو النهي في قوله (لا تشرب الخمر) مرآة لحال المصاديق ومعرّف لها والنهي يرد على كلّ واحد منها بمعرفيّة هذا العنوان، وهذا هو السرّ في إجرائهم البراءة في الشبهات المصداقيّة في المحرّمات النفسيّة لكون الشكّ فيها شكّاً في أصل التكليف، فالمائع الذي يشكّ في خمريّته يشكّ في تعلّق التحريم به ابتداءً فلا يجب التحرّز عنه ما لم تثبت الحرمة، كما هو الشأن في الشبهات التحريميّة البدويّة كلّها.

وهذا الكلام بعينه جارٍ في النواهي الغيريّة بعينها، فقوله (لا تصلِّ في غير المأكول) - مثلاً - ينحلّ إلى نواهٍ عديدة واردة على أفراد هذا العنوان بمعرفيّته، فيصير كلّ فردٍ من أفراده مانعاً برأسه عن الصلاة وموجباً لبطلانها مع قطع النظر عن الفرد الآخر، وحينئذٍ فإذا شككنا في شيء أنَّه من غير المأكول أم لا فقد شككنا في مانعيّته رأساً، وأنَّه هل تعلّق

ص: 410


1- لاحظ (ما كتب من إفادات المجدّد الشيرازي في حكم اللباس المشكوك بقلم أحد تلامذته ص: 501) المطبوع في آخر الجزء الثاني من (كتاب المكاسب والبيع) تقرير المحقّق النائيني للعلّامة الآملي.

به الخطاب التحريميّ الغيريّ أم لم يتعلّق به أصلاً فيكون في الحقيقة شكّاً في ثبوت التكليف الغيريّ في هذا المورد من أوَّل الأمر فلا يجب امتثاله ما لم يحرز ثبوته وهذا بعينه مثل ما إذا شككت في كبرى مانعيّة شيء في الصلاة.

فكما أنَّك تقول: كبرى هذا الخطاب مشكوك من قبل الشارع - وبعبارة أخرى: كبرى هذا التقييد لم يعلم ثبوته فلا يجب امتثاله بحكم العقل ما دام مشكوكاً - كذلك إذا شككت في صغرى(1) المانعيّة، فإنَّك وإن كنت عالماً بالكبرى لكن بعد ما كانت الكبرى عبارة عن مجتمع صغريات في موارد ثبوت الموضوع، فهي نفس تلك الصغريات بالحقيقة دائرة مدار موضوعها لا شيء آخر غيرها، فإذا شككت في وجود الموضوع في مورد فقد شككت في أصل ثبوت الكبرى بحسب هذا المورد، ومجرّد علمك بثبوت هذه الكبرى في موارد علمك بوجود الموضوع لا يوجب الامتثال في هذا المورد المشكوك ثبوت أصل الكبرى بالنسبة إليه.

وخلاصته: أنَّ الحكم المشكوك لا يجب امتثاله بحكم العقل والشرع ما دام مشكوكاً، سواء كان الحكم المشكوك صغريات مجتمعة في موارد موضوعها التي يعبّر عنها بالكبرى أو صغرىً خاصَّة بالنسبة إلى مورد خاصّ، ففي كلا الموردين الحكم المشكوك امتثالُه ساقط من غير فرق، واشتمال الثاني على صغريات معلومةٍ الواجبُ فيها الامتثال للعلم بها لا يوجب الاحتياط في ما هو المشكوك من الصغرى وإلحاقها بالمعلوم كما هو واضح.

ص: 411


1- في الأصل: الصغرى، والصحيح ما أثبتناه.

هل تفترق الشبهات المصداقيّة لمتعلّقات النواهي النفسيّة والغيريّة في جريان أصالة البراءة فيها وعدمه؟

فإن قلت: فرق بين النواهي النفسيّة والغيريّة، فإنَّ التكليف في الأوَّل نفسيّ غير مرتبط بواجب آخر، ولازم ذلك أنَّه لو شككت في ثبوت هذا التكليف لأخذت بلازم الشكّ وهو البراءة، بخلاف ما لو كان غيريّاً فإنَّه مرتبط بواجب آخر عُلم وجوبه، ولازم هذا الارتباط أن يكون الشكّ في امتثاله شكّاً في امتثال ذلك الواجب المعلوم، وحينئذٍ فالشكّ الحاصل فيه من حيث نفسه وإن اقتضى البراءة منه في نفسه - كما في جميع الأحكام المشكوكة - لكن الشكّ في امتثال الواجب المعلوم وجوبه المترتّب على الشكّ في امتثاله يقتضي الاحتياط.

فيكون في هذا المشكوك الغيريّ جهتان: جهة تقتضي البراءة - وهي الشكّ فيه في نفسه مع قطع النظر عن رجوعه إلى الواجب المعلوم -, وجهة تقتضي الاحتياط - وهي كون الشكّ في امتثاله شكّاً في امتثال الواجب المعلوم وجوبه -، والحاصل من الجهة الأولى هو صرف عدم الاقتضاء ومحض اللااقتضاء كما هو واضح، والحاصل من الجهة الثانية هو تمام الاقتضاء لوجوب الاحتياط، فيقدّم على الجهة الأولى، وحاصله وجوب الاحتياط لكون الشكّ في امتثاله شكّاً في امتثال الواجب المعلوم اشتغال الذمّة به المقتضي للقطع بالفراغ عنه.

قلت: الواجب المعلوم لا يجب امتثاله إلّا بمقدار ما علم من وجوبه, فما علم من وجوبه لما علم اشتغال الذمة به فيؤخذ بمقتضاه وهو العلم بالفراغ عنه، وأمّا في ما لم يعلم وجوبه فلم يعلم الاشتغال به حتى يقتضي العلم بالفراغ عنه، فقولك: إنَّ الشكّ في امتثال الواجب الغيريّ شكّ في امتثال الواجب المعلوم، والواجب المعلوم يجب العلم بامتثاله ولا يكفي الشكّ فيه، مغالطة واضحة؛ لأنَّ الواجب المعلوم يجب العلم بالفراغ

ص: 412

عنه بمقدار ما علم من وجوبه لا ما شكّ فيه فإنَّه لم يعلم وجوبه من هذه الجهة حتى يقتضي العلم بالفراغ عنه.

وحاصله: أنَّ الواجب إذا علم بوجوبه من بعض الجهات دون بعض فالعلم بوجوبه من طرف ذلك البعض المعلوم لا يقتضي العلم بالفراغ عنه إلّا من تلك الجهات المعلومة لا المشكوكة، فعلمك بوجوبه من جهات لا يقتضي رفع اليد عن مقتضى الشكّ في الجهات الأخرى، بل يؤخذ بمقتضى العلم في الجهات المعلومة وهو العلم بالامتثال وبمقتضى الشكّ في الجهة المشكوكة وهو البراءة، فيعطى كلّ ذي حقّ حقّه وكلّ ذي فضل فضله، لا أنَّه ترفع اليد عن مقتضى الشكّ بواسطة العلم في المورد الآخر.

فالصلاة - مثلاً - عبارة عن ذوات أمور أمر الشارع بالإتيان ببعضها ونهى عن الإتيان بالبعض الآخر مقارناً معها، فهي مجمع أوامر ونواهي يجب العمل بكلّ واحد منها على حسبه، فكلّ أمر أو نهي علم بوجوبه في الصلاة يجب العلم بامتثاله بمقتضى العلم بثبوته، دون ما كان مشكوكاً فلا يجب امتثاله بمقتضى الشكّ في أصل ثبوته، واشتمال الصلاة على واجبات ومحرّمات معلومة يجب العلم بامتثالها لأجل العلم بثبوتها لا يقتضي وجوب الامتثال في مشكوكاتها، وهذا هو الوجه في جريان البراءة في الشكّ في كبرى الشرطيّة والمانعيّة والجزئيّة.

وهذا الكلام بعينه جارٍ في الشكّ في صغرى المانعيّة، لما عرفت من أنَّ النهي الكبروي عن إيجاد مانع في الصلاة - كالنهي عن التلبّس بغير المأكول مثلاً - ينحلّ إلى نواهٍ عديدة بحسب صغريات تلك الكبرى، ومفاده في الحقيقة إنّما هو آحاد تلك النواهي الجزئيّة المتعلّق كلّ واحد منها بكلّ واحد من أفراد غير المأكول، وحينئذٍ فكلّ لباس علم بكونه من غير المأكول فقد علم بتعلّق النهي عنه في الصلاة فيجب العلم بامتثاله، وكلّ لباس لم يعلم بكونه من غير المأكول فلم يعلم بكونه مانعاً عن الصلاة ولم

ص: 413

يعلم تعلّق النهي بالتلبّس بها فيها فلا يجب فيه الاحتياط كما لا يجب الاحتياط في كلّ مشكوك الوجوب والحرمة، ومجرّد اشتمال غير المأكول على نواهٍ متعلّقة بأفرادها المعلومة لا يقتضي الاحتياط في المشكوك؛ إذ العلم بالخطاب يقتضي العلم بالامتثال في مورد وجود العلم لا في موارد فقده - وهو مورد الشكّ - كما هو واضح.

وأمَّا الشكّ في صغرى الجزئيّة والشرطيّة فلا يجري فيه هذا الكلام؛ لأنَّ الأمر بجزء - مثلاً - عبارة عن الأمر بإيجاد فعل خاصّ على نحو خاصّ - كقراءة سورة من سور القرآن في الصلاة مثلاً - فلا بدَّ من العلم بوجود هذا الفعل على النحو الذي علم بالأمر به، فلو اكتفى بكلمات يحتمل أنَّها من سور القرآن لم يعلم بالفراغ عمّا علم وجوبه، بل لا بدَّ بعد علمه بالاشتغال بالسورة من علمه بالفراغ الحاصل بقراءة السورة المعلومة لا المشكوكة.

هل مانعيّة كون اللباس من أجزاء ما لا يؤكل لحمه انحلاليّة أو لا؟

فإن قلت: بعد ما علم مانعيّة غير المأكول في الصلاة فقد علم بكون هذه الحقيقة الواحدة السارية في جميع مواردها بما هي هذه الحقيقة مانعة عن الصلاة، وكون كلّ فرد من أفراد غير المأكول مانعاً إنمَّا هو من جهة انطباقه مع تلك الحقيقة لا أنَّ كلّ واحد واحد من الأفراد مانع برأسه حتّى يكون الشكّ في الانطباق شكّاً في أصل المانعيّة حتّى يحكم بعدمه، وبعدما صار الشكّ في وجود الموضوع شكّاً في الانطباق بعد القطع بأصل المانعيّة يكون القطع بالمانعيّة مقتضياً للقطع بالفراغ والعلم بالامتثال الحاصل بترك المصداق المشكوك.

قلت: لا إشكال في أنَّ مانعيّة غير المأكول والنهي عنه في الصلاة إنَّما هو في مورد وجود الموضوع لا عدمه، فإنَّه حينئذٍ لا وجود لغير المأكول حتّى ينهى عنه في الصلاة ويكون مانعاً عنها أم لا، وحينئذٍ فإذا شكّ في وجود الموضوع في مورد فقد شكّ في

ص: 414

وجود النهي وثبوت أصل المانعيّة بحسب هذا المورد، لكون أصل المانعيّة أمراً متفرّعاً على وجود الموضوع، وحينئذٍ فالشكّ في الموضوع شكٌّ في أصل المانعيّة وشكٌّ في أصل تقييد الصلاة بحسب هذا المورد.

قولك: كون هذه الحقيقة الواحدة السارية مانعة في الصلاة معلوم والشكّ في الانطباق لا في أصل المانعيّة. فيه: أنَّه لا ارتياب في أنَّ أصل المانعيّة المجعولة إنَّما هي في موارد وجود الموضوع، وأمَّا في مورد عدمه فلا موضوع حتى يكون مانعاً أم لا، وحينئذٍ فإذا كان أصل المانعيّة المجعولة مقصورة على وجود الموضوع ليس إلّا، فالشكّ في وجود الموضوع - إذاً - شكٌّ في أصل المانعيّة المجعولة بحسب هذا المورد فيحكم بالعدم بمقتضى الشكّ، كما يحكم بالعدم عند الشكّ في كبرى المانعيّة من غير فرق، ومجرّد الفرق بأنَّ الشكّ هنا في صغرى المانعيّة وهناك في الكبرى غير فارق بعد ما يرجع الشكّ في كلا الموردين إلى الشكّ في أصل مدخليّة المشكوك في الصلاة.

ما يفترق به جريان أصالة البراءة في الشبهات الحكميّة عن جريانها في الشبهات الموضوعيّة

نعم, هنا كلام آخر، وهو أنَّ البراءة في الشكّ في الكبرى من جهة قصور البيان فيها من طرف الشارع كما هو الحال في جميع الشبهات الحكميّة، وأمَّا الشكّ في الصغرى فليست البراءة فيه لذلك، لعدم كون بيان الصغرى من وظيفة الشارع، بل وظيفته ليس إلّا بيان الكبرى المفروغ عنها هنا بل وفي جميع الشبهات الموضوعيّة، فلا قصور من طرف الشارع حتّى يقال: لم يتمّ البيان من طرفه فلا يصحّ العقاب والمؤاخذة، بل البراءة فيها من جهة أخرى كما أوضحناه في الأصول.

وخلاصته: أنَّ موقع ترتيب الآثار على كلّ موضوع إنَّما هو بعد شهوده ورؤيته

ص: 415

ورفع الحجاب بينه وبين العبد دون ما كان محجوباً عنه مستتراً منه، وحاصله: أنَّ حضور الشيء والاتصال به ملاك ترتيب آثاره لا غيابه واحتجابه، وهذا عبارة أخرى عن أنَّ العلم بكل موضوع ملاك إثبات آثاره وتنجّزه على العبد، والتفصيل في محلِّه.

وبعدما كان ملاك البراءة في الأوَّل هو عدم تماميّة البيان من قبل المولى وعدم سقوط العذر من طرفه، وملاك البراءة في الثاني عدم شهود الموضوع ورؤيته، الذي هو في الحقيقة اتصال العبد وارتفاع العزلة بينه وبين العبد الذي لا ربط له بوظيفة المولى، فيكون قياس الشكّ في الصغرى على الشكّ في الكبرى من حيث البراءة - وهو الملاك فيها - قياساً مع الفارق.

نعم, قياسه بالشبهات الموضوعيّة النفسيّة في ملاك البراءة قياس بأمر يساويه، فإنَّ كلّا ً من المقيس والمقيس عليه شكٌّ في الصغرى بعد إحراز الكبرى، وملاك البراءة فيهما معاً هو احتجاب الموضوع عن العبد وعدم حضوره عنده، وحينئذٍ فلا بدَّ من أن يلاحظ فإن لم يكن فرق في البين من جهة أخرى يوجب التفكيك بينهما من حيث البراءة والاشتغال، والقول بالبراءة في الأوَّل والاشتغال في الثاني، يكون القول بالبراءة في الصغريات النفسيّة المسلّم عند الكلّ من غير نكير - كالمائع المشكوك كونه خمراً - ملازماً مع القول بالبراءة في الصغريات الغيريّة التي هي الموضوع في بحثنا هذا، لاتحاد المناط فيهما من غير فرق فارق من هذه الجهة، فنقول:

الفرق الموهم للزوم التفكيك بينهما هو ما عرفت من أنَّ التكليف المشكوك هنا غيريّ فيكون الشكّ فيه شكّاً في امتثال ذلك الغير الذي علم وجوبه، فيجب العلم بامتثاله بمقتضى العلم بوجوبه، وقد عرفت الجواب عنه بأنَّ المانعيّة والحرمة الغيريّة إنَّما هما في موارد وجود الموضوع دون عدمه، فإنَّه حينئذٍ لا موضوع حتى يكون حراماً أو غير حرام مانعاً أو غير مانع، ولازم ذلك أن يكون الشكّ في وجود الموضوع شكّاً في

ص: 416

ثبوت المانعيّة والحرمة الغيريّة في المورد المشكوك، كما أنَّ الشكّ في خمريّة مائع شكٌّ في حرمته؛ إذ الحرمة النفسيّة فرع وجود الخمر، وإذ لا خمر فلا حرمة سلباً منفيّ الموضوع، وكما أنَّ الخمريّة والحرمة النفسيّة بعدما كانت محجوبة عن العبد وغائبة عنه غير مكشوفة عنده فلا يلزم عليه ترتيب آثارها كذلك الحرمة الغيريّة والمانعيّة حرفاً بحرف.

وقولك: إنَّ الاشتغال بالصلاة ثابت فيقتضي العلم بالفراغ الحاصل بترك المشكوك. فيه: ما عرفت من أنَّ العلم بالفراغ بمقدار العلم بالاشتغال، وأصل التكليف الغيريّ والمانعيّة لم يثبت في هذا المورد حتى يقتضي العلم بالفراغ بالنسبة إليه، وثبوت المانعيّة في موارد العلم بوجود الموضوع لا يقتضي العلم بالفراغ في المورد المشكوك والمانعيّة المشكوكة، كما أنَّ العلم بالحرمة النفسيّة للخمر في موارد العلم بوجود الخمر لا يقتضي العلم بالامتثال في الموارد المشكوكة.

تقريب عدم جريان أصالة البراءة في الشبهة المصداقيّة للمانع لكونها من قبيل الشكّ في المحصّل، والجواب عنه

فإن قلت: لا ينبغي الإشكال بل لا ارتياب في أنَّ الأوامر والنواهي المجتمعة في الصلاة - مثلاً - ليست أوامر ونواهي مستقلّة حتّى يلاحظ حال كلّ منها بانفراد فما كان معلوماً أخذ به وما لم يكن معلوماً حكم بسقوط امتثاله، بل هي أوامر ونواهٍ مرتبطة كلٌّ بالآخر، ففي الحقيقة كلّها وارد على عنوان واحد وأمر إجمالي بتحصيل ذلك العنوان الوحدانيّ المتحصّل من مجموع تلك الأوامر والنواهي، وحينئذٍ فإذا شككنا في جزئيّة شيء أو شرطيّته أو مانعيّته صغرويّة كانت أو كبرويّة فقد شككنا في حصول هذا العنوان بدون هذا المشكوك، والقطع بوجوب العنوان المتحصّل من المجموع يوجب القطع بامتثاله غير الحاصل إلّا بالاحتياط في ما هو المشكوك، وهذا الكلام لو تمّ فإنَّما

ص: 417

هو يقتضي الاحتياط في مطلق الشك في التكاليف الغيريّة حكميّة أو موضوعيّة، لا في خصوص الموضوعيّة التي هي موضوع بحثنا.

والجواب عنه على نحو يكون حاسماً لمادة الإشكال مطلقاً على الإجمال - والتفصيل في محلِّه -:

أوَّلاً: إنَّ المتأمّل في أدلّة المركّبات الشرعيّة لا يرتاب في أنَّ الشارع حين إيراده الأمر على تلك المركّبات لم يلاحظ في كلّ واحد منها عنواناً بسيطاً متحصّلاً من الإتيان بالأجزاء والشرائط، بحيث يكون نفس تلك الأفعال مقدّمة خارجيّة لحصول ذلك العنوان ويكون الأمر بكلّ واحد منها أمراً غيريّاً مقدّميّاً لحصوله في نظر الشارع، بل الظاهر ورود الأمر في لحاظ الشارع على نفس تلك الأفعال الملتئمة وهي الواجب بالحقيقة من دون توليد عنوان ثانوي متحصّل من الكلّ، وإنَّما هو معنى ننتزعه نحن بعد ملاحظة ورود أمر الشارع على المجموع، فنأخذ من المجموع عنواناً ثانويّاً واحداً ونتخيّل ورود الأمر عليه؛ لأنَّ الشارع لاحظ في نظره أوَّلاً هذا العنوان الوحدانيّ ثمَّ أورد الأمر على تلك الأفعال باعتبار كونها محصّلة له، بحيث كان الأمر بها في الحقيقة وسيلة لتحصيل ذلك العنوان على نحو يكون هو المأمور به بالحقيقة وموضوعاً لورود الأمر النفسيّ عليه، بل الملحوظ في نظر الشارع حسب ما هو مفاد كلامه هو كون نفس تلك الأفعال الخاصَّة على النحو الخاصّ بأنفسها مورداً لأمره وهي المأمور به الأصليّ الأوَّليّ، وعلى هذا فيكون المأمور به بالحقيقة أمراً تدريجيّاً مستطيلاً باستطالة تلك الأفعال المترتّبة كلّا ً على الآخر.

ثمَّ إنَّ تلك الأفعال المتدرّجة كما أنَّه قد يلاحظها الشارع إجمالاً ويأتي باللفظ الحاكي عن الكلّ ويورد الأمر النفسيّ عليه فيقول - مثلاً -: (صلّوا) فلفظ (الصلاة) معرّف لذوات تلك الأفعال الخاصَّة على النحو الخاصّ والأمر النفسيّ وارد عليها

ص: 418

بإراءة هذا اللفظ، كذلك قد يلاحظها تفصيلاً ويأمر بها على التفصيل فيقول - مثلاً -: (كبّر ثمَّ اقرأ ثمَّ اركع ثمَّ اسجد) وهكذا، فتلك الأوامر المتعدّدة الواردة على الكثرات المذكورة صورة تفصيليّة لذلك اللحاظ الإجمالي في الحقيقة وبمنزلة الشرح والتفصيل لذلك المتن المجمل، ويكون كلّ واحد منها على التدريج ظهور إرادته النفسيّة القلبيّة المتعلّقة بالكلّ، فهذه الأوامر المترتّبة التدريجيّة بمنزلة إرادة واحدة خارجيّة نفسيّة تظهر على العبد من الآمر على الترتيب تدريجاً ويكون تمامها بتمام عدّ هذه الأفعال أوَّلاً فثانياً وهكذا، ففي الحقيقة هذه الأوامر تحريك نفسيّ واحد تدريجي يظهر أوَّلاً فأوَّلاً على ترتيب الأفعال، لا أنَّ كلّ واحد منها أمر غيريّ متعلّق بكلّ واحد من الأفعال لكونه مقدّمة لحصول العنوان كما سبق إلى بعض الأذهان، فهي بكلّها بمنزلة خطّ وحدانيّ مستطيل ممتدّ إلى حدّ خاصّ يظهر متدرّجاً.

وبعد ذلك نقول: إذا ظهر هذا التحريك النفسيّ التدريجي الممتدّ والإرادة الخارجيّة الوحدانيّة التدريجيّة من المولى نحو العبد، فكلّ ما ورد منه على العبد بأن قام الدليل عليه ووصل إلى العبد يأخذ به، وكلّ ما لم يقم عليه دليل ولم يصل إلى العبد ولو بعد الفحص وشكّ فيه فكأنَّه شكّ في زيادة الخطّ بعد القطع ببعضه، فيأخذ بما هو المعلوم من الخطّ ويترك المشكوك، ولو عاقب المولى عليه كان عقاباً من غير إتمام الحجّة وتمام العذر الحاصل بتمام البيان.

وحاصله: أنَّ التحريك النفسيّ التدريجيّ نشكّ في زيادته بعد القطع ببعضه فنأخذ بالمعلوم منه ونترك المشكوك.

وثانياً: لو فرضنا أنَّ الواجب النفسيّ هو ذلك العنوان البسيط الوحدانيّ المتحصّل من تلك الأفعال، لكن نقول: بعد ما كان بيان هذا العنوان وما يكون موجباً لحصوله في الخارج بيد المولى ومن وظيفته - لكونه لا يعلم إلّا من قبله - فحينئذٍ كلّ ما قام الدليل

ص: 419

على كونه محصّلاً لذلك العنوان نأخذ به لتمام الحجّة فيه على العبد، وكلّ ما لم يدلّ عليه دليل حتّى بعد الفحص فلا يصحّ العقاب عليه وإلّا كان عقاباً من غير بيان من طرف المولى مع كونه من شأن المولى ووظيفته، ومجرّد العلم بكون المأمور به بالحقيقة عنواناً إجماليّاً لا يفيد في وجوب الاحتياط فيه بدون(1) البيان الواصل من المولى، ولذا قلنا في الطهارات الثلاثة إنَّ الواجب ولو كان حصول الطهارة الحدثيّة, وأفعالُ الوضوء والغسل محصّلة لها, لكن لكون البيان فيه وظيفة للشارع فكلّ ما لم يتمّ البيان فيه لا يصحّ العقاب عليه لمجرّد الاحتمال, والتفصيل موكول إلى محلِّه.

المناقشة في جريان أصالة البراءة في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر من جهة لزوم تحصيل المصالح الملزمة المولويّة والجواب عنها

وبذلك ظهر الجواب عمّا يقال(2) من أنَّ الأحكام تابعة للمصالح الملزمة الكافية وحينئذٍ فإذا شكّ في زيادة مركّب أو نقصانه فقد شكّ في ترتّب المصلحة المقصودة من الأمر بالمركّب على الناقص، فيجب الإتيان بالزيادة تحصيلاً للغرض المقصود من الأمر بالمركّب، فإنَّه لو سلّم ذلك:

أوَّلاً: فلا يكون أقوى من كون المأمور به بالحقيقة هو العنوان الوحدانيّ، فإنَّ المصالح الملزمة لو كانت فليست متعلّقة للأمر بل الغرض المترتّب عليه، والعنوان المذكور لو كان فهو نفس متعلّق الأمر، ومع ذلك قلنا إنَّه بعد ما كان بيان ما يكون محصّلاً له من وظيفة الشارع يكون العقاب على ما لم يصل فيه بيان إلى العبد قبيحاً، كذلك في ما لو كان الغرض من الأمر هو المصلحة الملزمة لكنّ الواجبات الموصلة إلى

ص: 420


1- في الأصل: (إلّا بدون) والصحيح ما أثبتناه.
2- لاحظ فرائد الأصول:2/319.

تلك المصلحة بيانها بيد الشارع فيكون العقاب على ما لا بيان فيه من الشارع قبيحاً.

وثانياً: أنَّ المعلوم من الدليل القائم على اشتمال الأحكام على المصالح الكامنة ليس زيادة على أنَّ النظام الكامل(1) يقتضي جعل هذه الأحكام, وعدمُها منافٍ لما هو المقصود من النظام العامّ الكامل(2)، وأمَّا أنَّ كلّ حكم في حقّ كلّ مكلّف مشتمل على مصلحة تامّة حتى عند الجهل به، بحيث يكون فوته منه من قبيل تناوله السمّ حتى يُلزمه عقله بإحرازه حذراً من الوقوع فيه -

كما في السمّ - فكلّا.

وبعبارة أخرى: المصلحة النوعيّة العامّة تقتضي جعل تلك الأحكام بحسب صلاح النوع، وأمَّا الأشخاص فلا كلّيّة بالنسبة إليهم، وإن شئت قلت: المصلحة حكمة للجعل لا علّته في كلّ فردٍ فردٍ.

هل خلوّ اللباس من أجزاء ما لا يؤكل لحمه شرط في الصلاة أو اشتماله عليها مانع؟

فإن قلت: حاصل مفاد أدلّة الموانع هو اشتراط خلوّ الصلاة عن الاشتمال عليها والاحتفاف بها، ففي الحقيقة ما هو الواجب في الصلاة من هذه الجهة هو عراء الصلاة وخلائها عن تلك الأمور، وحينئذٍ فلا بدَّ من إحراز هذا العنوان في الصلاة الحاصل بترك مشكوك المانعيّة، وإلّا فلو أتى بالمانع المشكوك وتلبّس بلباس يحتمل أنَّه من غير المأكول - مثلاً - لم يعلم بخلوّ الصلاة وعرائها عمّا علم باشتراط خلوّها عنها اللّهم إلّا بالاحتياط وترك كلّ مشكوك.

قلت: المتأمّل في أدلّة الموانع بكلّها لا يستريب في أنَّ وجود تلك الأمور مضرّ في

ص: 421


1- في الأصل: (الكل), والصحيح ما أثبتناه.
2- في الأصل: (الكلي), والظاهر أنَّ الصحيح ما أثبتناه.

الصلاة ومفسد لها، لا أنَّ عدمها والخلوّ عنها اعتبر صفة في الصلاة من قبيل الأوصاف الوجوديّة المأخوذة في الصلاة الواجب إحرازها فيها مثل الطهارة عن الحدث واستقبال القبلة وغيرهما، بل لا يكون عنوان الخلاء وما يرادفه من العناوين إلّا عناوين منتزعة من النهي عن الإتيان بها في الصلاة، فينتزع منها خلوّ الصلاة عنها، ونظير هذا التوهّم تخيّل أنَّ اللباس إن كان من أجزاء الحيوان يشترط فيه أن يكون لحمه حلالاً، فحلّيّة لحمه شرط في اللباس لا أنَّ حرمة اللّحم مانع فيه، فإذا كانت الحلّيّة شرطاً وجوديّاً في اللباس يجب إحرازها كباقي الشرائط، فلا يجوز حينئذٍ التلبّس بمشكوك الحلّيّة والحرمة إحرازاً لهذا الشرط المعلوم وجوبه، ويوهم هذا المعنى ما في منظومة العلامة الطباطبائي(1):

وكونه إن كان من حيوان محلّل اللّحم على الإنسان

لكنّ الظاهر أنَّ هذا ليس إلّا من باب المسامحة في التعبير، وإلّا فاحتمال كون حلّيّة اللّحم شرطاً وجوديّاً لا الحرمة مانعة ممّا لا يليق بالأذهان المستقيمة، ولا يستريب المتأمّل في الأدلّة أنَّ هذا المعنى منتزع عن مانعيّة حرمة اللّحم المنساق من ظاهر الأدلّة من غير ارتياب.

حول جريان أصالة الحِلّ في الشبهة المصداقيّة للمانع

وقد يستدل بالبراءة في صغرى المانع المشكوك بخصوص قوله (علیه السلام): (كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام)(2).

ص: 422


1- الدرّة النجفيّة: 105.
2- هذا مضمون صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (كلُّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه) لاحظ الكافي: 5/313.

بتقريب: أنَّ التلبّس بأجزاء الحيوان في الصلاة فيه حلال - وهو ما كان بمأكول اللّحم -, وحرام - وهو ما كان بغير المأكول -، فإذا اشتبه الحلال منه بالحرام فهو لك حلال بحكم الرواية المذكورة.

وتوهّم أنَّ الظاهر من الحلال والحرام في الرواية هو ما كان حلالاً أو حراماً بنفسه، وهو الظاهر من إطلاق الحلال والحرام لا الحلّيّة والحرمة الغيريّة التبعيّة المنتزعة من المانعيّة وعدمها، فإنَّهما في الحقيقة عبارة أخرى عن المانعيّة والعدم وإلّا فمع قطع النظر عنهما لا حلّيّة ولا حرمة أصلاً.

فيه: أنَّ الناظر في لسان الأخبار يرى من غير ارتياب إطلاق (يجوز) و (لا يجوز) و (صلِّ فيه) و (لا تصلِّ فيه) على المحرّمات والمباحات الغيريّة، على حذو إطلاقها على النفسيّة على حدّ سواء، والتعبير ب- (لا يجوز) في غير المأكول و(يجوز) في المأكول شائع في الأخبار، وحينئذٍ فيصحّ أن يقال: إنَّ أجزاء الحيوان فيها ما تجوز الصلاة فيها وفيها ما لا تجوز، فإذا اشتبه عليك فهو لك جائز حتى تعرف ما يجوز ممَّا لا يجوز، وهذا التعبير عين ما هو المنساق من الرواية المذكورة من غير ارتياب.

حول التمسّك بحديث الرفع في الشبهة المصداقيّة للمانع

ثمَّ إنَّ بعض من اختار البراءة في صغرى المانع المشكوك تمسّك في خيرته بظاهر حديث الرفع(1)، فإنَّ المشكوك كونه من غير المأكول ممَّا لا يعلم بحرمته في الصلاة فيكون داخلاً في عموم ما لا يعلمون المرفوع عن الأمّة.

ص: 423


1- وهو ما رواه حريز عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): (رفع عن أمّتي تسعة: الخطأ والنسيان.. وما لا يعلمون..). لاحظ التوحيد للصدوق: 353، ونحوه مرفوعة محمَّد بن أحمد النهدي في الكافي: 2/463، ورواية إسماعيل الجعفي في نوادر أحمد بن محمَّد بن عيسى الأشعري: 74.

وفيه: أنَّ ما هو المانع من الأخذ بالبراءة في ما نحن فيه هو تخيّل أنَّ الشكّ هنا لكونه غيريّاً يرجع إلى الشكّ في امتثال ذلك الغير بعد القطع بوجوبه المقتضي للعلم بالفراغ عنه، وخلاصته: أنَّ الشكّ في الفراغ بعد القطع بالتكليف، ولو كان الأمر كذلك فلا مجال للتمسّك بأخبار البراءة مطلقاً، لا حديث الرفع ولا غيره لورودها في الشكّ في أصل الوجوب لا الشكّ في الامتثال بعد القطع بالوجوب، فصحّة الاستدلال بأخبار البراءة متوقّفة على إبطال هذا التوهّم وأنَّ الشكّ ليس في الامتثال بعد القطع بالوجوب بل الشكّ في أصل الوجوب بحسب هذا المورد، وإذا كان كذلك فتجري فيه أخبار البراءة مطلقاً من دون اختصاص بحديث الرفع.

وخلاصته: أنَّ الشكّ في ما نحن فيه إن كان في الامتثال بعد القطع بالوجوب - كما يزعمه القائل بالاحتياط - فلا مجال لأخبار البراءة مطلقاً، وإن كان الشكّ في أصل الوجوب فلا اختصاص بحديث الرفع، مثلاً قوله (علیه السلام): (كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه) يجري في صغرى المانع المشكوك، فإنَّه لم يعرف أنَّه حرام بعينه فهو لك حلال، وهكذا باقي الأخبار.

عدم جريان أصالة البراءة في الشبهة المصداقيّة للمانع إذا كان الشكّ فيها مسبّباً عن الشكّ في حكم آخر

ثمَّ إنَّ هنا كلاماً آخر، وهو أنَّ التمسّك بالبراءة في المانعيّة الصغرويّة المشكوكة إنَّما هو فيما إذا لم تكن المانعيّة في الصلاة وعدمها متفرّعاً على حكم آخر، كما في مانعيّة لباس الحرير للرجال فإنَّه متفرّع على حرمة التلبّس به لهم مطلقاً، فلذلك جعل مانعاً عن الصلاة، وهكذا في لباس النجس فإنَّ مانعيّته فرع نجاسته، وحينئذٍ فإذا شكّ في صغرى الحرير أو النجس فلا يصحّ التمسّك بالبراءة في نفس حرمتهما الغيريّة والمانعيّة المشكوكة،

ص: 424

بل لا بدَّ من ملاحظة مقتضى الأصل في الحكم الذي جعلت المانعيّة متفرّعة عليه، فنأخذ بمقتضاه فيه ويتفرّع عليه حكم الشكّ في المانعيّة قهراً، كما هو الحال في كلّ شكّ سبّب عن الشكّ الآخر، ففي الشكّ في النجاسة مقتضى الأصل هو الطهارة، وبعد ما صار المشكوك طاهراً بحكم الأصل خرج عن كونه مانعاً عن الصلاة، وفي الشكّ في الحرير يحكم بالبراءة من حيث أصل التلبّس به للرجل الشاكّ في حريريّته، فمشكوك الحريريّة مثل مشكوك الخمريّة محكوم بالإباحة الظاهريّة، فإذا صار التلبّس به مباحاً في حال الشكّ يخرج عن كونه مانعاً في الصلاة لتفرّع المانعيّة على حرمة التلبّس المنفيّة بالأصل، وحينئذٍ نقول:

إذا كانت مانعيّة أجزاء الحيوان غير المأكول في الصلاة لا بنفسه بل من حيث حرمة أكل لحمه، فإذا شككنا في لباس أنَّه من المأكول أو غير المأكول فلا بدَّ من ملاحظة مقتضى الأصل في الشكّ في حرمة أكله، لا من حيث الشكّ في تذكيته أو قابليّته لها، فإنَّ الشكّ حينئذٍ يرجع إلى الشكّ في كونه ميتة أم لا، والأصل فيه عدم التذكية فيكون محكوماً بالنجاسة والميتة في مرحلة الظاهر فلا تجوز الصلاة فيه لذلك، بل إذا كانت قابليّته للتذكية وكذلك فعليّة تذكيته محرزة لكن نشكّ في أنَّه من الحيوان الذي يحرم أكل لحمه أم لا، كما إذا شاهدنا قطعة من اللّحم الذي نعلم بأنّه مذكّى فيكون طاهراً قطعاً لكن لا ندري أنَّه من الغنم مثلاً أو من الحيوان المذكّى الذي يحرم أكل لحمه، فتكون هذه القطعة مشكوكة الحرمة بنفسها لا من حيث الشكّ في تذكيتها.

وحينئذٍ فإن عملنا فيه بالإباحة وحكمنا بإباحة أكله - إلحاقاً له بسائر الموضوعات المشتبهة مثل الخمر المشكوك والنجاسة المشكوكة وغيرهما - يصير استصحاب أجزائه في الصلاة مباحاً ويخرج عن كونه مانعاً للصلاة، لا من جهة إجراء البراءة في حرمتها الغيريّة بنفسها، بل لأجل كون حرمته في الصلاة ومانعيّته لها متفرّعتان على حرمة أكله

ص: 425

المنفيّة بالأصل فترتفع مانعيّته تبعاً لهما قهراً.

وإن لم نلحقه بالشبهات الموضوعيّة الجارية فيها البراءة كما عرفت من المثال بل حكمنا فيه بالحرمة إلحاقاً له بالموضوعات التي حكموا فيها بالحرمة إلى أن يعلم الإباحة كما ذكروا في الأموال والأعراض والنفوس أنَّ الأصل فيها الحرمة عند الشكّ إلى أن يعلم الإباحة كذلك في اللحوم كما هو الجاري على ألسنتهم أنَّ الأصل فيها الحرمة، وحينئذٍ فإذا صار حراماً في مرحلة الظاهر فيصير مانعاً عن الصلاة كذلك، لا من جهة الشغل القطعي بالصلاة المقتضي للقطع بالبراءة الحاصلة بالاحتياط - كما سبق من القائل بوجوب الاحتياط في ما نحن فيه - بل من جهة تفرّع المانعيّة على حرمة الأكل وبعدما ثبتت الحرمة ولو بحكم الأصل ثبتت المانعيّة المتفرّعة عليها قهراً.

وعلى هذا فليس القول بالمانعيّة في صغرى الحيوان المشكوك في حلّيّته وحرمته وعدمها مبتنياً على أنَّ الشكّ في حرمته الغيريّة بل هو شكّ في التكليف الزائد في هذا المورد الخاصّ فتجري فيه البراءة أو لكونه راجعاً إلى الغير فيرجع الشكّ إلى الشكّ في امتثال ذلك الغير بعد القطع بوجوبه فيقتضي الاحتياط، وخلاصته: إجراء البراءة أو الاشتغال في نفس الحرمة الغيريّة والمانعيّة المشكوكة كما عرفت الوجهين.

بل مبنى المانعيّة والعدم هو ملاحظة مقتضى الأصل في حرمة ذلك الحيوان المشكوك في حلّيّته وحرمته، فإن قلنا بكونه من الشبهات الموضوعيّة التي تجري البراءة في حرمتها المشكوكة - كالخمر المشكوك - يصير حلالاً ظاهراً ويتبعه عدم مانعيّته كذلك، وإن ألحقناه بالشبهات الموضوعيّة التي يقتضي الأصل فيها الحرمة إلى أن تثبت الإباحة يصير حراماً ظاهراً ومانعاً كذلك تبعاً لحرمتها الظاهريّة، وحيث إنَّ الظاهر فيه هو الوجه الثاني يكون الظاهر هو المانعيّة الظاهريّة الموجبة للتحرّز عنه في الصلاة.

والوجه في ذلك: أنَّ الميزان في الشبهات الموضوعيّة التي يقتضي الأصل فيها الحرمة

ص: 426

هو أن يكون حكمها الأصليّ الأوَّليّ هو الحرمة وتكون حلّيّتها بموجب عارض اقتضى الحلّيّة...

أصالة الحرمة في أعراض المسلمين ودمائهم وأموالهم

...كما في أعراض المسلمين فإنَّها في أنفسها مصونة يحرم هتكها، فإذا شككت في جواز هتكها من جهة الشكّ في صدق عنوان مبيح عليها فقد شككت في عروض ما يوجب ذلك، وبمجرّد احتمال وجود المبيح لا ترفع اليد عن حرمتها الأوَّليّة المعلومة في أنفسها، وملخّصه: أنَّ احتمال عروض سبب الإباحة لا يوجب الأخذ بها بصرف الاحتمال إلّا إذا ثبت ذلك.

وكذلك الدماء مصونة إلّا لعارض القصاص، فمجرّد احتمال عروض سبب القصاص - مثل أنَّك تحتمل أنَّ زيداً قاتل أبيك فلذلك يجوز لك قتله قصاصاً - لا يجوّز الأخذ به وترتيب آثاره إلّا بعد الثبوت.

وكذلك في الأموال، فإنَّ جواز التصرّف لأحد في الأملاك فرع كونه ملكاً له، فإن أحرز ذلك ولو بأصل أو أمارة فلا إشكال، وإلّا فبمجرد الاحتمال لا يجوز ترتيب آثار ملكيّته عليه، وخلاصته: أنَّ جواز تصرّفك في الأموال التي خرجت عن إباحتها الأصليّة ودخلت في ملك أحد إنَّما هو مقصور على كونه ملكاً لك ولا يثبت ذلك بمجرّد الاحتمال.

أصالة الحرمة في اللحوم

وأمَّا لحوم الحيوان فحيث إنَّ قتل الحيوان والتغذّي بلحمه ظلم قبيح عقلاً في نفسه، إلّا إذا كان بإذن من خالقه ومالكه الحقيقي، فيخرج بذلك عن كونه كذلك، فيكون في نفسه قبيحاً حراماً إلّا لعارض الإذن والترخيص من المولى الحقيقي، وحينئذٍ

ص: 427

فإذا شككت في صغرى الإذن في مورد فلا يجوز لك رفع اليد عن قبحه الثابت في نفسه بمجرّد احتمال عروض الرافع الخارجيّ، وحينئذٍ فالقطعة من اللّحم المشكوك كونه من الغنم أو من حيوان محرّم ثبتت تذكيته لا يجوز ارتكابه مع كونه قبيحاً نفسيّاً بمجرّد احتمال حدوث عارض الإذن الموجب لخروجه عن القبح، ولعلَّ هذا هو الوجه في ما تداول في الألسن [من](1) أنَّ الأصل في اللّحوم هو الحرمة إلّا إذا ثبت الجواز.

ثمَّ إنَّه بعد ما ظهر لك أنَّ المانعيّة في الصلاة إذا كانت متفرّعة على موضوع آخر وكان الشكّ في المانعيّة مسبّباً عن الشكّ في ذلك الموضوع، فلا بدَّ - إذاً - من ملاحظة الأصل في الشكّ في ذلك الموضوع وتتفرّع المانعيّة وعدمها عليه قهراً، وحينئذٍ فلا بدَّ لنا من استقصاء موارد المنع في الصلاة كي يعلم أنَّ المانعيّة في الكلّ متفرّعة على موضوع آخر أم في بعض دون بعض، وفي مورد التفرّع ما هو مقتضى الأصل في الشكّ السببي حتى يتفرّع عليه حكم الشكّ في المسبّب قهراً، فنقول:

موارد المنع في الصلاة بعضها في خصوص اللباس، وهو كونه من الميتة أو ممَّا لا يؤكل لحمه أو حريراً محضاً أو من ذهبٍ - كلاهما لخصوص الرجال الذين يحرم عليهم التلبّس بهما مطلقاً - وبعضها في الأعمّ من المكان واللباس وهو الغصبية، وبعضها في البدن واللباس معاً وهو النجاسة، وكلّ ذلك لو تأمّلت هوينا ترى أنَّ المانعيّة فيها متفرّعة على موضوع آخر.

مقتضى الأصل في الشكّ السببي في كون اللباس من الميتة

ففي الأوَّل متفرّعة على كون اللباس من الميتة، فإذا شككت في كونه كذلك فتشكّ في كونه مانعاً، وحيث إنَّ الأصل عند الشكّ في كون شيء ميتة أم لا هو الحكم بعدم

ص: 428


1- (من) ليس في الأصل, وقد أضفناه ليستقيم الكلام.

التذكية تترتّب عليه آثار الميتة في مرحلة الظاهر التي منها المانعيّة في الصلاة.

مقتضى الأصل في الشكّ السببي في كون اللباس ممَّا يحرم أكل لحمه

وفي الثاني متفرّعة على حرمة أكل لحمه المتفرّع على الشكّ فيها الشكّ في مانعيّته، وقد عرفت أنَّ مقتضى الأصل عند الشكّ في حرمة أكل اللّحم هو البناء على المنع إلى أن يثبت الجواز، فيكون مشكوك الحرمة محرّماً في مرحلة الظاهر المترتّبة عليه المانعيّة قهراً.

مقتضى الأصل في الشكّ السببي في كون اللباس من الحرير أو الذهب

وفي الثالث والرابع متفرّعة - كما هو الظاهر - على حرمة تلبّسها على الرجال، فمانعيّتها في الصلاة لأجل حرمة تلبّسها عليهم، وحينئذٍ فإذا شككت في لباس أنَّه من صغرى الذهب أو الحرير حتى يحرم عليك تلبّسه فمقتضى الأصل هو الإباحة كالخمر المشكوك وغيره من المحرّمات المشكوكة، فإذا صار تلبّسه مباحاً خرج عن كونه مانعاً تبعاً للإباحة الظاهريّة.

نعم, لو قيل بكون كلٍّ من الحرير والذهب مانعاً بما هما في أنفسهما مع قطع النظر عن حرمة تلبّسهما تكون حرمة التلبّس أجنبية عن حيثيّة مانعيّتهما، وحينئذٍ فإباحة تلبّسهما ظاهراً لكونهما مشكوكين لا تفيد في رفع مانعيّتهما عن الصلاة، فلا بدَّ من ملاحظة مقتضى الأصل في حيثيّة الشكّ في مانعيّتهما من دون نظر إلى حرمة تلبّسهما أو إباحته، وحينئذٍ فمن يقول بأنَّ الشكّ في صغرى المانعيّة لكونه غيريّاً يرجع إلى الشكّ في امتثال ذلك الغير المعلوم وجوبه فلا بدَّ له من الاحتياط بترك تلبّسهما في الصلاة وإن جاز له ذلك في غير حال الصلاة للشكّ في حرمتهما النفسيّة المحكوم فيه بالبراءة، ومن يقول في الشكّ في صغرى المانعيّة بأنَّه راجع إلى الشكّ في التكليف الزائد في المورد المشكوك فلازمه البراءة في صغرى الحرمة الغيريّة والمانعيّة الصغرويّة المشكوكة، فيجوز

ص: 429

له التلبّس بهما في الصلاة عملاً بالبراءة في حرمتهما الغيريّة المشكوكة.

مقتضى الأصل في الشكّ السببي في كون المكان أو اللباس مغصوباً

وفي الخامس تتفرّع المانعيّة على كونه ملك الغير، وحينئذٍ فإذا شككت في مكان أو لباس أنَّه لك أو لغيرك فإن ثبت بأصلٍ أو أمارة كونه لك فلا إشكال، وإلّا فلا يجوز لك التصرّف المتفرّع عليه مانعيّته للصلاة، والوجه في ذلك: أنَّ إباحة التصرّف في الملك إنَّما هي متفرّعة على كونه لك وإلّا فلا إباحة فيه أصلاً؛ لأنَّ الإباحة الأصليّة الأوَّليّة في الأشياء لا تكون في الأملاك، والإباحة الثابتة فيها متفرّعة على كونها ملكاً لك، فإن ثبت كونه لك وتحت سلطانك فتتفرّع عليه إباحة تصرّفك لكونه من لوازم سلطانك، وإن لم يثبت سلطانك عليه فلا تثبت فروعه ولوازمه.

ولا يتوهّم أنَّ ذلك من قبيل الشبهة البدويّة التحريميّة، فكما أنَّك إذا شككت في حرمة شيء من جهة الشكّ في موضوعه كالمائع المشكوك كونه خمراً فيحكم بإباحته، كذلك في كون شيء ملكاً لك أو لغيرك، فقد شككت في حرمة التصرف وإباحته فيحكم بالإباحة حرفاً بحرف.

والسرّ فيه: أنَّ الحرمة تحتاج في الحكم عليها بإثبات موضوعها في مرحلة الظاهر وإلّا فبمجرد الاحتمال لا يحكم عليه، بخلاف الإباحة فإنَّه لا تحتاج في الحكم عليها بإثبات موضوعها في الظاهر، بل يكفي احتمال وجوده في الحكم بإباحته، ولذلك يحكم في المائع المشكوك كونه خمراً أو مائعاً آخر بإباحته لاحتمال وجود المائع الآخر، كذلك يحكم في ما نحن فيه بإباحة التصرّف بمجرّد احتمال وجود موضوعه.

وجه فساد التوهّم: ما عرفت أوَّلاً: أنَّ الأشياء التي على الإباحة الأوَّليّة والرخصة العقليّة الأصليّة لو شككت في ورود منع فيها عن قبل الشارع - سواء شككت في كبرى

ص: 430

المنع أو بعد العلم بالكبرى شككت في صغراه في مورد خاصّ - فلا ترفع اليد عن إباحته الأوَّليّة الثابتة فيها في نفسها بمجرّد احتمال ورود المنع إلّا إذا ثبت فتأخذ به دون ما لم يثبت.

وخلاصته: أنَّ طرفي الاحتمال في الشبهة إن كان هو الإباحة الأوَّليّة الثابتة في نفسها والحرمة العرضيّة الثانويّة الواردة عليها من قبل الشارع، فلا تدري أنَّ الإباحة الأوَّليّة محفوظة باقية على حالها أو ارتفعت بورود المنع الثانوي عليها، فحينئذٍ لا ترفع اليد عن الإباحة الأوَّليّة الثابتة في نفسها بمجرّد احتمال ورود المنع إلّا إذا ثبت، وهذا هو الملاك في جريان البراءة في الشبهات التحريميّة بل الوجوبيّة صغرويّة أو كبرويّة.

وأمَّا إذا كان الحكم الأوَّلي الثابت في موردٍ هو الحرمة في نفسها إلّا لأسباب خاصَّة موجبة لعروض الجواز لأجل تلك الأسباب فحينئذٍ لا ترفع اليد عن الحرمة الأوَّليّة الثابتة فيها في نفسها بمجرّد احتمال عروض سبب الجواز على العكس من المفروض الأوَّل.

وهذا هو الوجه في عدم إجرائهم البراءة عند الشكّ في التحريم في كلّ ما هو من هذا القبيل - كما عرفت في الأعراض والنفوس والأموال - فإنَّ الإباحة الثابتة فيها ليست من باب الإباحة الأوَّليّة النفسيّة حتى تكون الحرمة الثابتة فيها حرمة عرضيّة ثانويّة واردة على الإباحة الأوَّليّة، بل الأمر على العكس من ذلك وكون الحرمة ثابتة فيها في نفسها والإباحة عارضة عليها لأسباب خاصَّة، فحينئذٍ لا ترفع اليد عن الحرمة الأوَّليّة الأصليّة بمجرّد احتمال عروض سبب الجواز، فالملك بما هو ملك إنَّما هو داخل في حريم مالكه وتحت سلطانه ليس لأحدٍ التصرّف فيه إلّا بإذن مالكه كائناً من يكون، فإن ثبت كونك مالكاً له يكون داخلاً في حريمك وتحت سلطانك، وإلّا فلا يجوز لك الدخول في حريم المالك بمجرّد احتمال كونك هو المالك.

ص: 431

مقتضى الأصل في الشكّ السببي في كون البدن أو اللباس متنجساً

وأمَّا السادس فالمانعيّة [فيه](1) متفرّعة على النجاسة، وحيث إنَّ الأصل فيها الطهارة إذا لم يكن استصحاب موضوعيّ في البين فالمانعيّة مرتفعة ظاهراً بارتفاع النجاسة في الظاهر.

عدم جريان أصالة البراءة في الشبهة المصداقيّة للقاطع

هذا كلّه في النواهي الغيريّة المعبّر عنها في لسان الفقهاء بالموانع، وأمَّا ما يعبّرون عنها بالقواطع - كالضحك وكلام الآدمي والفعل الكثير والأكل والشرب و البكاء على الدنيا والحدث والاستدبار - فالظاهر في الكلّ أنَّ كونها قاطعة إنَّما هو من جهة اعتبار صفة وجوديّة في الصلاة يكون وجود كلّ واحد من تلك الأمور مضاداً معها، فتكون مبطلة من جهة منافاتها مع تلك الصفة كما هو واضح في الحدث والاستدبار.

وحينئذٍ فإذا شككت في صغرى القهقهة أو كلام الآدمي وهكذا في البواقي فمقتضى العلم باعتبار تلك الصفة الخاصَّة شرطاً أو جزءً وجوديّاً في الصلاة في كلّ قاطع بحسب ما يقابله هو إحراز وجودها، ولا يحصل إلّا بترك كلّ ما يحتمل أن يكون من مصاديق تلك الأمور.

نعم, لو كانت القواطع من قبيل الموانع محرّمات غيريّة في الصلاة لا من جهة كون كلّ واحد منها مضاداً مع صفة وجوديّة اعتبرت في قوام الصلاة شرطاً أو جزءاً، بل كان قوام الصلاة في وجودها وتماميّتها في نفسها بأجزائها وشرائطها الوجوديّة من غير مدخليّته لتلك القواطع في تقوّم الصلاة وتأثيرها في نفسها أصلاً، كما هو الحال في كلّ

ص: 432


1- (فيه) ليس في الأصل, وقد أضفناه لاقتضاء السياق ذلك.

مانع بالقياس إلى المقتضي الذي يقابله، فإنَّ قوام المقتضي إنَّما هو بنفس وجوده وما يكون دخيلاً في وجوده من الأجزاء والشرائط الوجوديّة من دون أن يكون لكلّ مانع مدخليّة في تقوّم المقتضي وما يترتّب عليه من الآثار وإنَّما هو مضرّ ومخلّ في ترتّب أثر المقتضي عليه، فلذلك اعتبر عدمها لا من جهة كون عدمها مؤثراً في قوام المقتضي.

وعلى هذا فالقواطع أيضاً كالموانع أمور يكون كلّ واحد منها مخلّا ً في ترتّب أثر الصلاة عليها، فلذلك اعتبر عدمها لا من جهة أنَّ عدمها مقارن مع صفة وجوديّة اعتبرت قيداً وجوديّاً في الصلاة، وعلى هذا تكون الصلاة عبارة عن أمور وجوديّة شرطاً أو شطراً بها قوام الصلاة، وعن أمور أخرى يكون وجودها منافراً ومخلّا ً لترتّب أثرها عليها فاعتبر عدمها، وحينئذٍ يكون التكليف بالصلاة عبارة عن أوامر خاصَّة متعلّقة بتلك الوجوديّات التي بها قوام المركّب وعن نواهٍ متعلّقة بكلّ ما يخلّها وينافرها من غير فرق في ذلك بين الموانع والقواطع، وحينئذٍ يكون الشكّ في صغرى كلّ واحد منهما شكّاً في تعلّق النهي بها في الصلاة على حذو الشكّ في جميع الشبهات الموضوعيّة المحكوم فيها بالبراءة.

لكن الظاهر أنَّ القواطع ليست من قبيل الموانع، والتفصيل في كلِّ واحد منها واستفادة الصفة الوجوديّة الخاصَّة المعتبرة في الصلاة التي يضادها في الفقه. والحمد لله على الفتح [والختم](1).

ص: 433


1- لم ترد لفظة (والختم) في الأصل، ولكن حُكي عن المؤلّف (طاب ثراه) أنَّه كان يكرّر في أذكاره (الحمد لله على الفتح والختم). (يلاحظ وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول: 1/12 المقدّمة ) ولمّا كان ذكرها مناسباً لختام الرسالة فالمظنون سقوطها عن قلم الناسخ.

مصادر المقدّمة والتحقيق

1. أعيان الشيعة, السيد محسن الأمين, تحقيق وإخراج السيد حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات, بيروت - لبنان.

2. أنوار العلم والمعرفة, الشيخ محمَّد إسماعيل المحلّاتي، ط حجر 1342ﻫ, النجف الأشرف - العراق.

3. تنقيح الأبحاث عن أحكام النفقات الثلاث, الشيخ محمَّد إسماعيل المحلّاتي, ترجمة المؤلّف بقلم السيد هاشم الرسولي المحلّاتي، مطبعة الحكمة 1383ﻫ, قم - ايران.

4. تهذيب الأحكام, الشيخ محمَّد بن الحسن الطوسي, الناشر: دار الكتب الإسلامية, 1377ﻫ, ط2 النجف الأشرف.

5. التوحيد, الشيخ الصدوق, تصحيح السيد هاشم الحسيني الطهراني, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم.

6. الحبل المتين، الشيخ بهاء الدين محمَّد بن الحسين بن عبد الصمد العاملي، الناشر: مكتبة بصيرتي, 1390ﻫ, قم - ايران.

7. الخلاف, الشيخ محمَّد بن الحسن الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم, 1407ﻫ, قم - إيران.

8. الدرّة النجفيّة, السيد محمَّد مهدي بحر العلوم، الناشر: دار الزهراء, 1406ﻫ, ط2 بيروت - لبنان.

9. الذريعة إلى تصانيف الشيعة, الشيخ آغا بزرك الطهراني, الناشر: دار الأضواء, 1403ﻫ، ط3 بيروت - لبنان.

10. طبقات أعلام الشيعة (نقباء البشر في القرن الرابع عشر), الشيخ آغا بزرك الطهراني، المطبعة العلميّة 1373ﻫ, النجف الأشرف - العراق.

ص: 434

11. فرائد الأصول, الشيخ مرتضى الأنصاري، الناشر مجمع الفكر الإسلامي 1419ﻫ, قم - ايران.

12. في حكم الصلاة في اللباس المشكوك بقلم أحد تلامذة الميرزا محمَّد حسن المجدّد الشيرازي المطبوع منضمّاً إلى الجزء الثاني من (كتاب المكاسب والبيع) تقرير المحقّق النائيني للعلّامة الشيخ محمد تقي الآملي 1413ﻫ, قم - ايران.

13. الكافي, محمَّد بن يعقوب الكليني, تحقيق: علي أكبر الغفاري, منشورات دار الكتب الإسلامية, 1379ﻫ, طهران.

14. كتاب الاستصحاب, تقرير أبحاث الشيخ ميرزا محمَّد باقر الزنجاني، بقلم السيّد مرتضى النجومي (المقدّمة)، 1429ﻫ, ط1 قم - ايران.

15. گفتارخوش يارقلي,، شيخ محمد بن إسماعيل محلاتي غروي تصحيح هدايت الله مسترحمي (المقدّمة) بقلم السيد شهاب الدين المرعشي النجفي منشورات فرهاني 1343ﻫ ش, ط تهران - ايران.

16. گلشن أبرار مجموعة في تراجم علماء الإسلام باللغة الفارسية بقلم جمع من المحققين ج9 (ترجمة شيخ إسماعيل محلّاتي بقلم نور الدين علي لو)، ط قم المقدّسة.

17. الصلاة في اللباس المشكوك, الميرزا محمَّد حسين الغروي النائيني، نسخة مخطوطة مصحّحة بقلمه الشريف من مقتنيات مكتبة السيد علي الحسيني السيستاني في النجف الأشرف.

18. مجمع الفائدة والبرهان, المولى أحمد بن محمَّد الأردبيلي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم, 1403ﻫ, ط1 قم - ايران.

19. مدارك الأحكام, السيد محمَّد بن علي الموسوي العاملي، الناشر مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث 1411ﻫ, ط1 قم - ايران.

ص: 435

20. مستدرك وسائل الشيعة (الخاتمة), الميرزا حسين النوري, تحقيق: مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث, 1415ﻫ, ط 1 قم.

21. منتهى المطلب, العلّامة الحسن بن يوسف بن مطهر الحلي، الناشر: مجمع البحوث الإسلامية 1412ﻫ, ط1 مشهد - ايران.

22. جواهر الكلام, الشيخ محمَّد حسن النجفي, تحقيق الشيخ عباس القوجاني، دار إحياء التراث العربي, ط7 بيروت - لبنان.

23. وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول، تقرير السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني، بقلم الميرزا حسن السيادتي السبزواري، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم, 1422ﻫ, ط1 قم - ايران.

ص: 436

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.